الصراع الروسي العثماني يمر عبر النمسا

كان للعديد من العوامل دورها في تشكيل ملامح الصراع الروسي العثماني الممتد إلى بدايات القرن العشرين، إلا أن شكل العلاقات بين الطرفين وبين القوى الأوروبية على اختلافها بدا وكأنه قد تبوأ موقع القلب من تلك العوامل، خاصة تلك القوى التي اشتركت بشكل مباشر في صراعات النفوذ على المنطقة الأوراسية، أو مناطق النفوذ العثماني في شرق وجنوب شرق أوروبا، وهو ما كانت تتشكل على أساسه تحالفات وتُنقض أخرى. وعلى رأس تلك القوى كانت النمسا أو الإمبراطورية النمساوية المجرية التي كان لها نصيب الأسد من الصراعات القائمة في شرق أوروبا ضد العثمانيين قبل حتى ظهور روسيا على الخريطة الدولية فضلا عن دخولها إلى ساحة الصراع الأوروبي كمنافس جديد له ثقله في توازنات القوى القائمة في القارة.
وإذا نظرنا سريعا على تاريخ صراعات النفوذ بين القوى الثلاث، سنجد تباينات أحيانا تكون حادة حسب الوضع الدولي لكل قوة منها وخريطة الصراع وشكله على الأرض، فمثلا كان التقارب الحادث بين روسيا والنمسا في البداية قائما على توافق المصالح بينهما على حساب العثمانيين الذين كانوا لايزالون يحتلون مكانة متفوقة بين قارات العالم القديم، فضلا عن قوتهم التي كانت لاتزال قادرة على مقارعة أكثر من قوة على جبهات عدة، أما عندما استفحلت روسيا وامتدت بنفوذها إلى شرق القارة وصارت تهدد مناطق نفوذ أخرى، تغيرت خريطة التحالفات فوصلت في بعض الأوقات إلى العداء السافر بين روسيا والنمسا، وتقارب من جهة أخرى بين إحدى القوتين وبين العثمانيين.

