إن فن السرد الذاتي، قائم على خبرة وتجربة الكاتب في مواجهة ما يحيطه من أحداث، فالبعض يسميه النص الجامع، لما يحتويه من مواضيع متنوعة سياسية وفكرية واجتماعية ودينية واقتصادية، وجميعها تتمخض عن الوسيط ـ الذاكرة الحيّة ـ في استنطاق الأزمنة ومحاورتها وتجسيد عوالمها، والبعض الآخر يرى أنها تمثل خاصية التعبير عن الذات بشكل محض. السؤال كيف يمكن لهذا السرد أن ينفتح على إمكانيات جديدة، من دون أن يستعين بالتخيل الذاتي (الذاكرة الشخصية)؟ فمن المحال كما هو معروف في تركيب العمل الروائي أن تنغلق السيرة، ما دام أنها رجحت البوح ضمن عوالم فضاءات الرواية، كجنس أدبي قائم على عدة مشتركات فنية من خصائص ومقومات (التقنيات السردية)، شأنها أن تساهم في تحقيق وسائطها الفنية المتمكنة من اختراق سكونية الأحداث ومعالجتها، إذن لا يمكن لهذا النوع من السرد السيري، أن يدون عالمه الخاص، من دون انفتاح الذاكرة وانشطارها على محطات أخرى، وإن كانت متعلقة بالشخصية المحورية المنسوبة إلى الكاتب نفسه (المؤلف السارد).
البديهية تقول: إن كل الكتب الأدبية مهما كان تنوعها، لا بد أن تجد بصمة الكاتب فيها، وبما أن منهج السرد الذاتي هو كاشف لدور الراوي في هذا اللون من الكتابة، ونحن لا نشك في ذلك، ولكن تبقى المهارة والخبرة كما قلنا سابقا، هي من يمتحن دور الكاتب الفنان في إدارة الأحداث، مهما تشابكت تحولاتها وطبيعتها وصراعها وعلاقاتها المختلفة..
في رواية «اكتشاف الحب/أوراق من مدونتي الشخصية» للكاتب مروان ياسين الدليمي الصادرة عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ـ دمشق 2020 نجد إحدى وعشرين لوحة تغطي مساحة الرواية، التي امتدت إلى مئتين واثنتين وثلاثين صفحة، كلها تتحدث بأسلوب الارتداد السردي، أي بطريقة الفلاش باك. الزوجة بعد الرحيل المفاجئ للزوج بثلاثين يوما تتجرأ على دخول غرفته التي كانت بمثابة صومعة خاصة بحياته وأسرارها، وأثناء فتح -اللابتوب- تكتشف ملفا مخزونا على سطح الشاشة يحمل عنوان (أوراق من مدونتي الشخصية) فيأخذها الفضول لمعرفة ما كان يدونه، أو ما أراد أن يقوله في تلك الأوراق، رغم أنها تدرك أن لا أسرار في حياته، ولكن عليها الاستعداد لكل الاحتمالات، ولم يمض الوقت سريعا، حتى تكتشف عبر هذه المدونة، أنه كان يسجل تاريخ إصابتها بالسرطان، هذا المرض الذي كان واحدا من إفرازات الحرب الإشعاعية المدمرة أثناء غزو العراق من قبل الأمريكيين، الذي تعرض له العديد من أبناء الشعب العراقي، وما أعقب ذلك الغزو من أوضاع متردية، أنتجت حكومات ضعيفة وهزيلة، لم تفهم شيئا في لعبة السياسة وإدارة الحكم التي نخر بها الفساد ودوافع المحاصصة، إلى حد تفاقم الأزمات شعبيا وسياسيا، ما جعل أغلب المدن عرضه لتدخل المصالح الإقليمية، وفي ظل هذه الأوضاع الشاذة وجد تنظيم الدولة المعروف باسم (داعش) الفرصة للانقضاض على ثلاثة أرباع العراق، ومنها مدينة الموصل، وسبق إجرامه وتنكيله بالأهالي، قبل أن يدخل المدينة التي أصابتها الصدمة من هذا الحدث الدراماتيكي المفاجئ، فلم يكن أمام الزوجين إلاَّ الهروب بجلديهما من هذا الوضع الشاذ إلى مدينة أكثر أمنا، فحل بهما الرحال في مدينة أربيل ـ عينكاوا ـ وبعد أن استتب لهما المقام في المدينة الجديدة بصفة نازحين، فمفردة نازح وحدها لا تدعو للاطمئنان، ولهذا كانت الغربة النفسية تكويهما بنارها، وما كان يزيد الطين بِله الأخبار التي كانت تأتي من الموصل شحيحة، فالتنظيم فرض الخناق على الداخل والخارج، ورغم ذلك كان تسريب الصور من عمق المأساة يظهر مدى إيغال هذا التنظيم بالإجرام، لحد تقطيع أوصال العائلة الواحدة، ولم يكتف بذلك بل تمادى في سبي النساء، وعاد بالتاريخ إلى الوراء في بيع الحريم، بعد صلب الرجال وتشويه جثثهم، فأصبحت مدينة الموصل في ظل هذه الأوضاع المتردية مدينة أشباح لا يطاق العيش فيها، حتى الهروب من هذا الجحيم صار مستحيلا، بسبب الخناق المفروض على المدينة من رجالات الحسبة، ورغم كل هذه الأزمات التي تحيط بهذه العائلة الفارة من بؤس داعش، تقع الزوجة في براثن المرض اللعين، ويخبره الدكتور جمال لا بد من استئصال ثدي الزوجة الأيسر قبل فوات الأوان، فتبدأ الرحلة الماراثونية مع المرض وإشكالات التحدي بين شحة العلاج والاغتراب والسفر القسري والكاهل المادي والحيرة والقلق النفسي، فغدت هذه العوائق تدق ناقوس الحذر من المقبل.
