الشاعر الكويتي دخيل الخليفة: ‘قصيدة النثر’ فضاء مختلف… و’الحداثة’ تجربةُ مجتمعٍ حرّ!

الكويت ـ ‘القدس العربي’: شاعرٌ خارج التعريف، يرسم أبعاد فضائه الخاص، ولايكفّ عن محاولة اختراقه، كلّ شيء قابل لإعادة التأويل، ينحاز إلى زمنه الخاص دون أن يغادر اللحظة الرّاهنة. الشعر مساحة بحثٍ ورفضٍ لما هو سائد، ونوافذ مضاءة ومظلمة، لكنّها تظلّ مشرّعة على فضاء ذاته، والوطن أكبر من جنسيّة وجواز سفرٍ وهويّة، الوطن زمن لايعترف بحدود الجغرافية وهفوات التاريخ .
الشاعر والإعلامي دخيل الخليفة في حوار يحدّثنا عن الوطن وتجربته الشعرية وفضاء الحداثة العربية .

‘ هل أمسى الشعر ‘مجرّد رغوة مؤقتة لتفريغ الحزن’ ؟!
‘ يبدو أنه كذلك، ثمة شعور باللاجدوى ينتابني أحيانا. نكتب، فيما الدم يصبغ خارطة العالم، لمن نكتب؟ المثقفون ذاتهم يصفقون للطغاة، بعض المتلقين ما زالوا حتى الآن يظنون النصَّ مجرد شكل ثابت محشو بالثغاء. أنت تكتب وتدفع من فقرك ليشاركك الآخر ألمك! روايات سخيفة في العالم الغربي يصبح كتَّابها أغنياء خلال أسبوع، فيما المبدع العربي يغوص في الوحل كلما كان متفردا. عليك أن تقبّل يد هذا؛ وتلمِّع حذاء ذاك ليرضوا عنك. هذه الحالة لا أريد الدخول في دائرتها، لذا كان نصي تفريغا لحالة، سواء شاركني الآخر رؤيتي وأسلوبي؛ أم أعطاني ظهره.
‘ في قصيدة ‘حرية’ من ديوان ‘يد مقطوعة تطرق الباب’ تقول: ‘الحريّة ابتسامة على خرج بعير، وحدَها المدينة حالكة السواد وأشباحها تشرب الدم’. ما الذي يخشاه الخليفة في المدينة؟
‘ هنا أضعك أمام زمنين، الأول يرونه تخلفا مارسه أهلنا البدو، فيما أنه كان فضاء لحرية رائعة اقترنت بشجاعة يقينية وعادات متأصلة، رغم وجود عادات سيئة أيضا. والثاني زمن المدينة الذي اقترن بحرية غائبة رغم التزام ساكنيها بحالة تحضر. في المدينة اتسعت السجون ، وهُمِّش الفقراء وسلبت حقوقهم نتيجة غياب الفكر الحقيقي اللصيق للتحضر، الديمقراطية، العلم، الإيمان بالآخر، وتفشي الجهل والطمع والظلم والقتل المجاني، في (الصحراء) لن يناصرك أحد إن كنت قاتلا… ستهرب وتصبح (جاليا) تلجأ إلى حماية قبيلة أخرى، في (المدينة) تجد من يناصرك حتى في القتل؛ إن كنت صاحب جاه أو سلطة أو حزب.
‘ تكثر الصور المستمدة من الحياة البدوية في ديوان ‘فضاء تخرج من صحراء القميص’، هل هو تقييد لمساحة ‘زمكانية’ خوفاً عليها من الاندثار؟
‘ كانت ذاكرة، وجدتها خصبة ويمكنها أن تتحمل إسقاطات فكرية، بعضها مشاهد التصقت بطفولتي، وبعضها من وحي معرفتي وحكايات الأهل. لكن، هذه النصوص، ليست بريئة على رغم بساطتها!
