يعرض مسلسل “الكاتبة” في حلقات إذاعية ست، لتوثيق حدث، اعتبره البعض حدثاً تاريخياً على مستوى المضي ضمن أروقة المنظومة الغربية لتحقيق “العدالة” حيث اعتبر الأول على مستوى أخذ حكم قضائي ضد أحد ضباط نظام الأسد من عمق منظومته الأمنية الغارقة بالطائفية والإجرام وعنف الـ”دولة” حتى أذنيها، النظام الأمني وعلى رأسه الوارث للسلطة “رئيس الدولة” الذي لازال يغتصب إرادة سوريا كدولة والسوريين كمواطنين، بالرغم من أنه قتل وسحل وعذّب وشرّد وهجّر وقصف مواطنيه وغير ديموغرافية النسيج الاجتماعي، وأشعل أوار انقسام عميق بين أفراد مجتمعه، طولاً وعرضاً، بشكل لا يمكن الإحاطة بنتائجه المخيفة وبالكوارث التي تسبب بها على المستوى البشري والجغرافي والديموغرافي، وما تسبب بخلل فادح لاحق تجاه معاني الوطن والوطنية، والمعاني الجامعة الأخرى التي كان بالإمكان لم شمل المواطنين السوريين كلهم تحت عباءتها، لمواجهة أي تدخل خارجي وإبقاء النزاع شأناً داخلياً حتى استعادة الدولة من خطف النظام لها عبر عقود من الزمن، زادت عن الخمسة عقود.
مجريات المحاكمة
يتحدث المسلسل بلسان حال غالبية الشعب السوري الذي لازال خائفاً ومسكوناً بالرعب، متمثلاً بشخصية سيف، الزوج صاحب الموهبة والحس المرهف، الذي يتجنب، بشكل غامض، الخوض بأي شيء يمت بصلة لسوريا أمام زوجته الألمانية، التي تشغل منصب كاتبة في “محكمة كوبلنز”، والتي تصاب بحالة من الاستغراب والدهشة جراء تجاهل زوجها لكل ما يدور حول مسقط رأسه ومرتع شبابه وصباه، بالرغم من كل العاصفة الإعلامية التي تحيط بمأساة سوريا خصيصاً مع كل كشف جديد يتضح فيه أو من خلاله مدى الإجرام ومدى العنف الذي مارسته السلطة تجاه شعبها، أفراداً وجماعات، خصيصاً أن مجريات ومفردات المحاكمة تجري أمام ناظريها، وهي تنقل إليه يومياً دقائق مسيرها بالتفصيل الممل، والتي تم فيها بالنتيجة إصدار حكم إدانة بحق الضابط المنشق “أنور رسلان”، الضابط الذي كان مسؤولاً أمنياً مباشراً عن عمليات تعذيب للسوريين، من فترة ماضية منذ حكم الأسد الأب، وبعد اندلاع الثورة في عهد الوارث للسلطة، حتى إعلان انشقاقه، ويعتقد كاتب هذه المراجعة أن هذا هو لب المسلسل الإذاعي، ناهيك عن مرجعية الإدانة للحكم القضائي في ما سيليه ممن سيأتي عليهم الدور من متهمين.
حيث يتساءل كثيرون من العرب أو الأجانب المهتمين بالشأن السوري خصيصاً عن الأسباب الموجبة التي تدفع بكثير من السوريين المتواجدين خارج سيطرة النظام السوري لعدم الخوض في تفاصيل الجرائم التي حدثت بحقهم وحق أهاليهم ومعارفهم، وانحسار خروجهم، إلا ضمن أعداد هزيلة، للتظاهر ضده ومعاودة طلباتهم المشروعة لاستعادة دولتهم، بعد أن وهبها النظام لمن وقفوا ضد إسقاطه، وهم يتناسون الخذلان الذي حاق بالسوريين والمخاوف التي تساورهم أن المجتمع الدولي قد منح النظام السوري فرصته كي يعاود انتاج نفسه والتطهر من جرائمه، وأن السوريين قد تركوا لوحدهم وأن قضيتهم باتت يتم الإشارة اليها من قبيل “نسأل الله أن لا يصير حالنا كحال سوريا” وأن القصة في خلاصتها كانت حرباً ضد الإرهاب الذي تحدث عنه النظام السوري المجرم!
وهي خلاصة يمكن نسبها بدون شك للأنظمة العربية، روجت لها بين رعاياها، هذه الأنظمة قاومت تيار التغيير في العالم العربي في الربيع الذي كاد أن يطيح بسيل من الأنظمة العميلة والرجعية، ملكية وأميرية وجمهورية وانقلابية.
