لم تعد الرواية بشكلها الحالي، هي الفسحة التي يعكس فيها الكاتب ما يدور في ذهنه ليقول الأشياء المتخيلة التي تمور في رأسه، بل صارت جنساً ادبياً مهماً لتحليل الحدث الذي يفترضه الروائي ويمنحه الأهمية التي يستحقها فيتلقفه من بعده المتلقي الذي يحلل هو الآخر بطريقته ومدى مشاركته وتفاعله معه. اذن هي رواية حدث تحوي صراعاً واضحاً بين مكوناتها، ما يجعلها تتميز سردياً بأنها أهم ما يتمسك به القارئ المتيقظ المكتشف لإشكاليات الخطاب الموجه من قبل الكاتب. وغالبا ما تكون الكتابة الروائية عبارة عن سرد مؤلم ومرارات متتابعة ومتعاقبة، فيترجم النص السردي شيفرات المكتوب بدلالة التأثر والتأثير للحدث نفسه. وفي غمرة القراءة الروائية لمختلف التجارب، نجد أن هوس الأحداث وتمظهراتها، لا تبدو قريبة من القارئ للوهلة الأولى، فقد تسجل اندفاعات وارتدادات تجعل من الأحداث وكأنها تحاول إخفاء ملامحها خلف متاريس التفرعات والسرد المناور، لكي تبقى دهشة الحدث محافظة على رونقها وسحرها.
في رواية «اعترافات السيدة سين» للكاتب العراقي عقيل أبو غريب، ثمة نص يحيلك إلى حدث مرسوم بعناية ويدخل إلى فخاخ الأسطر، لكنه يؤشر المفارقة والصدمة والدهشة، ويعتمد الصراع النفسي لأجل الغواية والتأثير. في هذه الرواية يمكن عدّ الصراع بين الطرفين المهمين (عماد وسما) أهم العناصر التي رسمها الكاتب في بناء السرد، كلوحة مزخرفة بتفاصيل كانت هي الأساس في بلورة الحدث الدرامي، الذي شكّل الواجهة الصادمة، وعكس الخطاب السردي المتفرع بشكله الواضح. هنا عمل الكاتب على تجميع الأحداث المتتابعة في كف واحدة، ومن ثم أراد من القارئ الحذق، اكتشاف أنماط الفكرة التي انزوت بين ثنايا السرد، وغاصت في الأعماق. فكانت السيدة (سين) هي الطرف المجهول، الذي جعل المتابع يمدّ مجساته لاكتشافها من أول وهلة، لكن الكاتب دخل مرحلة مهمة من المناورات، أخفى حقيقة السيدة (سين) التي يريد كل متابع معرفة خفاياها، ويحاول اقتناص جائزة فك شيفرتها وأسرارها. من هنا كان السرد يتتابع بطريقة عفوية وأقرب إلى النمط المتداول لكل الأعمار، ليبسط الفكرة، وبالتالي يهدي ما يريد قوله في حبكته للقارئ بكل أريحية ودون تعقيد.
السيدة (سين) التي تعترف برسائلها إلى الطرف الآخر (عماد) جعلت منه شخصا باحثا ومنقبا عن الحقيقة، وكان عليه أن يتحدى كل الظروف والاعتبارات من أجل اكتشاف السيدة (سين) التي صارت لغزا محيرا. امرأة تكتب الرسائل إلى صديق لها لكنها ليست رسائل مألوفة بقدر ما كانت رسائل فيها حفنة الغاز محيّرة عن شخصيتها وعن حياتها، فهي تعرفه عن ظهر قلب وتعرف كل حياته منذ مرحلة مراهقته حتى رجولته. تعرف عنه الأشياء التي جعلته مرتبكا ومجبرا على معرفة من يراسله. في «اعترافات السيدة سين» ثمة قصة حب مختلفة، تبدأ وتستمر بين الطرفين حين يكون اللقاء نادرا بل مستحيلاً، فتكون الكلمات المتبادلة هي الأحاسيس والمشاعر الرابطة بينهما بقوة لبناء عالمهما خارج الواقع. إن الحيرة والدهشة والذهول التي تنتاب الطرف الآخر الحائر، هي التي تلعب عليها السيدة (سين) في يومياتها معه، وتصنع معادلا ترابطيا، ترغب هي في أن يكون هو من تريد لا سواه. المفاجآت التي حملتها الرواية ابتداء من المنتصف حتى النهاية تثير الترقب والانتظار، لما ستؤول إليه الأحداث، من خلال بعض الملامح التي تتسرب عن حياتها في رسائلها، فيتخذ منها نقطة انطلاق للبحث والتقصي، داخل ذاكرته فيظل يسابق الزمن للخلاص من مأزقه الذي خلقته له الرسائل المبهمة. وربما كانت تلك الرسائل إحدى ادوات الربط الحسّي والنفسي، التي استخدمها الكاتب في شدّ أحداثه وتماسكها، فكانت سردا اضاف رشقة من ضوء إلى باقي أجزاء الرواية، وكأنها كانت هي من تجعل الأحداث مصيرية، وأكثر صدمة بينهما.