‘ العلاقة بينك وبين الوطن علاقة نديّة أحياناً، تقوم على محاكمة تعريفاته الواسعة وانتقادها، تستدرجه إلى قصيدتك وتنتصر له في النهاية، ما الذي ينتظره، الخليفة، من الوطن؟
‘ يبدو لي أن الإنسان العربي، تحديدا، اعتاد السير على الأشواك برضاه، لذا ـ بحكم ثوبه التقليدي والديني ـ لا يرى نفسه خارج إطار الأرض التي ولد عليها. قلَّة من يفعلون ذلك دون ندم. لكن الوطن، رغم كونه ذاكرة، يشاركك الحركة إلى الأمام في كل خطواتك دون أن يقدم لك سوى المزيد من الرفوف الهرمة التي تضع عليها أحلامك، الوطن لا يحاسبك على أخطاء لم ترتكبها، بل يريد منك أن تتحمل وزرها أنت وأطفالك وهذه قمة القسوة!
كثيرون غادروا أوطانهم وعادوا رغم شعورهم بالمرارة، مسألة الوطن إذن تتعلق بأزمة هوية، أزمة ثقة، أزمة حياة يومية، أزمة شِلل وعصابات. قدري هو أن أنتصر له وأبحث عن معناه في داخلي؛ لأن حبه أقوى مني، وقدر المثقف الحقيقي هو هذا التهميش الذي تراه يداهم كل الصادقين.
‘ لاتخفي تأثرك بمحمود درويش ولا سيّما في ديوانه ‘أحد عشر كوكباً على المشهد الأندلسي’. أهو تأثر على مستوى اللغة أم هو تشابه القضية عند كلّ من الفلسطيني والبدون؟!
‘ درويش المدرسة الأكثر تأثيرا على الكثيرين، ولأن ‘الفلسطيني’ و’البدون’ يعيشان أزمة البحث عن هوية؛ كان تأثيره واضحا علي، شاعر أعشقه حد الإدمان، و’أحد عشر كوكبا’ أكثر دواوينه التي أدمنتها. صحيح أنني تخلصت من تأثيره فيما بعد، إلا أن شاعرا بهذا العلو، لن ينجو منه عشاقه بسهولة. ويمكن لي القول، بثقة، إنَّ جنِّيَّهُ الشعريَّ يتلبسني أحيانا حينما أكتب قصيدة ‘مدوّرة’، بينما في قصائد النثر لا رابط يجمعنا سوى جرح الهوية.
‘ هل تتفق مع من يروّج لمصطلح أدب البدون؟ وهل هنالك ملامح خاصّة لهذا الأدب؟
إنه مصطلح داخل المشهد الثقافي الكويتي، نشأ لكون هذه الفئة معزولة اجتماعيا ورسميا. لسنا من فرض هذه العزلة، فهي ‘أزمة مجتمع’ لا يشعر بالآخر، وبكل تأكيد لها ملامحها. لم يكن الأدب الكويتي يتضمن شيئا عن الهُوية، وأزمة الوجود، وقضايا تخص تعليم الطفل، وأزمة شهادات الميلاد، والعلاج، ورفض الآخر لك، وشعورك وأنت تواجه نقطة تفتيش دون أن تكون معك رخصة قيادة، وضياع حقك في الحصول على سكن، فضلا عن كون تسمية ‘البدون’ شكَّلت أزمة لوحدها جعلت الآخر ينظر لك كمتّهم لا كإنسان ربما تفوقه في أشياء كثيرة. كل هذه الجوانب لا علاقة للأديب ‘الكويتي’ بها، فهو لم يجرب مرارتها، لذا شكلت مضمونا مهما لأدب ‘البدون’ وأعطتهم تميزا.
‘ هنالك من يرى أن المرأة إكسسوار في شعر دخيل الخليفة، جزءٌ مهملُ في كلٍّ مشغول بالبحث عن هويَّة، كيف ينظر الخليفة للمرأة؟
‘ المرأة هي الوطن والهوية. ليست إكسسوارا بالطبع، فهي روح تتأصل داخلي، إنما لأنني أريدها معي؛ كانت هي ‘الوطن’، وهي الحلم الذي أعيشه باستمرار. نعم، الشاعر بطبعه عاشق، لكن كتابته أحيانا تنبت في أرض الفقد، الأرض الجرداء. الحبيبة التي تمنحه العاطفة المكتملة تقتله؛ لأنها تشبع شعوره بالفقد… لهذا أنت تراها عندي حالة منغمسة بالوطن – الحلم الذي أبحث عنه.
