الشعراء في زمن المحنة

«يحافظ الشعراء على مسيرهم بتتبُع الأثر، ليحرثوا لإخوتهم ممن كُتبَ الموتُ عليهم، مساراً جديداً للتحول» (هولدرلن)
لن يكون غريباً ولا بعيداً، أن نستحضرَ محمود درويش في هذه المحنة التي يعيشها المدنيون في غزة في فلسطين، وهو الشاعر الذي استولى عليه وطنه حتى صلبه على حائط الشعر، ليُعرف بشاعر القضية، وليكون حاميها دون سلاح سوى القصيدة. جميعُنا يردد: «على هذه الأرض ما يستحقُ الحياة»، لكن كيف نكتفي ببيت الشعر هذا دون أن نكمل، إنها لسيدةِ الأرض على الأرض، أمُ البدايات، أمُ النهايات. كانت تُسمى فلسطين. صارت تُسمى فلسطين، ونحنُ، نستحقُ لأنك سيدةُ أراضينا، نستحقُ الحياة.
باستعارةٍ من محمود درويش، الذي وكأنه وجهان للكائن ذاته، وجهٌ للقضية الفلسطينية، ووجهٌ للشاعر الذي أخذ بعضَه أو كلَه الوجهُ الأول. هكذا وصفها، وأدخل صورتها يقيناً فينا، الشاعر الذي كتب وثيقة الاستقلال الوطني الفلسطيني، بعد أن آمن بقوة الشعر في مواجهة الاحتلال، الذي اعتقله جراء قصيدة، قبل بلوغه سن العشرين. ابن قرية البروة التي هُدِمَت واختفت، تحدث عن غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى، هكذا فهم المقاومة، ومن المنظور نفسه جاء رفضه لأوسلو، ولم يكن طلبه إلاَ، ألاَ يكون باب الدخول إلى الوطن واطئاً إلى هذا الحد. استحضارُنا محمود درويش في حزننا على آلام وأوجاع أهل غزة، قد يرسمُ بعضاً من إجابةٍ على تساؤل الشاعر الألماني هولدرلن في مرثيته «خبز ونبيذ، لمَ يتوجب أن يكون هنالك شعراء في زمن المحنة؟
قال فيها:
«ليست الكواكب بقادرة على فعل كل شيء
فها هي ذي تحثُ خطاها نحو الهاوية
نحو البشر»
هذا السؤال استخدمه هولدرلن كبلاغٍ عن وصوله وجوقته، متأخرين إلى العالم، كأنه يرى حالنا الآن، لكن، هل تأخرنا بوصولنا فعلاً؟ هل استَبَقَنا الحضورُ أم استبقْنا الغيابَ،
إذ، هل هناك من زمنٍ دون محنة؟

عن الحياة والموت
الخط الفاصل بين الحياة والموت غالباً ما يكون ضبابياً وغامضاً، مَن يدري أين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر» (إدغار آلان بو)
هل الموت نهايةُ الحياة؟
هل أشخاص حولنا يأكلون ويشربون ويتزاوجون، أحياءٌ أكثر من آخرين أمثال امرؤ القيس المتنبي، شكسبير هولدرلن أو سيلفيا بلاث؟ حين نتحدث عن الحياة، تتخطى أوجُهها الوجود الشخصي للكائن، فالحياة ثقافةٌ بحد ذاتها، ثقافة تعكس فن الأثر والتأثير، والقدرة على المقاومة والتغيير، مقاومة كل شيءٍ يتنافى معها ويحاول أن يقمعها، مقاومة ترسخ الرغبة الدائمة في الإبداع، حتى نصل إلى أنها ثقافةٌ تُقاوم الاستبداد، الوجه الآخر للموت. وجهٌ يقمع الإبداع ويسعى إلى فناء الجمال، وتحطيم كل ما يساعد على الحياة، هي فرصة الشخص للتعبير عن نفسه، ليقول إنه حي وربما سيبقى حياً. إننا عندما نغني ونكتب ونقول الشعر ونحب ونفرح ونبكي، نكون فقط نصنع لحياتنا معنىً دونه سيكون هناك العدم، فماذا سيبقى دون ذلك. ربما يمكن أن نسلب سقراط مقولته، لنعبر عن رغبتنا بالحياة ونقول «طالما مدنا الله بالحياة والقوة، فدعونا لا نتوقف أبداً عن ممارستها. لكن كيف نتخلصُ من فكرة أننا راحلون، فالمسرحيةُ التي نحن أبطالها ستنتهي، لكن سيأتي أبطالٌ آخرون، ربما يلبسون أقنعتنا، ربما يستعيرون بعضاً من أفكارنا، من حركاتنا من صدانا الذي كان. وهم أيضاً سينتهون، لكنَ المسرح مستمر، وخشبته حية، ونحن، كما كنا مشاهدين يوماً سنصبح أبطالها، إلى أن ينتهي وقتنا وتُسدَل الستارة وتحجبنا وراء ظل اللاعودة.
اللاعودة إلى الوراء، شكلٌ من أشكال الموت الحاضر في قلب الحياة، تهدد دائماً بجرنا إلى ما بعد الزمان الحاضر، خوفاً من مستقبلٍ لا نكون فيه، ربما يكون أجمل! المستقبل الذي لن يأتي، إلاَ على شكل حاضر، والماضي الذي ينغص وجودَنا فنستعين بمسكناتٍ كالحنين والشعور بالذنب، وكل ما نأسفُ له أو نندمُ عليه.
ولكن إذا عرفنا كل ذلك، فما حاجة الموتى لأن يخرجوا رؤوسهم من القبر، ليرَوا ما فعلنا من بعدهم، وما كنَا على وشك كتابته ولم نكتبه، لأننا خفنا من الاقتراب أكثرَ من الوجع، ومن الغياب. هل آن لنا أن نقول لمن يهمنا ما نود قوله في حياتهم، هل آن الأوان أن يُكرَم الأدباء والشعراء في حياتهم، في الحضور قبل الغياب. هل آن لنا أن نغير فكرة الموت، فإن كانت الحياة فرصةً للشخص ليقول نفسه، فهل لنا أن نستمر في التعبير عمن نحبهم، عمن نؤمن بمبادئهم إن غابوا، ليبقَ صوتهم حياً، ولننتصر على قول نيتشه: «كيف يتسنى لشيءٍ ما أن يحيا، إن كان ميتاً»، ففي الغالب، مَن يكتب عليهم الموتُ، أولئك الذين انشغلوا بالحضور، فكانوا أكثر قرباً للغياب.