حدث استثنائي
وكأي حدث استثنائي، كان لابد من انقسام السوريين حول الموضوع، فبعض الفئات وقفت ضد المحاكمة لأن الضابط قد أعلن انشقاقه، وإعلان محاكمته هو رسالة واضحة لكل من هم في ضفة الأسد ونظامه أن يبقوا حتى الرمق الأخير مدافعين عن مكاسبهم ومواقعهم، فهم بالنتيجة لن يخضعوا لمحاكمات تضيّع أياً من سنين حياتهم وراء القضبان بحكم أن النظام السوري يمنح ضباطه وصف ضباطه وكذلك عناصره تفويضاً مفتوحاً بدون حدود لأي فعل يعزز من بقاء النظام، مهما كان إجرامياً أو مهما كان يتنافى مع الطبيعة الإنسانية وضد أي قانون أو دستور، وعليه فالمحاكمة أرست مبدأ أن جريمة التعذيب المرتكبة لا تسقط بالانشقاق أو بالتقادم، وقد كانت باباً أُوصد ضد أن يعاود أي أحد الهروب من ضفة النظام وإلا فإنه سيخضع للمحاكمة والتشهير.
آخرون ومن باب طائفي ضيق، وجدوا أن محاكمة ضابط منشق ينتمي للطائفة السنية هو اغفال ومواربة للحقيقة التي تسيطر فيها الطائفة العلوية بالنسبة الساحقة – طائفة السلطة ممثلة بكل رؤساء أفرعها الأمنية والاستخباراتية- وكأن هذا الضابط كان كبش فداء عن كل المنظومة الأمنية التي يتركز القرار التنفيذي والفعلي فيها بالطائفة العلوية، وهو أمر لا يخفى على المطلعين على الشأن السوري، وعليه فقد رفضوا المحاكمة برمتها مع مخرجاتها.
أما كاتب هذه المراجعة، وقد شارك بالمسلسل الإذاعي عبر تأدية دور “أنور البني”-وهي شخصية حقوقية كانت أحد الشهود الرئيسيين في المحاكمة- فهو من أنصار الفكرة التي تقول أن لا محاكمة جنائية ينبغي أن تجرى أصلاً خارج حدود الوطن السوري، وأن ما حدث كان مجرد مسرحية هزلية استهزأت بعذابات السوريين ومحنة المهجرين والمشردين في مخيمات اللجوء القاسية والأوجاع التي قاسوها، والكوابيس التي لازالت تلاحقهم بالتهديد بالقتل أو الاعتقال والقصف والموت في الأقبية وبحق من فقدوا من الشهداء والذين لا زالوا مغيبين في أقبية النظام السفاح والمجرم وبحق عائلات الضحايا الذين تحملوا وتكلفوا ما لا يمكن وصفه وقياسه، وحتى أن الحكم القضائي الذي خرج ضد الضابط المنشق، كان حكماً تافهاً لا يتناسب مع مقاييس العدالة السورية، بل هو يراعي مفاهيم “العدالة” الغربية، في حين أنه لابد من أحكام قاسية ورادعة تجعل كل من تسول له نفسه أن لا ينسى أنه مهما هرب من العقوبة عبر التحصن بموقعه الأمني، فإنه لا بد من مواجهة عقاب أليم يشفي غليل كل من مورس بحقه تعذيب أو استنفدت طاقته وهو يطلب الموت رحمة حتى تنتهي أزمة سلخه حياً بيد أحد أفراد الأجهزة الأمنية.
وللإحاطة بالمسلسل من قريب، كان لابد من منح كاتبة المسلسل السيناريست بشرى جود، فرصة لتتحدث عن نصها فقالت عن المسلسل ” نشأ الحماس تجاه السيناريو الإذاعي (الكاتبة) من منطقة غير اعتيادية بالنسبة لي، الحماس الذي لا يتعلق فقط باهتمامي الشخصي بموضوع الحلقات -وأقصد محاكمات كوبلنز كسابقة قانونية تخص السوريين- إنما من طبيعة النقاشات الحثيثة التي تناولت إمكانيات تحويل وقائع محاكمات مضنية وروتينية ممتدة، إلى مادة درامية إذاعية تلخص للمستمع مكامن الحدث والتحولات التي أدت إلى الحصول على أحكام نافذة تلتمس العدالة بحق المغيبين قسريًا في سوريا، ولو أنها كانت خطوات أولية باتجاه إجراءات أكثر نفاذاً وعدالة.
فريق العمل
وجدت في تلك النقاشات مع فريق العمل مساحة حميمية ومشوقة لإضافة الخيال وتحميل المزيد من الرمزيات والإشارات التحفيزية لمراقبة أحوالنا نحن اللاجئون في أوروبا، وما تعنيه بالنسبة إلينا الوقائع التالية:
أولها: حواجز اللغة وبالتالي التعبير واستقبال المعلومات، مضافًا إليها حقيقة أن المحاكمات تمت باللغة الألمانية دون توفر ترجمة فورية للحضور، بل فقط للشهود والمتهمين، وبالتالي فقد كنا نعرف صعوبة الحصول على التفاصيل في حينها وأخص بالذكر إيقاع ووقع الشهادات والمجريات للمهتمين من السوريين.