‘ في ديوانك الأخير ‘يد مقطوعة تطرق الباب’ تبدو منحازاً تماماً إلى قصيدة النثر، هل في هذا الانحياز اعتراف بجدارتها؟ وهل ما زالت القصيدة الكلاسيكية قادرة على التعبير؟
‘ مسألة الشكل لا تهمني؛ بل الشعر. و’يد مقطوعة تطرق الباب’ مجموعة شكلت حالات مختلفة، أسلوباً، عما سبقها، لأن قصيدة النثر تمنحك فضاء مختلفا تتحرك فيه، يشكل أسلوبك الخاص المتجرد من علائق الآخرين. كانت النصوص قصيرة ومكثفة وفيها نفَس إنساني عام، أما مسألة جدارة قصيدة النثر فهي متأصلة عربيا منذ 60 عاما، لمن يؤمن بأنَّ الشعر اقتناص حالة لا علاقة لها بالشكل، فكثير من ‘الموزون’ مجرد ‘حشو’ في شكل ثابت، لأن ‘الشعر الكلاسيكي’ يحتاج إلى ‘إضافة’ تتعلق بتقديم الجديد، لذلك تجد قلة فقط من يمتلكون الموهبة المختلفة والقدرة على تقديم المغاير في هذا النمط الكتابي… مثلما هناك كثيرون أيضا لا علاقة لما يكتبونه بقصيدة النثر. إذن، الحالتان تحكمهما شعرية النص من عدمه، وليس شكل كل منهما. لقد تغير مسار الشعر العربي ليس تغيرا في الشكل أو طريقة التعبير فقط؛ إنما في مفهوم الشعر ذاته.
‘ مارأيك بالحداثة العربيّة، وهنالك من يرى أنّها نسخة مشوّهة عن الأوروبيّة، وأنّ ملامحها الحقيقية بدأت تتشكّل مع ربيع الثورات العربية؟
‘ الحداثة تجربة مجتمع حر، تجربة حياة، لكي تكون حداثيا يجب أن يكون عقلك متحررا من نمطيته. اللغة والأسلوب ليسا كافيين لتكون حداثيا إذا كان المضمون يأخذ طابع وصاية أزلية. الأوربيون تحرروا، واختبروا حداثتهم لغة وفكرا وممارسة. هل ما نقدمه يعد جزءا من الحداثة؟ أظن أن قلة من شعرائنا ‘الكبار’ تميزوا، وهناك أصوات جديدة لها طابعها الخاص لغة وأسلوبًا، بيد أنني أشك في ممارستهم حياة مختلفة متحررة تمكنهم من أن يعيشوا تجربة مغايرة.
أما القول بأن الحداثة العربية بدأت مع ‘الربيع العربي’، فهو قول مغلوط؛ لأن الحداثة حالة إبداعية عابرة للزمن، وما حدث في ‘الربيع العربي’ يشكل ردة شعبية عارمة إلى عصر السلفية والقيم المنافية لروح الحداثة فيما يخص بُنى التفكير… بينما لم يُكتب أدبٌ حتى الآن يمكن قياس ماهيته كبنية مختلفة، إنها مجرد ارتدادات للتعبئة العامة واستنهاض الهمم، وأخرى لتوثيق الحضور ممن يعتقدون أنهم مناصري الثورات؛ أو أؤلئك الذين يشكلون خطا مضادا!
‘ القارئ بعيدٌ عن قلق دخيل الخليفة، قريبٌ جداً من قصائده، أتكون القصيدة مساحة بحْث مشتركة بينك وبين القارئ أم ملْعقة لتذوّق الجمال؟!
النص الجديد بحاجة إلى قارئ نوعي، قارئ خاص، يستمتع بنصك بمعزل عنك، أما القارئ التقليدي فهو الذي يعتقد أنك تُسمعه مفاهيم اعتاد التصفيق لها وكأنك تمثل حالته. الشعر الآن اختلف، إنه ينتج عن حالات خاصة تعكس ذاتك؛ ليتفاعل معها الآخر، ينطلق من الداخل نحو الخارج، فيما كان الشعر بمفهومه القديم ينطلق من التفاعل بين ‘حدث خارجي’ والذات الشاعرة، لذا يجد أرضية مشتركة بين الشاعر والمتلقي العادي.