هل للشعراء من رثاء
«لا تبكوا، تظاهروا فقط بالبكاء فالشعراء لا يموتون إنهم يتظاهرون بالموت « فقط» (جان كوكتو)
إذ تخيل الشاعرُ والكاتبُ المسرحي الفرنسي جان كوكتو جنازته، فلما لا يرسم خيالي صوراً أكثرَ للحياة، لما لا يحصر رسمه بالحياة، إنْ تخيلَ جنازته، فكيف لخيالي ألاَ يرسم ولادتك! ألاَ يرسم مدينتك، ألم تبني مدنك الفاخرة، على رياح مدننا المهدمة، من أين أتيت بالقدرة لتبنيَ مدينتك في الشعر، وحولنا أنقاضُ مدنِنا المهدمة، ربما فعلتَ ما قاله أحمد مطر بأن «اغتلتَ موتك وتسلحتَ بصوتك».
على سبيل المثال لا الحصر، وفاةُ شخصيتين سوريتين، أجَجت لديّ فكرةَ الموت والرثاء اللاحق له، رثاءُ بسمة قضماني التي فارقت الدنيا في الثاني من مارس/آذار العام الفائت 2023، ورثاء الروائي خالد خليفة، فالوفاةُ المفاجئة تضعنا أمام أفكارٍ وجودية، شخصية وعامة، فهل وحدهم الشعراء مَن يتظاهرون بالموت؟ أم أنَ هذا ينطبقُ على صاحب كل أثر؟
هل تُراهم تظاهروا بالموت ليسمعوا ما سيُقال عنهم؟
ليعرفوا ما كانوا ينتظرون أن يعرفوه؟
لماذا يفرض الموت علينا هذه القوة التكريمية؟
أهو انتقامٌ منه أم انتقامٌ من أنفسنا، نحن الذين أجلنا كثيراً، البوح بالحب والألم والمُراد، عندما تمكنوا أن يسمعونا ولم نكن بقادرين على أن نقول،
أم أنَ الموت يُحيي شوقاً كان خامداً فينا؟ هل نرثيهم؟ أم نرثي الوقت من بعدهم؟
وقتٌ، رُتب على وجودهم، على غياب الانتظار وعدم حسبان مرور الوقت في حضورهم، رُتب ليعاند القدر المُفضي إلى الموت، إلى الهاوية، إلينا نحن البشر. الوقت الذي لم يكترث بالحضور، كما لم يكترث بمن غاب، هكذا رتب دقائقه على أنفاسنا، وها هو يُصغي إليها جيداً كيف تنفذُ بعد رحيلهم، لتكون سريعةً ومُملة وغير ذي نغمة تضبط إيقاعها، سأتخيل ولادتك ولا أظنني قادرة على تخيل موتك، الذي لا يشبه موت أحد ولا حتى موت إله، لتكون أنت في زمن المحنة، فماذا نريدُ من الشعراء أكثرَ من أن ينقذوا حكاياتنا من أيادي الطغاة، ويخبروا بصدقٍ قصتنا، نحنُ المنفيين من الأرض، من التاريخ عندما سيكتبه مَن انتصروا على دمائنا وحيواتنا، دون أن ينتبهوا لوجودنا كشاهدين عليه، وعليهم. نعرف أنه تاريخٌ مزور، لكنهم أيضاً يعرفون، أنَ لا أحد يتذكر أمثالنا، ولا أحد سيروي قصتنا، إلاَ شعراءُ هذا الزمن..

كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية