الشعر في المنفى

حجم الخط
4

المنفى، يا لها من كلمة لمن يستبطن معناها، ويستغور أبعادها ودلالاتها المتعددة والكثيرة. فهذه الكلمة إضافة إلى ثقل المعنى، موسومة بسيميائية عالية، إنها كلمة مرآوية، لها وجوه لا تحصى، البعض يراها مخيفة، مبطنة وتحمل رموزاً وتآويل كثيرة، قابلة لوفود من الكنايات والاستعارات والإبدالات والتحوّلات البيانية، وهناك من يراها رفيقة لحياته التي شاءت الأقدار أن تكون متحوّلة ونزيلة المنفى.
من هنا الشعر والمنفى تآخيا منذ أوفيد الروماني، وصعوداً في اتجاه العصور الحديثة.
ولو أمعنا النظر في الماضي الشعري القريب لوجدنا أن العديد من الشعراء كانوا نزلاء المنفى، ففي المهاجر الأمريكية والبرازيلية والأرجنتينية، كان هناك شعراء الرابطة القلمية والرابطة الأدبية والعصبة الأندلسية.
والمهجر هو منفى أيضاً ولو كان طوعياً. وثمة شعراء العصر الحديث وشعراء الحداثة، فغالبهم اختار المنفى لأسباب اجتماعية وسياسية وثقافية في المقام الأول، كأدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وغيرهم الكثير من الشعراء العرب، الذين لا يتسع هذا المكان للوقوف عندهم، لذا سأكتفي بالإشارة إلى الشعراء العراقيين، كون المنفى كان قد منح حصّته الكبرى لهم، مبتدئاً بالشاعر محسن الكاظمي الذي طارده المحتلون الإنكليز لمواقفه الوطنية، فرحل إلى مصر ليستقر في بلاد عربية عامرة بالأدباء والكتاب والشعراء، حتى وافاه الأجل هناك. وكذلك كان الشاعر الكلاسيكي المُلهم أحمد الصافي النجفي، فهو شاعر بوهيمي عاش بين لبنان وسوريا، وعُرف بكوفيته البيضاء وعقاله الأسود وجلابيته العربية، عاش حياة متقشّفة، وفي الحرب الأهلية اللبنانية أصيب فعاد إلى العراق، ليدفن بعد عام في النجف.
لم يظهر المنفى كمفردة ذات رنين إلا في فترة الخمسينيات والستينيات ومن ثم العقود اللاحقة، وصولاً إلى وقتنا الراهن.
عُرف الشاعر محمد مهدي الجواهري بمنفاه في العاصمة التشيكية براغ، طورد في زمني الملكية والجمهورية، في العهدين الجمهوري الأول المتمثل بالزعيم عبد الكريم قاسم، والثاني المتمثل بحزب البعث وصدام حسين، فحورب في كليهما ليستقر في العاصمة براغ، وظلّ في منفاه متنقلاً إلى أن كانت خاتمة النفي في دمشق، ليرحل عن دنياه هناك عن مئة عام تقريباً، إذ كتب جلّ قصائده المهمة في منفاه، تلك القصائد التي يعدّها النقد الآن من عيون الشعر العربي.
أما رائد المنفى الأبرز، الذي كرّس مفهومة المنفى كمنفى حقيقي، في سياق الشعر العربي عامة، وأطلقها على نحو مؤلم وكئيب وحارق، فهو الشاعر عبد الوهاب البياتي، لقد أسس البياتي لكيان المنفى وأعطاه منزلة شاعرية، لكنها المنزلة المشوبة بحالة وجودية من القلق والاغتراب والاستلاب والنأي الجارح، ليطلق بعد ذلك صرخته الموجعة، التي تجسّدت لترسم معالم المنفى في ديوانه المميز، واللافت للنقد وللقراء وللعالم الأدبي «أشعار في المنفى». وعلى جري هذا البعد عن العراق، وبغداد التي أحبّها وأحب أزقتها ومقاهيها وحاناتها، أصدر البياتي أيضاً «الموت في الحياة» كنوع من المناجاة لمرابع الطفولة وفقدانها، فهو يرى في الحياة التي يحياها في المنفى بعيداً عن مكانه الأول كفعل نهاية، فهو مطرود من جنّته بسبب الطغم البوليسية والقمعية تلك التي تتحكم بمصيره ومصير البلاد، حيث أصدر في السياق ذاته ديوان «عشرون قصيدة من برلين» وموضوعه يحاكي الثيمة ذاتها «أشعار في المنفى» وكذلك سيمتد الأمر مع ديوانه اللاحق «قصائد حب على بوابات العالم السبع» إذ يعكس هذا الديوان تحوّلاته الفنية النائية والبعيدة، وهو يجوب قارّات العالم.
الشاعر مظفر النواب شاعر من طراز فريد، وذو سمعة كبيرة وواسعة بين العامة من الناس، فهو شاعر محكية لن يتكرر، وشاعر فصحى، جدد في صيغ البنية الشعرية الشاملة للقصيدة المحكية، فكان شعره بمثابة ثورة فنية في هذا الميدان، عاش حياته متنقلاً ما بين بيروت وليبيا ودمشق وباريس، ثمّ في الخليج، لينتهي في أحد مستشفياته التي رعته وحَنَت عليه بكرم باذخ، لم يرَ في وطنه ذرّة منه.
الشاعر سعدي يوسف، الشاعر المتمرّد والثائر حتى على المنافي، مجدد القصيدة العربية بعد السياب والبياتي، عاش حياة الكفاف في كلّ من الجزائر، بيروت، عدن، باريس، عمّان، دمشق وأخيراً لندن التي توفي ودفن فيها، شاعر قلّ مثيله، والزمن لم يشهد مثل قامته الرفيعة، وهي تصوغ قصيدة متعددة الأبعاد والرؤى، عاش حياة متواضعة وليس موسرة، حتى حانت ساعة الرحيل.
الشاعرة نازك الملائكة، رائدة الشعر العربي الحديث، لم تعش في العراق طويلاً، فغاردته لجملة من الأسباب، لتقيم وتعمل في ما بعد رحيلها عن العراق في الكويت مُدرّسة في جامعتها، ثم تنتقل إلى مصر التي أحبتها دائماً لتعيش وتكتب وتدوّن مسيرتها الأدبية، حتى كانت الخاتمة هناك. هي التي عاشت حياة بسيطة، بعد حياة أهلها الموسرة والمترفة أيام صباها، فكانت حياتها في مصر كافية لتدبير شؤونها اليومية، التي لم تكن يوما ذات بذخ وهناء ويسر بائن وواضح.
الشاعر بلند الحيدري غادر العراق باكراً إلى بيروت، ولأسباب سياسية طبعاً، هو الوجودي الذي لم ينتم إلى أي حزب أبداً، لكن الشبهات كانت تطارده لأنه صديق الشيوعيين من الشعراء، وبقية الرسامين والروائيين والقصاصين العراقيين، وعلى رأسهم الروائي الرائد غائب طعمة فرمان.
الشاعر بدر شاكر السياب، عاش حياة قلقة، نالها الفقر والعوز طوال مسيرته الحياتية القصيرة، لكنها كانت حافلة، ولكأنه عاش مئة عام. السياب أبدع أهم قصائده وهو على أسرّة المرض في الكويت وبيروت ودَرَمْ البريطانية. أجمل قصائده الخالدة كتبت في هذه البلدان، تلك التي بيَّن فيها حجم حنينه الجبار إلى العراق، ولو كان في العراق لما كتب هذه القصائد الخوالد، التي تعد من أهم ما كتب حتى الآن في بلاد المنافي من الشعر الحديث، لما تختزنه هذه القصائد من لهب داخلي تفور ناره في الدواخل لتفجّر هذه الطاقة الجبارة على شكل ينبوع إبداع شعري، ليس له من مثيل في تاريخ الشعر العربي المعاصر.
في هذا الحيز الذي لا يتسع للمزيد، لا يسعنا أن نعدد بقية الأسماء الشعرية العراقية المنفية التي أبدعت وأنتجت وأعطت وتركتْ إرثاً جمالياً يقاس بالعالمي، لكونه فناً جمالياً شعرياً مُضاعفاً، كتب في المنفى وقدّم رؤيته وطعمه وسمته العراقية، في سياق لغوي وتعبيري فني نادر وجديد وحارق، حتى مسّنا لهب هذا الإبداع بما وضعه من صوغ شعري مؤثر وجبار.
في سياق هذه المفهومة، أي مفهومة المنفى، التي أمست ظاهرة عالمية، بسبب الحروب والجوائح والجوع والخيبات والاحتلالات والسياسات القمعية والدموية، ارتحل الشعراء عن أوطانهم قسراً وعنوة، ليبدعوا بعد ذلك في المنفى، فكان الإبداع مضاعفاً وذا حس عال لا يضاهى، فالمنفى يمنح اللهب والشعلة الأزلية، ويضاعف الخيال والمجهود الفني، ويراكم اللوعة الباطنية، لتنتج وتكتب جمرتها المتقدة في الأعماق.
سلاماً لجميع الشعراء العراقيين والعرب، الأحياء منهم والأموات، الذين أبدعوا أشعارهم في المنفى، وتركوا للأجيال إرثهم الإبداعي الخالد، المتماهي مع الأزل.

