الشاعر علي حبش يواصل توجيه أسئلته الشعرية القاسية من خارج البلاد إلى بغداد، بحثا عن ذكرياته القتيلة، من خلال ديوانه الجديد «شيء من هذا القتيل» عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع في دمشق، صمم الغلاف الفنان العراقي محمود شبر، والديوان عبارة عن قصيدة طويلة بطلها علي حبش وهو يعبر المحيطات ذاهبا من بغداد إلى المنفى :
بين بغداد وأقدامي
يجلس المحيط
يترقب آخر القتلى
والشاعر علي حبش يشبه شعره تماما في استعارة الضحكة لتغليف المأساة، ومعاملة الأمكنة مثل البشر، وخلط الحرب بالحياة، دون أن يقف في جانب محدد، لذا فإن علي حبش منذ ديوانه الأول «سنوات بلا سبب» مرورا بـ«صواريخ العائلة السعيدة» وديوان «مدفع جوار الباب» لا فرق عنده بين شارع المتنبي وساحة الحرب. ولكي نتعرف على ما يفعله في الحياة اليومية، علينا قراءة شعره وفك الاشتباك بين الحانة والبيت والسفر، والحرب والمرأة، وقوت الأطفال والحزن على الأصدقاء وما فعلته الحرب بمصائرهم، يقول الناقد حاتم الصكر (ينتقي علي حبش تفاصيل تتداعى خارجه وتلاحق المهاجر في مغتربه، فكلما أغلق الباب تساقطت الشظايا). علي حبش الشاعر لا ينفصل عن حياته فهو يصورها وهو يمشي في خضم حوادثها، وإن ابتعد عنها فإنه يضعها وسط غربته تخرب حياته المعيشة، لكنها ترتقي بشعره إلى الصفاء بلا زوائد، فالمدفع جوار الباب وسعادة العائلة بالصواريخ، والقتيل لم يتبق منه إلا أشياء قليلة يحاول الشعر ترميمها.
إننا ازاء معضلة نقدية لا يمكن تفاديها بسهولة، فنحن نقرأ شعرا مكانيا ووجدانيا في خليط لا يخرج من الرحم الأول، وإن استعان بمفردات معيشة جديدة، وفي ديوانه/ نصه الجديد يسير بلا فواصل في تغريبة محتدمة، فهل نقف في منطقة شعرية استفادت من المقطعية؟ أم من النص الطويل الذي امتاز به أغلب كتّاب فترة ثمانينيات القرن الماضي، في محاولة لإثبات قدرة النص على المطاولة، أسوة بأنواع الشعر السابقة العمودي والحر؟
الشاعر علي حبش يكتب النص الجديد بروح فائرة لا تتوقف ولا تأبه للشكل ولا للحضور الإعلامي، إلا بصفة الشعر، وإن اشتغل في الصحافة فإنه يفعل ذلك حتى يوفر الرغيف، علي حبش في جوهر كتابته الشعرية يعيش مشاكسا في الحياة غارقا في لجة عنفوانها، ثم يدون كل ذلك في نصوصه دون توقف. وهو في نصه الطويل هذا ينسرح نحو الغربة القسرية في طبخة شائكة من الشوق والندم والتكاثر والانقطاع بروح شعرية لا تنفصم عن منجزه السابق، في تأكيد اللوعة على الأمكنة والتجربة التي خلفها في العراق، لينتقل إلى لحظات ومشاهد فارقة في مكانه الغربي الجديد:
كلاب أنيقة تحمل وثائق
ثبوتية
تجلس بجانبي في الباص
فيما هو يودع الباص الأحمر في شارع في بغداد عابرا المحيط الأطلسي ماحيا أشواق السفر برؤية شيكاغو. لتبدأ رحلة لوعة أو لعنة الشوق للعراق، شعر علي حبش واضح لكنه قاس إلى درجة أنه
«يطلق النار في الهواء
بعيدا عن العراق»
شعر علي حبش عبارة عن صورة تتكاثر الواحدة إثر الأخرى، الشعر عنده محايثة حقيقية للحياة المعيشة، فهو يصف المعادل للواقع النفسي وتحولاته عبر الصور التي تتقافز أمامه:
لماذا
تتكاثر الأحذية على عتبة
الدار؟
لو بقي السؤال دون جواب لضاع المعنى، لكنه يتبعه بسؤال آخر، هو بمثابة جواب:
هل كل هؤلاء أبنائي؟
وهو يبادل الموتى بالنبيذ:
جورج واشنطن
يبتسم على فئة المئة
لنكولن على الخمسين
رؤساء
موتى يقودون
رغبتي
في السوق
و
بالموتى اشتري
النبيذ
وأرفع أحلامي قليلا
يظل دائما علي حبش رهين بغداد، وما هذا النص المتقطع الطويل إلا مرثية الشاعر لنفسه، فهو يدين الغربة التي يتشبث بها، خارجا من بلد مزدحم بالعلاقات إلى مربع العائلة الصغيرة ولم يعد يملك غير قدمين تجوبان الأسواق بحثا عن الجمال الأنثوي، إن هذا النص الطويل مفتاح نقدي لباب عصي يبحث عن قصيدة النثر بين السرد والشعر ويبين كيف أن الدموع تصنع شعرا.