ثانيها: الفجوات الإنسانية التي نختبرها يوميًا كسوريين يتابعون نجاتهم في بلاد لا تحاول التعامل مع مشاكلنا القيمية بقدر ما تسعى لإدماج القادمين في سياق القيم الاجتماعية والثقافية الأوروبية، وهو ما مثلته علاقة الشخصية السورية الفنان التشكيلي سيف مع ذاته وماضيه المغلق قسراً، وهو يحاول متابعة حياته مع زوجته الألمانية (كاتبة المحكمة).
وآخر الوقائع التي أفضت إلى كل ذلك الحماس هو امتلاك العصا السحرية كأداة أساسية، وهي الدراما التي جعلت من الممكن تطويع المواد التوثيقية ونقلها إلى مصادرها حيث وكيف حدث ما حدث تمامًا، فكم كان مرضيًا أن نتمكن من تحويل شهادة ضحية إلى عمل درامي يقول من الحقائق ما نحتاج إلى نقله وتحقيقه مرفقًا بالدقة والواقعية.
أخيرًا وبشكل شخصي كان العبور بتلك التجربة على صعيد الكتابة يشبه عبور حقل من الألغام وذلك لضخامة المسؤولية في نقل المحاكمات بدقة دون العبث بالمجريات الموثقة من جهة، في حين كان الخوض في تفاصيل المعتقلات والضحايا والشهادات المؤلمة مرارًا أمرًا لا يخلو من المحاكاة النفسية للأوضاع اللا إنسانية التي عاشها وما زال يعيشها مغيبّونا السوريون”
أما جابر بكر، كمعد للمسلسل ومؤدي شخصية “سيف” فيه، فقال عن المسلسل ” بالنسبة لعمل “الكاتبة” هو جزء من مشروع تحويل القضايا الإنسانية والحقوقية إلى أعمال درامية صوتية أو فيديو لإيصالها الى أكبر عدد ممكن من المستمعين، بخصوص “الكاتبة” البداية كانت من متابعتي لأعمال المحكمة عن طريق بعض المقالات اليتيمة عنها باللغة العربية، وذلك نتيجة غياب الترجمة. لذا لجأت الى محاضر الجلسات التي وثقها المركز السوري للعدالة والمساءلة، وهي مكتوبة بلغة قانونية بحتة، ثم ابتكرنا شخصية ايلدا وزوجها سيف، لتحميل القضية على حوامل درامية تفتح باب النقاش حول المحكمة ومنها نرحل إلى خلفيات المحكمة والقصص التي تسردها.
لماذا المسلسل ؟
غياب العدالة ينتج “شخصية الضحية” التي يتصف صاحبها “بعدم تحمل المسؤولية فالآخرون دائما هم سبب ما يصيبه. اعتقاده أن الجميع أفضل وأقوى منه، فيغلب عليه عدم الثقة بنفسه. أيضا لا يثق بالآخرين لأنه مؤمن أنهم يتقصدون إيذاءه. وغيرها من الصفات السلبية”
إذاً، كيف نكسر هذه الحلقة التي تحاصر معظم الضحايا السوريين؟ هل محكمة كوبلنز تمثل سبيلاً لمساعدة هؤلاء الضحايا؟
إذن غياب اللغة يغيب معه حس العدالة وحضورها. غياب اللغة العربية في محكمة كوبلنز جعل من السوريين وكأنهم “جمهور عربي يتابع فيلما أوروبيا طويلا ولا يفهم منه أي شيء”. اللغة هي السبيل المثالي لاكتمال دورة السرد وإعادة الأمل بالعدالة. وضع الحدث بلغة أهله يدفع الناس للمتابعة عن قرب وكثب”.
الدراما واللغة تسد الفراغات بين الماضي والحاضر وبين المفقود والموجود. الكلام يعبر عن الدواخل والأسارير، الكلام سبيل لتحقيق العدالة بطريقة من الطرق وبالذات على المستوى النفسي. اللغة هي حاضري وماضي وسرديتي”.
إذن، نقل التجربة القضائية في كوبلنز إلى مساحة الأمل في عدالة مرتقبة من خلال “بودكاست” إبداعي يساعد في تحسين الصحة النفسية الاجتماعية، ويعيد الإيمان بالقضاء كسبيل لمحاسبة المذنبين بحق المجتمع السوري. إيصال التجربة وتفاصيلها إلى السوريين في مختلف بقاع الأرض بات ممكنا عبر نقلها باستخدام تطبيق “بودكاست” الذي بات متوفراً مع كل حاملي أجهزة الهاتف الذكية. يؤدي هذا العمل دوره النفسي الاجتماعي وبذات الوقت يعيد الحياة لمدنية الثورة السورية وثقة الناس في القانون والمجتمع الدوليين.
كاتب سوري