تقاسم الغنائم

هكذا، وبالعودة إلى عام 1736م، سنجد أن روسيا لم تبدأ حربها على العثمانيين سوى بعد أن تأكدت من وقوف النمسا في صفها ودخولها إلى الميدان في الوقت المناسب، وذلك في الاتفاق السري الذي أبرمه الطرفان بعد تعاونهما في حرب الإرث البولندي، حيث وعد الإمبراطور النمساوي بالانضمام إلى أي حرب روسية عثمانية تُقسم غنائمها مناصفة، وعليه يكون الضغط من الجبهتين هو عامل الحسم الذي من شأن الروس الاعتماد عليه إذا لم يحرزوا بمفردهم النتيجة المرجوة للحرب. وقد أقرت النمسا في ذلك الاتفاق بحصول الروس على القرم وآزوف، في حين أقر الروس حصول النمساويين على البوسنة والهرسك. ورغم أن عقد الاتفاق بين الطرفين بهذه السرية كان جديدا في تاريخ العلاقات بينهما، إلا أن تعاونهما في الإطار الأوروبي ضد العثمانيين كان له جذوره الممتدة إلى حرب “التحالف المقدس” (1683-1699م) التي انتهت بسلام كارلوفيتز، تلك الحرب التي كان لايزال تأثيرها حاضرا في النصف الأول من القرن الثامن عشر، سواء من الناحية السياسية أو العسكرية.
كان ارتداد العثمانيين عن العاصمة النمساوية فيينا عام 1683م، إيذانا بتحول النمساويين من الدفاع إلى الهجوم، فبدأوا بالتقدم تباعا في المجر العثمانية، ليسقط معظم الشمال المجري في قبضتهم بين عامي 1684 و 1685م، إلى أن استولوا على مدينة بودا (حاليا بودابست) نفسها في حزيران/يونيو 1686م، تلتها معظم الأراضي الواقعة شمال نهر الدانوب، نتيجة للإرباك الذي أحدثه الضغط على جبهات متعددة في نفس الوقت، أهمها الجبهة الجنوبية من البندقية، والجبهة الشمالية من بولندا وروسيا، وهو ما دفع الهابسبورغ النمساويون إلى استغلال التشتت العثماني ومواصلة التقدم، فخرقوا خط دفاع الدانوب خلال صيف عام 1688م، واستولوا على بلغراد في 8 سبتمبر/ايلول 1688م، ليفتحوا بذلك الطريق إلى البلقان، التي بدأت تشتعل فيها ثورات محلية على العثمانيين دعما للتقدم النمساوي، كل ذلك كان دافعا للسلطان سليمان الثاني إلى الموافقة على الإقرار بالوضع الراهن في مقابل السلام من كافة الأطراف المهاجمة لأراضي الإمبراطورية.
وبينما كان السلام كذلك فرصة للنمساويين الذين شعروا بالتهديد الفرنسي من جديد على جبهتهم الغربية، لم يكن الخيار الأمثل لحلفائهم على الجبهات الأخرى، وهو ما أدى إلى تعثر مفاوضات السلام في صيف 1689م ومواصلة النمساويين للقتال على جبهة البلقان، حيث توغلوا في البوسنة وبلغوا نيش التي استطاع المتمردون الصرب إخضاعها لصالحهم في نفس العام، وبدا أن العثمانيين سيفقدون إمبراطوريتهم الأوروبية بشكل كامل أسرع مما توقع الجميع، إلا أن الأحداث أسفرت عن “واحدة من أكثر التحولات المفاجئة والمدهشة في التاريخ الطويل للبيت العثماني”، على حد تعبير المؤرخ الشهير ستانفورد شو، الذي استرسل قائلا: “بينما كان الجيش العثماني يحتشد في أدرنة، جاءت أخبار سارة من المقاطعات السلافية الواقعة تحت احتلال الهابسبورغ (البيت الحاكم النمساوي)، إذ سرعان ما ذَكَّرت قسوة القساوسة الكاثوليك في جيش الإمبراطور (النمساوي)، السكان الأرثوذكس بالسبب الذي دعا أسلافهم إلى الترحيب بالعثمانيين قبل قرون، فجاءت المناشدات إلى السلطان من الصرب ووالاشيا، وبالأخص ترانسيلفانيا، للمساعدة في استعادة حريتهم السياسية والدينية”. هكذا وباعتراف مؤرخ غربي كانت سياسة التسامح التي أملتها الشريعة الإسلامية وانتهجها العثمانيون مع الأقليات الخاضعة للإمبراطورية في أوروبا، وما قابل ذلك من عنصرية أوروبية، سببا مباشرا للحفاظ على النفوذ العثماني في القارة حتى مع التراجع السريع لحظوظهم والتقدم الملحوظ للقوى الأوروبية، لكن من ناحية أخرى كان تولي أحد أعضاء عائلة كوبريلى، هو فاضل مصطفى باشا، الوزارة العظمى، عامل آخر في ذلك التحول التاريخي لصالح العثمانيين.
تحرك الجيش، الذي نظمه الوزير الأعظم الجديد لمواجهة الهابسبورغ، في منتصف يوليو/تموز عام 1690م، واستطاع في وقت قصير رد القوات النمساوية، حيث استعاد السيطرة على نيش في سبتمبر/ايلول 1690م، وبلغراد مفتاح البلقان في أكتوبر/تشرين الأول 1690م، بعد حصار لم يدم أكثر من ستة أيام. بعدها استعاد العثمانيون من جديد خط دفاع الدانوب بالكامل، وأَمَّنوا حكمهم في البلقان، ليتحول نهر الدانوب وروافده مع نهاية القرن السابع عشر إلى ما يشبه الحدود الدائمة بين الإمبراطوريتين. وإن كان الكثير من الصربيين قد ساند التقدم النمساوي، إلا أن الأكثر شعروا بخيبة أمل من حكم الهابسبورغ، فساعدوا العثمانيين مجددا، خاصة بعد أن بذل فاضل مصطفى باشا جهودا خاصة لاستعادة ولائهم بدلا من معاقبة خيانتهم السابقة، وهو ما ساعد على إقرار الحكم العثماني في البلاد مرة أخرى، وتوقيع معاهدة كارلوفيتز بين الأطراف المتنازعة على مبدأ “ما تملكه” الذي يعترف بسيطرة كل طرف على الأملاك التي أحرزها في الحرب.
ظلت المعاهدة قائمة إلى أخلت البندقية بالتزامها وساعدت في إثارة تمرد في الجبل الأسود على العثمانيين، وهاجمت سفن التجارة العثمانية بين مصر واستانبول، فما كان من العثمانيين إلا أن أعلنوا الحرب عليها في ديسمبر/كانون الأول 1714م، واستغلوا الفرصة باستعادة المورة التي دخلت في حيازة البنادقة بموجب المعاهدة المذكورة، إلا أن تهديد العثمانيين للأراضي التي وقعت ضمن الحيازة النمساوية في المعاهدة دفع النمسا إلى نقض التزاماتها هي الأخرى وتجديد تحالفها مع البنادقة في أبريل/نيسان 1716م، لتُفتح جبهة البلقان من جديد وتؤدي إلى كوارث عسكرية للعثمانيين، فقد استطاع النمساويون مرة أخرى تجاوز خط دفاع الدانوب وغزو الصرب والاستيلاء على بلغراد في أغسطس/آب 1717م، وهنا كانت الخشية من استغلال الروس للموقف باحتلالهم مولدافيا ووالاشيا قبل النمسا، فسارع العثمانيون بوساطة إنكليزية هولندية في طلب السلام على أساس “ما تملكه” مرة أخرى، ليتم إبرام معاهدة باساروفيتز في يوليو/تموز 1718م، التي احتفظ بموجبها النمساويون بشمال الصرب وبلغراد الاستراتيجية وأجزاء من غرب والاشيا.

