اهتم المنظِّر الامريكي ديفيد هيرمان بدراسة سرديات الحيوان وبالتحديد السرد الاتوبوغرافي، واستند في اهتمامه هذا إلى طروحات فلسفية ونقدية سابقة كانت رائدة في الجمع بين علم النفس والسرد الأدبي أو ما يسمى السرد النفسي، ومنها أطروحة (الشفافية الداخلية) للفرنسية دوريت كوهن. وتعد من أوائل الباحثين المهتمين بالمسائل النفسية التي تكتنف السرد الروائي. ولها في ذلك مؤلفات عدة منها العقول الشفافة 1978 وتمييز الخيال 1999 والشفافية الداخلية 1981 وفيه تتبعت طبيعة وعي الشخصيات بنفسها في الخيال وأشكال التخييل السردي في عملية التداعي والاستغراق في الأفكار والفرق بين الشخصيات الواقعية والخيالية وهي في مواجهة نفسها بنفسها وأثر ذلك في الأسلوب السردي، وما قد ينطبع به من سياقات نفسية وثقافية، كانت الدراسات البنيوية واللسانية قد أهملتها ولم تعن بدراستها.. تقول كوهن: (أحد عيوب المقاربة اللسانية هو توجهها الواضح نحو إهمال ما هو غير شفاهي في الحياة الداخلية إضافة إلى قضية العلاقة بين الفكر والخطاب) (كتابها الشفافية الداخلية، ترجمة قاسم المقداد، ص26).
وليست دوريت كوهن وحدها التي عنيت بدراسة ما أهمله منظرو السرد البنيوي المنتمون إلى مدرستي النقد الانجلوسكسوني والنقد الفرانكفوني، بل قبلها ومعها باحثون آخرون يندرجون ضمن مدرسة النقد الانجلوامريكي مثل واين بوث وجيرالد برنس وآن مانفيلد وسيلفي باترون ومونيكا فلودرنك وغيرهم. وما يميز كوهن هو أنها سعت إلى الإفادة من دمج علمي النفس والسرد من أجل معرفة طبيعة التقنيات الموظفة في السرد النفسي و(التي لها علاقة بتطور الأشكال السردية عموما، بدءا بالحضور المسموع للسارد حتى لحظة تواريه خلف الصمت، ومن التنافر بين الراوي والبطل حتى لحظة انصهار أحدهما في الآخر، ومن التباعد الأقصى بين خطاب النص السردي وخطاب الوعي حتى تقليص هذا الانزياح إلى حده الأدنى. وعن ذلك تقول: (يشير عملي الذي ينطلق من رواة يمتنعون عن الدخول في سريرة أو وعي أبطالهم لينتهي بالمونولوج الداخلي إلى ان أهدافي التصنيفية لا تتخلى تماما عن المنظور التاريخي).
ورجعت كوهن إلى مفاهيم جينيت مثل الخطاب والصيغة. وعارضتها بما عُنيت هي بدراسته من قصص رومانسية فيها (شفافية مستحيلة) يمكن التعامل معها كرموز بيد الروائي، ومن خلالها يتمكن من توصيل أفكاره؛ ووجدت في استعمال الرمز ما يشي سرديا بالافتراء، فـ(حينما يصف الروائي الحياة الداخلية فإنما يجعل من نفسه مزورا فعلا حتى لو استند إلى نظرية علم النفس والاستذكار، فهو يخلق ما أطلق عليه اورتيغا ايغاسيه علم النفس التخييلي أي علم النفس الممكن للإنسان. وهو أحد مجالات المعرفة التي عدها هذا الناقد الاسباني بمنزلة مادة نوعية للرواية) وهو ما تراه كوهن متمثلا في رواية (البحث عن الزمن المفقود) لمارسيل بروست ورواية (بدم بارد) 1966 لترومان كابوتي (1924- 1984)
ولا تقر كوهن في دراسة السرد النفسي بما ذهبت إليه نظرية الرواية حول تيار الوعي والتداعي الحر لمشاعر الشخصية من الداخل وكشف وعيها الباطن، الذي قد يتضاد مع وعيها الظاهر، بل ترى أن (الشفافية الداخلية) في الكائنات المتخيلة أمر بدهي، كان قد ألمح إليه كل من بروست وفورستر وتوماس مان واورتيغا ايغاسيه وغيرهم. وتنقل كوهن عن الناقد اورتيغا ايغاسيه قوله وهو بصدد الحديث عن بروست: (إنه انتصر على الواقعية بالمبالغة في مطالب قادها بوساطة عدسة مكبرة إلى إبراز البنى الصغيرة للحياة البشرية، ينجم عن هذه العدسة .. تشويه ما تكبره إلى حد نكرانه.. حين تطبقها على كائن متخيل شيء لا يمكن رؤيته خارج الكتب).
وانطلاقا من التضامن البحثي مع المنظرين الانجلوامريكيين، لا ترى كوهن كتابا في النظرية الأدبية سبر خلاله هذه الشفافية بعمق سوى كايت هامبرغر في كتابها (منطق الشعر) لأنها رأت أن تصوير الحياة الداخلية للشخصيات هو المعيار في التخييل وأنه يتحقق بحركتين: واحدة ظاهرة في اتجاه الواقع وأخرى باطنية مضادة في اتجاه واقع من نوع مختلف؛ فالحيوات المتخيلة تعيش حياة داخلية في النص، فيها تتكلم بمشاعر وإدراكات شخص ثالث غير متكلم. ومن ثم لا تكون روايات تيار الوعي – حسب كوهن- ظاهرة أصيلة أو جديدة، بل هي تطوير لمحاكاة الحياة الداخلية المعتادة. وشبهت هذا التطوير بالعود الدوري الحلزوني، بدءا من سرفانتس ومرورا بأرنست همنغواي وانتهاءً بناتالي ساروت.
وإذا كان ديفيد هيرمان قد أفاد من أبحاث دوريت كوهن المبكرة في دراسة إدراكات الشخصيات المتخيلة داخل السرد الروائي، فإن كوهن أفادت بدورها من فلسفة جورج باتاي الذي خصص للحياة الداخلية كتابا خاصا هو (التجربة الداخلية) وفيه أكد أن الإنسان ليس كلا، بل هو منقسم الكلية بين عالمين ظاهري وباطني، وباتاي هو القائل: (نحن لسنا كلا وليس لنا إلا يقينين في هذا العالم: يقين أننا لسنا كلا، وأننا نموت. لو كنا على وعي بأننا لسنا كلا كوعينا بأننا فانون لما كان هناك من أشكال .. أخجل من سعيي لأن أكون كلا لأني أرى ألا معنى من هذا السعي كأن يعني أن أكون نائما) ( كتابه التجربة الداخلية، ترجمة محمد العرابي، ص18)
وحدد باتاي منظوره الفكري إلى التجربة الداخلية بأنها قريبة لما نسميه تجربة صوفية أي حالات الوجد والانخطاف، وفي الأقل الانفعال المفكر فيه، المعبر عن الحاجة إلى الظهور من أجل وضع كل شيء موضع الاتهام والتساؤل دون هدنة مقبولة.
كاتبة من العراق