الملف/الوثيقة:
هذا الملف تحول إلى مرآة عاكسة لمخاضات البطل الراوي، على الرغم من غيابه، فإن الأحداث تروى على لسانه، وكأنها تنبثق من جديد في عملية صيانة الكتابة لأدواتها، وأن الكتابة دائما ما تكون أكثر قدرة على مقاومة الزمن، فالراوي العليم الذي اتخذ منها مدونة شخصية/أي أنها تشكيل ذاتي محض، كما يبدو من الوهلة الأولى، بينما في الحقيقة نجد أن هذا الذاتي لم يكن محصورا، أو مقيدا لفكرة الذات الشخصية كما يبدو، وإنما انصهرت فيها الذاكرة وذابت كتابيا، وتحولت إلى فضاءات متعددة المشارب، يتداخل فيها التاريخي والاجتماعي والسياسي والديني، وبذلك يأخذ السرد انفتاحه في خضم تطورات الأحداث وأنساقه وبنياته إلى مديات أوسع، ويصبح أرضا مشتركة وميدانا للحياة بكل تفاصيلها وحواراتها ونقاشاتها، فلم تعد الممارسة السردية مكتفية بمتنها الحكائي (أي القص لغرض القص الذي يساوي المتعة والتشويق)، بل بكيفية إدارة السرد لمنظومة المحكيات، وتحفز التلقي على ما يمكن أن يتشكل مما هو خارج عنه ذهنيا وبمعنى أدق: أن السرد لم يعد مجرد وصف ولغة وبنية وأنساق، إنما هو فعل يضاهي النص ويتفوق عليه أحيانا في تصورات التلقي، فالانعكاس الجوهري لقيمة الفعل السردي أن يكون قادرا على تجسيد المعالم المكتوبة ذهنيا، فالعالم الداخلي (المقروء من النسق) لم يعد سوى إشارة إلى ما هو خارج النص (الملامح والتصورات عند التلقي).
هذه الرواية جسدت لنا رؤيا فنية معبرة عن المصائر التي واجهتها الشعوب إزاء النكبات التي تسببها مجازر الحروب، فهي وثيقة إدانة في وجه العالم الذي يدعي التحضر والتمدن ويتشدق باسم الحرية والديمقراطية الجديدة.
هذا هو ديدن الكتابة الجديدة لـ(السيرة الذاتية) إنها تستعير شكلا مناسبا، قد يبدو مظهر هذا الشكل عاديا وسهلا في القراءة، ولكن في أعماق هذه الكتابة طبقات مغلفة، وكأنها دوائر مغلقة تحتاج إلى فعالية موازية عند التلقي للظفر بمهمتها، فعندما استعارت رواية «اكتشاف الحب» عند الدليمي عالم الملف/الوثيقة (تأكيدي على أن الملف يساوي الوثيقة، هو ليس خاضعا لتبرير تمرير المادة النصية وحسب، وإنما الملف بحد ذاته يحتاج مثل الوثيقة إلى محررات نصوص، وفي هذه الحالة كلاهما متجانس ومتعاضد في احتواء الأشياء ذاتها/النص السري) أي أن تدوين الوثيقة مسبق على النص، وقد يكون سطحيا، بينما صيغة الملف يصبح في ذاكرة المؤلف (ميثاق السيرة الذاتية) وهو أيضا سابق للكتابة، وبذا يعد الاثنان على قائمة الرهان في عملية التوظيف الفني ودلالته، وإن كانا يحملان التوقع والممكن ذاته في سياق المفهوم العام لهما.