يهمني جدا أن يكون القارئ قريبا من قصائدي، أما همي الذي أكتب عنه فلست محتاجا إلى تشكيل جمهور ثوري يسانده. يهمني أن يصل الشعور بالمضمون ‘الإنساني’ الذي أحاول أن أنسجه بطريقة مختلفة قد أنجح، وقد أفشل، في ترجمتها بصورة مغايرة.
‘ تكثر، في الآونة الأخيرة، الملتقيات الأدبية والمهرجانات الثقافية في الكويت، لكنّها على كثرتها ما زالت عاجزة عن تأسيس وعي شعبي بأهميّة الثقافة، كيف يمكن النهوض بالمجتمع إذا كانت الثقافة لا تعدو أن تكون حالة فرديَّة في كرنفال استعراضي؟
‘ حتى في بلداننا ‘الكبرى’ لم تكن الثقافة حالة وعي جمعي، وما زالت الثقافة الحقيقية مهمشة مقابل الثقافة الرسمية التي يفتح عبرها المجال للأدباء ‘الموظفين’، الثقافة جمهورها نوعي، نخبوي، لذا تجده قليلاً. اهتمامات الإنسان العربي تغيرت، في السابق أفضل من الوقت الراهن، الآن استشرت ثقافة ‘الموبايل’ وهي ثقافة هشة، سطحية.
النهوض بالمجتمع يتطلب حلا شاملا يبدأ من المنهج المدرسي، ووسائل الإعلام، ووزارات الثقافة، ومنظمات المجتمع المدني، ووضع المسؤول المناسب في المكان المناسب، وفي كل الأحوال فإن انتشار الملتقيات الأدبية في الكويت بدءا من (ملتقى الثلاثاء) الذي تأسس في العام 1996؛ هي ظاهرة إيجابية خرجت بالأنشطة الثقافية من المؤسسة الرسمية التقليدية إلى مكان حر، يؤمن بقيم الحداثة، ولا يعترف بأي شروط خارج الإبداع. ولعل ما يعيب الملتقيات الثقافية في الكويت هو أن أعضاءها يقتصر حضورهم على ملتقاهم فقط، وهي مشكلة عامة كما يبدو.
‘ يضع السياسي الأدب عموماً موضع الشبهة، ولا يتورع عن استخدام كلّ الوسائل الممكنة لمهاجمة الشاعر بذرائع دينية وقبلية ومجتمعية وأمنيّة. هل يكون الأدب منبراً يقف عليه السياسي في الكويت لإحراز نصرٍ ما؟
‘ الثقافة من عوامل تعرية السياسة، ودخول السياسي يفسد الثقافة، بل أن هذا السياسي لم يقدم أية خدمة للثقافة (سوى الرسمية بالطبع)، ولو نظرنا إلى خطة التنمية في الكويت التي تبارى على إقرارها البرلمان والحكومة، نجدها تخلو من أي دعم أو ذكر للثقافة… بل أن النواب يتسابقون للهجوم على أي نشاط خارج نسق تفكيرهم البدائي، لتحقيق انتصار زائف؛ فيقعون في أخطاء مضحكة كالمطالبة بمنع دخول الشاعر معروف الرصافي للبلاد بسبب كتابه (الشخصية المحمدية) أو منع (جلال الدين الرومي) من إقامة أمسية!
الثقافة تؤمن بالكشف، فيما السياسي يلجأ إلى التورية والخداع… لذا فهما لا يلتقيان!
‘ ما الذي ينتظره الخليفة من الشعر في زمن الموت المجاني، ودفتر الحضور الصباحي وقوانين المادة؟
‘ في الشعر نجد عوالمنا الخاصة، نهدم ونعيد البناء لنعثر على ذواتنا، قد نشكّل عوالم نموذجية، وقد نرفع أوتاد خيامنا داخل النص، وقد نعيش حالة سجين، وربما عصفور يبحث عن فضاء آخر… وكل هذا هروب من واقع مرير، ومحاولة لخلق توازن بين عوالمنا الداخلية وما نواجهه خارجها.

‘ صدر للشاعر أربع مجموعات شعرية :
1ـ عيون على بوابة المنفى
2 ـ بحر يجلس القرفصاء
3 ـ صحراء تخرج من فضاء القميص
4 ـ يد مقطوعة تطرق الباب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية