الشعر والحب والحرب

بعد أن حدثت كل التوقعات، وبردت أسماء الذين أحبهم في الغياب، عدت إلى سوريا. فتكت بي صفة «لاجئ»، تعبت من ارتدائها القسريّ فخلعتها عّني وعدت. عدت من وطن لا أعرفه إلى وطن لا يعرفني، نهارا، أمشي بين تداعيات الأسئلة، والإحباطات المكدسة، أحاول أن أقرأ ما تبدل في ذاتي، وما تغيّر. وفي الليل أمرّ على أخبار البلاد، وقبل أن أغرق في وحلها، أربط أحزاني بجذع شجرة النسيان، وأحاول أن أنام. كانت الحرب واضحة، وصريحة، نحن الذين خدعنا أنفسنا،، نصف قرن ونحن نبحث عن الوطن في كتابي الجغرافيا والتاريخ، وعن الوحدة العربية في المؤتمرات، وعن الحرية في الشعارات، وعن الله في المساجد، وعن العدل في المقولات، إلى أن ارتطمنا بالحقيقة، وفقدنا صوابنا. «وتحولنا إلى جزر من المنومين الذين لا يعنيهم من وجودهم سوى تلبية أسبابه البيولوجية، أسرى نهائيين لمنظومة الغرائز»، علما أن المسافة بيننا وبين تلك المفاهيم لا تحتاج سوى إلى عينين بريئتين تذهب بهما الأحلام إلى أبعد من الظلام.
كتب أحد الأصدقاء: في الحصار يصبح الحبُ ثقبَ المفتاح الذي نبصر من خلاله ما يدور خارج الحصار. لذلك تراني في كل يوم أبتكر تعريفا جديدا للحياة، لأعود من غيابك، ولا أعود، وكأنك كل الاحتمالات، يقول الشاعر الأمريكي ستافورد: «لا تعرف ما الذي سيحدث، حتى تحاول ذلك»، وقد حاولت. ولكن دون جدوى، (كأنّا خلقنا للنوى، وكأنّما/ حرامٌ على الأيام أن نتجمّعا). ثمة من يعتقد أن رصيد الإنسان من الحياة، هو رصيده من الكلمات، البعض يخلق ليقول مئة كلمة ويموت، وثمة من يقول ألف كلمة ويموت، وهناك من يقول مليون كلمة، إلى ما هنالك. بناء على هذا الاعتقاد أظن أنني خلقت لأقول لك «أحبك». وكل ما قلته قبلها أو بعدها هو مجرد تدريب على الكلام، نصف قرن وأنا أهيئ نفسي لأقول لك هذه الكلمة حين نلتقي، وحين التقينا اكتشفت أنني لم أكن بحاجة إلى كل ذلك، لقد قالت عيوننا كل ما يجب أن نقوله بنظرة واحدة. خمسون عاما من الظلم والظلمات تجرعتها، قبل أن ترفع ابتسامتك منسوب الضوء والفرح في عيني، منذ زمن طويل قرأت الكثير من المقالات عن لوحة الموناليزا، وتلك الابتسامة الباهتة، وما زالت سمعتها تتصدر تاريخ الفن التشكيلي، ماذا لو أن ليوناردو دافنشي أتيح له أن يرى ابتسامتك؟
قرأت الكثير من الشعر العربي، قديمه وجديده، وحفظت مئات القصائد، وحين رأيتك لم أجد في ذاكرتي جملة واحدة تشبه أناقة حضورك، على ما يبدو أن فريدريش هولدرلين أخطأ حين قال: «إن وظيفة الشعر هي تحويل العالم إلى كلمات».
أحد أصدقائي يكتب الرواية والقصة ولديه اهتمام بالشأن العام، منذ فترة توقف عن كل ذلك، وأصبح كل أسبوع ينشر على صفحة فيسبوك صور منازل صغيرة نائية، ويكتب تحت الصورة:» مابدي غير بيت صغير وأنت تحبيني». وأنا أيضا.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية