السيولة والتفكيك في «قطر الندى» لمصطفى عطية جمعة

حجم الخط
0

لا غرو، في أن كل كتابة تنطلق من مجموعة من الهموم والانشغالات المرتبطة بالسياق السوسيو- ثقافي، وهي الطريقة التي يتم بها استنطاق الواقع بالوقوف على بعض جزئياته وأبعاده ودلالاته الرمزية، بهذا المعنى، تمثل أمامنا المجموعة القصصية «قطر الندى» الصادرة عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام – القاهرة للكاتب والناقد مصطفى عطية جمعة، المجموعة تقع في 208 صفحات من القطع المتوسط، وتتضمن اثنتين وعشرين قصة قصيرة، موزعة على خمسة أقسام، وبما أن الإنسان دائم التفكر والنظر والتدبر والبحث، فهو بطريقة غير مباشرة لا يكتفي بما هو معطى، بدون تمحيص ولا رقابة، من خلال تجاوز منطق الرضا بالأشياء السطحية، كون الذات الشيء الذي يقض مضجعها دائما يتمظهر في اللهاث وراء الغرض من وجودها، والاستفسار حول الأشياء التي تحيط بها، وتبعا لذلك، فالحياة كما يصورها لنا القاص داخل المتن الحكائي اجتاحتها السيولة بتعبير زيجمونت باومن، فانتقل المجتمع المصري من حالة الصلابة إلى حالة السيولة التي قامت بتفكيك كل ما هو محافظ وإنزاله من على العرش، في ظل تفاقم أوضاع ومظاهر العولمة، التي سحقت تلك الهوة الموجودة بين المثال والواقع الذي أطاح بجملة من القيم والمبادئ، التي ظلت ردحا من الزمن تقيم علاقة ديالكتيكية متبادلة في أعلى مستوياتها داخل الواقع المعيش.

الزمن كحالة انتقالية استهلاكية

يحلق بنا الكاتب مصطفى عطية جمعة في عمله السردي، نحو أجواء الواقع الشعبي، حيث يرى أن الزمن الحاضر أضحى يعيش تشظيا بسبب العولمة، التي ما فتئت تحرر الذوات من المفاهيم والحقائق والمقدسات إذ ألقت بظلالها على الذهنية أو العقلية المجتمعية، وباتت تفرض نمطا من العيش والحضور الخاضع لتجارب الحياة اليومية، من هنا، تبرز أهمية الشخصيات الموظفة في جسد النص، من خلال تأويل حركة الفعل الاجتماعي، ففي أحد عناوين هذه المجموعة القصصية «يا ورد على فل وياسمين» يشير الناص إلى شخصية صفاء من خلال زواجها من محمود ابن بائع الكرشة، كيف أن طقوس العرس طرأت عليها بعض التغيرات التي أخلت بمجموعة من المبادئ والقيم داخل هذا المجتمع المحافظ، ويظهر ذلك جليا في نوعية الخطوبة التي تخطت حواجز العرف السائد والمعتاد، بطلب يدها ضمنيا من حصة تلفزيونية تحت عنوان ما يطلبه المستمعون، فيرصد الكاتب حالة ضياع الأنا، التي تعبر عن أزمة هوية حقيقية، وتحيل إلى زمن التمرد النابع من أعماق الذات، التي تساهم بشكل أو بآخر في زعزعة المنظومة الثقافية عبر سلوكيات وتصرفات منحرفة، لذلك، فعنصر المفاجأة يطالعنا في قول السارد «نزلت العروس صفاء، يلمع وجهها تحت أضواء المصابيح الملونة التي غطت البيت، لم أصدق: أهذه صفاء التي كانت تبيع الفول في محل أبيها؟ وتربط رأسها بإيشارب قطني؟ تزوجت من محمود ابن بائع الكرشة، بعد قصة حب وخطابات، ومنها خطاب لبرنامج ما يطلبه المستمعون».
وفي قصة «شوكولاته وأنّات» أشار الكاتب إلى نقطة في غاية الأهمية، التي يغفل عنها الكثير من الناس، لما لها من أخطار بالغة التأثير في الكينونة والوصلات الإشهارية والإعلانية، التي ارتبطت ارتباطا كبيرا بتطور وسائل الإعلام والاتصال، فغدت جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية، كما عدت حلقة مهمة وهمزة وصل بين المنتج والمستهلك، إذ تتوزع بين المكونات اللسانية والأيقونية، أو الصورة والرمز والموسيقى والإيقاع واللون والأداء والحركة… ويتعلق الأمر، هنا، تحديدا في غرس قيم ومبادئ دخيلة يتعمد الإشهار زرعها في المجتمع، قصد تحقيق أهداف مرسومة، فالقاص يكشف لنا هذا الزيف والانحراف في المقطع السردي الآتي «وهذا إعلان البقرة الضاحكة، بلهجة الشوام، أطفال ونساء يلعبون في مساحات خضراء شاسعة، فيها أحواض زهور لا تنتهي، وأشجار متنوعة، كأنها الجنة، الخضرة الزاهية تبرز بياض بشرتهم، والكل يزيل الغلاف الفضي من الجبنة، ويلتهمها. أتعجب من سعادة وجوههم وهم يضعون الجبن في شطائر الخبز، متلذذين بطعمها، على الرغم من أنني أكلتها عشرات المرات، ولم أشعر بهذا التلذذ، لكن الإعلان لا ينقطع».