يناور الكاتب بمنتهى الفنية حين يجعلنا نبحث ونغوص في قاع الأحداث، ونتلقف سردا إضافيا عن حياتها وحياته. عن طفولة بائسة، أو طفولة مهدورة، فقد نجح الكاتب عقيل أبو غريب في اعتبار ملاحق السرد وتفرعاته مكملة للفكرة الاساسية التي أراد لها أن تكون أكثر صدمة وذهولا.. تنتمي هذه الرواية إلى روايات الرسائل التي تنحاز إلى الفئة الرومانسية بصورة مؤكدة، لأنها تصنع في كل رسالة قصة حب تجعل الطرف الآخر يغوص في التأمل والغرابة، لأنه يتعامل مع شبح لا يبدو منه سوى كلمات في كلمات. السيدة (سين) التي دوَّخت القارئ والعاشق عماد في متن السرد، نتفاجأ بانها ليست مؤلفة الرواية التي كان عنوانها «اعترافات السيدة سين» لابتسام علي، والتي كانت تحكي أحداث (سين) نفسها، والتعجب هنا صادر من حالة البحث التي انبرت (سين ) للأصدقاء بأن ابتسام علي تحكي أحداث حياتي نفسها، فتروح في حيرة واندهاش تجعل القارئ يتفاعل معها في اكتشاف حقيقة ابتسام علي. لكن الكاتب اراد أن يشدّنا إلى لحظة الاكتشاف التي يبحث عنها (عماد) جراء الرسائل التي تصله من (سما) وهي السيدة (سين) نفسها.. حين صدمنا بحقيقة السيدة سين (سما) التي كانت تكتب الرسائل إلى (عماد) وهي من كتبت رواية «اعترافات السيدة سين» وكتبت على الغلاف ابتسام علي: (قرا عماد العنوان بصوت عال: اعترافات السيدة سين تأليف ابتسام علي..
ـ تصفح الرواية جيدا ستجد رسائلك التي بعثتها للسيدة سين كلها موجودة هنا.. إذن من كتب الرواية؟
ـ انا من كتب الرواية.. أنا ابتسام علي..) لكن لحظة الترقب المتصاعدة هي من تتحكم بالمصير، الذي يجهلان رسم شكله النهائي (عماد وسما) فصار لزاما على الكاتب أن يُظهر المفاجأة ويلم خيوط اللعبة بنجاح، فخلق نوعا من الدهشة المغلفة بسحر الرسائل وقوة تأثيرها على الطرفين.
رواية «اعترافات السيدة سين» كانت بمثابة لعبة سردية احتوت على عناصر التشويق وبيان جمالية السرد منذ بدايتها حتى صعقة النهاية، التي جعلتنا ننفض غبار الحيرة ونستسلم لما أراده الكاتب عقيل أبو غريب في لعبته السردية المعجونة بطريقة قوالب الحلوى التي قدمها لنا مع كل رسالة من السيدة (سين) إلى (عماد) الغائب الحاضر. إن أزمة المشاعر لا يمكن وصفها بكلمات وفق المتخيل السردي الذي يضعه الكاتب، ما لم تلعب قصة الحب النادرة دور المخلّص من الدوامة والفخاخ التي باتت تلاحق الأطراف كافة في الرواية، بعد عملية الاكتشافات الخطيرة والاعترافات التي أفاضت فيها السيدة سين لعماد ولنا نحن القراء… «اعترافات السيدة سين» رواية للكاتب العراقي عقيل ابو غريب، صدرت عام 2024 بواقع 146 صفحة من القطع المتوسط ضمن منشورات دار سبك في العراق..
كاتب عراقي