عادة ما تعرف الوثائق بأنها تحمل موضوعات ذات معلومات عامة وأدلة تاريخية، هي في منظورها العام لا تطرح تساؤلات، أو تصورات ولا تكترث لها، لأنها محكومة بقوانينها الخاصة، بينما في الكتابة الأدبية لها بعدٌ آخر مختلف كليا عن تلك الصياغة، وهذا ما ينطبق أيضا على طبيعة ما يسمى بالملف، إذ أن الكتابة الأدبية في تجنيسها الفني لها سمات وخصائص تحمل في طياتها رؤى وتصورات وأسئلة لا يمكن التغاضي عنها، وفي هذا الصدد يقول منذر عياشي، في الكتابة الثانية، يصبح أي نوع من هذه الملفات أو الوثائق بنية بين بنيتين، بنية التاريخ الذي نشأت فيه المادة، وبنية اللغة التي كتبت فيها، أي أنها تغدو بدلالتها مركبة ما بين القيمة التاريخية وانعطافاتها والمعنى المتجلي عن ذلك أدبيا، وبذلك نحصل على وظيفة التعبير عن سياقات ما يحيط بزمن الخطاب الروائي ودلالته.
إجراءات التدوين
تقسم الرواية إلى إحدى وعشرين وحدة سردية، هي بالأحرى وحدات مشهدية، كما درجت عليها السينما، وكل مشهد ليس بالضرورة متمم للآخر ولا منعزل عنه، ولكنه يتمتع باستقلالية حضوره الفني والأدبي، ما أسهم على تشكيل خطاب روائي (ميلودرامي) له القدرة على التوصيف المركز والمكثف والمختزل. ومن هذا المنطلق نستشف، أن زمن التواصل قائمٌ ومنفتحٌ على الاستدعاءات وتساؤلاتها عبر شبكة من العلاقات في ميدان التجربة الإنسانية، مثل النزوح والمرض وآثار العدوان الأمريكي وبطش داعش وسفر العلاج، وذكريات الموصل في منطقة الميدان وشارع فاروق والدواسة وسرجخانة وباب البيض وباب لكش وسوق العطارين، والعلاقة الحميمة مع الأبن الوحيد محمد، الذي جاء بعد إسقاط متكرر لطفلين سابقين، والقراءة الصامتة عبر الهاتف بين الزوجة والأهل داخل الموصل، خوفا من تلصص الحسبة والعواقب الوخيمة، إن كشف المستور، ثم التنقل الحثيث بين المختبرات حول الندب السود والفحوصات والتحاليل التي تعرض بسببها إلى مصادرة هاتفه، الذي أراد فيه توثيق معاناة الناس عبر مراسلة إحدى الصحف، وهذه المصادرة تعني تغيب الحقيقة وتكميم الأفواه عما يجري من بؤس وحرمان في دهاليز المستشفيات العائمة بالفساد.
جمرة الذاكرة
الرواية تبدو سيناريو حياة لم تنج من مطبات الأهوال التي تعصف بهذا النزوح القسري للعائلة الصغيرة، فكل شيء ونتيجة الصدمات المتكررة صار مخيفا ومرعبا، لدرجة حتى الذاكرة لم تنج انثيالاتها من سطوة هذا الكابوس، مثل فقدان زميل الوظيفة والدراسة فريد عبداللطيف، ومنظر –حفرة الخسفة – في حمام العليل الذي تكدست فيها جثث المغدورين، ومراجيح الأمريكيين المزعومة في شقق اليرموك التي تحولت إلى رماد، وتهديم جامع النبي يونس، والشقيقتين المسيحيتين وهما تغادران بيتهما إلى ناحية – كرمليس- تفاديا لاستباحة داعش لهما، حياة محبطة وعقيمة لخصتها العبارات التالية (أصبح كل شيء لا يؤسف عليه،علمتنا الحياة أن لا صلة تجمعنا مع الواقع غير الذاكرة). (نحن لسنا في زمن الفرسان، إنما في عصر تحول فيه البشر إلى تماسيح). (إني أعلن عن رأيي الصريح أحيانا دون مواربة وهذا ما يضعني في موقف محرج قد أتعرض إلى مصادمات وتجريح ـ فإن الطبع يغلب على التطبع كما يقال). فنلاحظ الذاكرة ملتهبة بمرارة البوح المشحون بالتوتر والقلق، جراء المواجهات العاصفة مع الواقع البائس.
الشيء اللافت في هذه الرواية فنيا، أن وحداتها السردية التي امتدت لإحدى وعشرين وحدة سردية، هي معادلة لعدد جلسات العلاج الكيميائي التي استمرت إحدى وعشرين جلسة.
باختصار شديد: هذه الرواية جسدت لنا رؤيا فنية معبرة عن المصائر التي واجهتها الشعوب إزاء النكبات التي تسببها مجازر الحروب، فهي وثيقة إدانة في وجه العالم الذي يدعي التحضر والتمدن ويتشدق باسم الحرية والديمقراطية الجديدة.
كاتب عراقي