شاعر عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فرات الفراتي:

    /(المنفى) إنها كلمة مرآوية، لها وجوه لا تحصى/ …
    المرآة حقيقة لها وجه واحد فحسب إلا إذا قابلتها بمرآة أخرى
    ولكن لتجنّب هذا الالتباس كان عليك القول:
    /(المنفى) إنها كلمة ماسية، لها وجوه لا تحصى/ …
    مع التحيات

  2. يقول سعيد عبد اللطيف:

    ولما يجب على الكاتب تجنب استخدام كلمة مرآوية هنا؟ فالعكس هو الصحيح، حيث ان استخدامها استوفى المعنى الدقيق للكلمة التي تحيلنا الى معنى أوسع من معنى المرآة ذات الوجه الواحد، وهو معنى تعدد المرايا، اي تعدد الأوجه، مع التحية.

    1. يقول فرات الفراتي:

      شكرا على التفاعل
      ولكن ليس ثمة إلماعة إلى مبنى تعدد المرايا في العبارة (إنها كلمة مرآوية)
      وعليه ليس ثمة إحالة إلى معنى تعدد الأوجه، إلا إذا ريم إقحامها جزافا –
      في المقابل معروف كذلك أن وجه الماس له أوجه عديدة بدون أي إحالة –
      ناهيك عن إشعاعاته التي تخلق للرائي أوجها أكثر تعددا أيا كان ركن النظر –
      لذا فإن عبارة (إنها كلمة ماسية) أوءم من عبارة (إنها كلمة مرآوية) في القرينة /
      مع تحيات

  3. يقول حسان:

    الشكر موصول إلى الأخ فرات الفراتي على الملاحظات الألمعية بالفعل
    وإن لم يكن ثمة مثل هذه الملاحظات الألمعية بعد الآن
    فاعلموا أن الاسم مزيف ولا شك في هذا
    / والله من وراء القصد

اشترك في قائمتنا البريدية