انتصار عثماني

ولأن معاهدة باساروفيتز ظلت قائمة بشروطها، كان يتحتم عقد التحالف بين النمسا وروسيا بشكل سري، كما أشرنا آنفا، حتى حان موعد دخولها الحرب بجانب روسيا وفتح الجبهة الغربية أمام العثمانيين عام 1737م، ليستغل الروس الموقف بمحاولتهم التقدم لاحتلال مولدافيا، لكن ردتهم التعزيزات العثمانية على أعقابهم عند بندر، في حين ركز النمساويون هجومهم في البلقان خاصة في الصرب والبوسنة، فاحتلوا نيش التي فقدوها سابقا في أغسطس/آب وتمكنوا من الانتشار في جنوب الصرب، والاستيلاء على جزء كبير من البوسنة بما في ذلك سراييفو المهمة.
لكن كان رد فعل العثمانيين أسرع مما توقع الغزاة، حيث استطاعوا استعادة نيش في أكتوبر/تشرين الأول، وقطعوا تقدم العدو في رومانيا بهزيمته في بوخارست ورده سريعا إلى ترانسيلفانيا، تبعت ذلك حملات قوية للعثمانيين في عامي 1738 و 1739م حالفتهم فيها نجاحات فاصلة، حيث استعادوا معظم المعاقل الرئيسية التي فقدوها بما في ذلك بلغراد نفسها، ليحكموا السيطرة مرة أخرى على خط دفاع الدانوب ويهددوا من جديد أراضي النمسا، ما دفع النمساويين سريعا إلى طلب السلام، فكانت معاهدة بلغراد في أيلول/سبتمبر 1739م، التي تنازلت فيها النمسا عن جميع ما أحرزته في باساروفيتز، ليصير نهري سافا والدانوب مرة أخرى بمثابة الحدود بين الإمبراطوريتين.
ورغم أن القائد الروسي مونيتش كان يتقدم وقتذاك داخل مولدافيا وهو يعاني من نفس مشاكل الإمداد التي عانى منها في القرم، اضطر إلى التخلي عن تقدمه مع خروج النمسا من الحرب وتركه في مواجهة العثمانيين وحيدا، وسرعان ما استجاب للوساطة الفرنسية لإقرار السلام الذي وقع عليه الطرفان في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، حيث تنازل الروس كما فعل النمساويون عن جميع مكتسباتهم في الحرب بما في ذلك آزوف نفسها لينسحبوا تماما من بحري آزوف والأسود، وليذهب الاتفاق السري أدراج الرياح، ولتنتهي الحرب بانتصار سياسي وعسكري ودبلوماسي كبير للعثمانيين، إيذانا بالدخول في مرحلة جديدة تماما.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    الدولة العثمانية تعرضت لعدة خيانات غير تركية على مدى أربعة قرون !
    أما الذي قضى عليها فهم الأتراك أنفسهم من خلال جمعية الإتحاد والترقي !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول تيسير خرما:

    يجب تمييز بالحروب بين فتوحات جيش خلافة عربية إسلامية رحبت بها شعوب تحررت من إحتلال أجنبي فانتشر الإسلام بمعظم العالم القديم وبين عمليات غزو قامت بها جيوش إسلامية لمناطق شعوب أصلية غير محتلة من أجنبي ومثال ذلك استهداف شعوب مسيحية بالأندلس وجنوب فرنسا بأواخر الدولة الأموية لقنص ثروات فطردتها شعوبها ومثال صارخ آخر خلافة عثمانية همجية أضاعت 4 قرون بغزو مناطق دخلها الإسلام سابقاً ولم تنجح بنشر الإسلام خارجها بل قامت بغزو مناطق شعوب مسيحية أصلية شرق أوروبا غير محتلة من أجنبي لقنص ثروات فطردتها شعوبها.

اشترك في قائمتنا البريدية