إذا استثنينا الإهداء إلى الشاعر الكبير سعدي يوسف «إلى سعدي يوسف المعلم الأول» المقطع الشعري لرامبو»كلما حلق بعيدا ازداد الظلام من حوله» فإن مرجعيات الشاعر لا تتعدى عائلته وولادة ابنته جود والمتبقي العيون الفاحصة التي تندهش بالغرب، فترجع إلى الذاكرة مقارنة بين بغداد والولايات المتحدة «صراخ جود يشبه القذيفة يشبه صراخ الغرقى في المراكب» ثم يهرب نحو البار «نتواصل مع الخمر كأننا أصدقاء
أعقد صفقة أخرى مع الدموع
في البار
وأعود إلى المنزل
بربطة عنق سوداء
تشبه المشنقة
كل ذلك المشهد السينمائي الشعري يعطينا الحياة دفعة واحدة من الوطن إلى المنفى وهو عبارة عن ثنائية العدم والشعر في غموض القيادة ومجهولية المستقبل الطائرة تقود مصيري
إلى الهاوية
مثلما الشعر
إن وشاية النصوص تشير إلى الاعتماد على لغة وصفية غير متكلفة، والوصول إلى المعنى دون استعارات شائكة، وكأننا نقرأ، سردا تذكريا لكن بروح الشعر الصافي :
اشفق عليّ أيها الوطن
اقتربٌ قليلا من أبنائي
من وثائقي الرسمية
أريد أن أتهجاك دون دمعة
وأعبر الجسر صوب الكرخ
لكنني ابتدأ هكذا من يسار الجملة
مخففة باهتة بلا لون
هكذا يبتدئ يومي من اليسار
لا نبرة تذكرني باسمي
ومن أجل تفكيك خطاب علي الشعري، علينا أن لا نقطع القراءة لأنها سلسلة لا تقبل المناورة، ومن ثم العودة، إنها كأس خلقت للتفريغ حتى النهاية وهو نسق شعري سيري نثري بامتياز ورحلة شاعر يسحل حقيبة الذكريات من بغداد مرورا بدمشق إلى الولايات المتحدة، فكلما توغلنا في أحراش وحشته يذكرنا:
يبتدئ
يومي من اليسار
مشنوقا
خارج الحدود
لم يقدم الشاعر علي حبش أي مديح لا ليمين تلفظ اسمه أو ليساره فهو مشغول بتذكر السجن:
في السجن
كان صديقي – أبو دموع-
يحب الموسيقى
أب ينجب الدموع
يتنبأ بالمستقبل
والنزيف
وحتى رهانه على الشعر لا يمثل زواجا كاثوليكيا :
الشعر يهندس العالم قليلا
فهو لا يراهن على مسطرة كل مجدها أنها تشاكس العالم وانحرافها عن الخطوط المستقيمة .النص الطويل «شيء من هذا القتيل» عبارة عن وثيقة جواز مليئة بأختام الشعر، إذ يتقلب من غربة الروح في بغداد وعيشها الصعب إلى أختام غربة الجسد وضياع الخطى في الغرب، بروح متحسرة على ذاك الفقدان، إن حياة الشاعر هنا بندول لا يستقر ولا يتوقف إلا بخلاص آلية وجوده، فهو يتمتع بوجود قلق متنقلا من حافة إلى حافة، ولم يتبق له غير مشهد بعيد قوامه الذكرى الموجعة، ترى كم من حياة أخرى يحتاج الشاعر ليكتب نصا جديدا؟ ووفقا لكل ما تقدم فإن ديوان علي حبش «شيء من هذا القتيل» يؤكد حضوره وامتيازه في خريطة الشعر العراقي وعمله الشعري يحتاج إلى معاينة نقدية فاحصة تليق بشعره ومشاعره كإنسان وشاعر عراقي يصر على وقوفه في الصف الأول للشعر العراقي الأصيل.
شاعر عراقي