المظاهر الخارجية التي خرقت المألوف جعلت من الأنا الساردة تطرح جملة من الأسئلة كمدخل يستوقف الذاكرة عبر نقاش يسائل الذات، مقابل علاقتها بمفهوم الجوهر عن طريق استحضار الماضي في امتداداته التاريخية وربطه بالحاضر

تشكيل الوعي والذوق العام

فالإنسانية من هذا المنظور، لم يعد فيها الاستهلاك يقتصر على الجوانب المادية من خلال النهم والإشباع الفوري المؤقت للرغبات والشهوات، بل أضحى يطال الجوانب المعنوية انطلاقا من استهلاك العواطف والمفاهيم والعلاقات الاجتماعية ذات الروابط المتماسكة عقليا ووجدانيا، في صورة تصبح فيها الحياة خالية من كل المعاني والدلالات، بحيث تقضي على كل تصور قبلي وفكر تقليدي، يضمن للذات هويتها ومعالم شخصيتها وتماسكها، لما تحمله الوصلات الإشهارية والإخبارية والإعلانية من شحنات ودلالات متوارية، تعمل على بلورة الرأي وتشكيل الوعي والذوق العام، وفي تقويض العادات والتقاليد، التي يتعارف عليها المجتمع الواحد، من خلال التأثير في ثقافات الشعوب السائدة، وتوجيهها من زوايا متعددة، لهذا، فالحقل الدلالي المتضمن في الوصلة الإشهارية، يركز على عنصر المرأة أكثر من الجبنة (نساء يلعبن في مساحات خضراء شاسعة، الخضرة الزاهية تبرز بياض بشراتهن) لأغراض وغايات يريدها بطريقة مراوغة ومخاتلة تحرك في الإنسان تلك الرغبات والشهوات الدفينة، المتمركزة في منطقة اللاشعور، فتتفجر فيه تلك الطاقة الحيوانية بطريقة غير مباشرة، إذ يتم فيها الانتقال من الإيحاء والتضمين الذي اجتاح الكينونة، إلى حالة التعيين والتجسيد من خلال تبخيس القيم العليا، بالقضاء على العقل المركب ومخاطبة الإنسان في بعده الواحد، وهي محاولة خلق نوع من الانسجام والتجانس مع الأشياء المتناقضة والمتنافرة، التي تتعارض مع منظومة قيم المجتمع المصري العربي المحافظ، في إدراك العالم، ومن الإشارات التي تدلل على هذا الطرح أو الموقف، حسب ما يقتضيه المقام، وخصوصية الخطاب السردي قوله «أترقب ظهور المذيعة لتعلن عن الفيلم، لكن الإعلانات تتتابع، وجاء إعلان بونبون «سيما» مجموعة أطفال في عمري، نصفهم بنات شقراوات، أما الأولاد فيشبهونهن، كلهم يرقصون وهم يضعون مصاصات البونبون في أفواههم، يضحكون بصفاء، شتان بينهم وبين البنات والأولاد، الذين معي في المدرسة، هؤلاء تلاميذ مدارس اللغات التي نسمع عنها، والمخصصة لأبناء الذوات، أهؤلاء هم الذوات؟ يشبهون الأولاد الذين يمثلون في الأفلام العربية «. وقوله أيضا «فاصل إعلاني لا طعم له، لقطات عن كاميرات وأفلام كوداك لا علاقة لنا بها، فلم يحدث أن اقتنيت كاميرا، ثم إعلانات مقتضبة عن أفلام مصرية في السينما».
فالمظاهر الخارجية التي خرقت المألوف جعلت من الأنا الساردة تطرح جملة من الأسئلة كمدخل يستوقف الذاكرة عبر نقاش يسائل الذات، مقابل علاقتها بمفهوم الجوهر عن طريق استحضار الماضي في امتداداته التاريخية وربطه بالحاضر، من خلال استجلاء مشاهد وصور داخل عوالم السرد الحكائي، وبالتالي، الشيء اللافت في العمل بأشكاله ومضامينه، يطلعنا على وقائع أصبحت فيه الإرادة الجماعية في طريقها للانكماش، بتلاشي المؤسسة التقليدية من خلال فقدان الفاعلية والأدوار الرئيسية التي كانت تؤطر الحياة عبر المحفزات الروحية والأخلاقية، إذ استهدفت العولمة في توحشها الوصول إلى تدمير المخيال الجمعي بإعطاء نفس جديد للحياة، تحت حواف رؤية أنطولوجية حداثية، تندرج ضمن استراتيجية انتقائية يتآكل فيها الواجب لمصلحة الإرادة الشخصية، بحيث تطيح بكل انتماء حضاري وتمايز ثقافي وهوياتي، يجسد هذه المعاني المقطع السردي التالي: (نصفهم بنات شقراوات، أما الأولاد فيشبهونهن). وعلى هذا الأساس، فإن التوجس الحقيقي من منظور الكاتب يتجلى من خلال خسران المرء للحظات المشرقة في حياته، بتهاوي الخصوصية التاريخية والحضارية، فإدخال التقنية من باب التحديث، كحالة فرضتها أنماط التفكير السائدة، جعلت المجتمع يتخلى عن واجباته وأدواره الفاعلة، بدخوله قواعد اللعبة الحياتية المعاصرة في زمن العولمة التي عكست في جوهرها فقدان الغاية، ونشير في هذا السياق إلى الدور الحاسم الذي لعبته في التحكم في مصائر الذوات، مقارنة بالنمط المعيشي السالف، الذي كانت تتميز به الحياة في تلك الآونة، حيث عبرت النصوص السردية فـــي مجملها عن هشاشة الواقع والروابط الإنسانية، ومنظومة القيم الأخلاقية، التي ما فتئت تفقد جاذبيتها وسحرها في زمن الانخراط واللاتعقل واللامسؤول، الذي وسم العلاقة بالانجذاب والإقبال، بدون أن تعي الكينونة مخلفاته والآثار المترتبة عليه، ما أفرز حالة من حالات السيطرة على كافة المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والإعلامية.

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية