الصين والأنظمة العربية… أسواق ونفط وظهير سياسي

حجم الخط
0

احتفلت الصين خلال الأسابيع الماضية بمرور مئة عام على ميلاد الحزب الشيوعي، الذي يتولى الحكم في البلاد منذ ٧٢عاما. وقد أعد لهذه الاحتفالات على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، في محاولة من أمين عام الحزب ورئيس الدولة شي جين بينغ لتصدر مشهد تاريخي يدشن فيه مرحلة « المسيرة العظيمة» للشعب الصيني. وخطط الحزب الشيوعي أن يكون للاحتفالات صداها الواسع على المستويين المحلي والدولي، وأنفق في سبيل ذلك ملايين الدولارات، على عروض جماهيرية وعسكرية واستضافة الآلاف من الوفود من الداخل والخارج. كان عملا دعائيا بامتياز، فما الذي جعل الدول العربية تتسابق للاحتفال بهذا الحدث، بالمشاركة في هذه المهرجانات داخل الصين وفي العواصم العربية، وتسخر لها وسائل الإعلام المحلية، بل قطع رئيس دولة كلمته في احتفال قومي يخصه لتوجيه التهاني للحزب الشيوعي الصيني بهذه المناسبة «السعيدة والتاريخية».
لم يكن المسؤولون العرب بمفردهم، في هذه المعمعة، بل تسابق رؤساء الدول الإسلامية، في التعبير عن فرحتهم بقيام الحزب الشيوعي الصيني بإدارة هذه البلاد، واعتباره «نموذجا يحتذى به في تحقيق الرفاهية والرخاء والسلام للشعب الصيني والعالم بأسره». حرصت الصين في الماضي على تشكيل تحالفات سياسية مع العالمين العربي والإسلامي، بدأت مع منح الحزب الشيوعي اعترافا بالقوميات العشر المسلمة، وتمثيلا في مجلس نواب الشعب، وحكما ذاتيا في تركستان الشرقية التي ضمها مطلع عام 1950، وأطلق عليها مسمى شينجيانغ أي «الحدود الجديدة». وأسست الحكومة الشيوعية مجلس «الجمعية الإسلامية» في 11 مايو/ايار 1953، لتتولى تنظيم شؤون القوميات الإسلامية العشر «تحت راية حب الوطن والإشتراكية». ورغم الحرب الواسعة التي شنتها القوات الشيوعية على معابد البوذيين والكنائس المسيحية، خاصة الكاثوليكية والانجيلية، تحت ستار تطهير المجتمع الشيوعي من الخرافات والبرجوازية التي يحافظ عليها رجال الدين في مجتمع ملحد متحرر من «كل الخرافات التي تبثها الأديان في شخصية المواطن الذي يجب أن يتخذ من الماركسية اللينينية منهجا في حياته اليومية، عملت الحكومة الشيوعية على ايفاد أول بعثة للحج عام 1952، لطمأنة الدول الإسلامية على حماية الدولة لحقوق المسلمين. ودحض الصورة السيئة التي انتشرت عن ملاحقة الشيوعين للمسلمين الذي فروا من الجنوب في اتجاه هونغ كونغ وتايوان وجدة، ومن تركستان إلى اسطنبول ومكة والقاهرة. ودفعت السلطات الصينية ببعض التجمعات من مسلمي مناطق قانسو إلى الإقامة في المناطق القريبة من جبال التبت التي سيطرت عليها خلال هذه الحقبة، في اطار سياسة الاحلال والتبديل بين القوميات التي انتهجها الشيوعيون في المناطق التي يخشون انفجارها سياسيا.

وضعت الصين المسلمين في معسكرات للتأهيل يشرف عليها الحزب الشيوعي لتلقين الناس تعاليمه بالقوة

تعاظم اهتمام الحكومة الصينية بالمسلمين، بعد أن شاركت في مجموعة دول عدم الانحياز عام 1955، أعقبه، إعلان مصر كأول دولة عربية وأفريقية للاعتراف بجمهورية الصين الشعبية في مايو/ايار 1956، وهو الأمر الذي مهد للصين أن تمد جسور علاقاتها مع دول غرب آسيا وأفريقيا عدا إسرئيل التي لم تعترف بها الصين إلا بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1992. ورغم استمرار عناصر الحزب الشيوعي الصيني في ملاحقة الكنائس واليهود إلا أن الضرر على المسلمين كان قليلا، وفي اطار حرب شاملة لملاحقة المثقفين والمتدينين الذين يعتبرهم الحزب الشيوعي من المارقين البرجوازيين وعملاء للخارج. كان من المألوف أن نشهد شخصيات مسلمة في أعلى تشكيلات الحزب، فقد قابلت أحمد اسماعيل نائب رئيس مجلس نواب الشعب عام 2007، في حفل فخم أقامته الحكومة الصينية لوفد برلماني مصري شاركت به. وحرص قادة الحزب الشيوعي على إظهار مدى حسن معاملتهم للمسلمين وتطوير سبل معيشتهم، وتقديم الأطعمة الحلال وتوفير الفنادق والمحلات ومنافذ الاستثمار المناسبة لهم. زاد تعلق الصين بالعرب والمسلمين مع توجهها نحو الانفتاح على الأسواق الدولية، وزيادة حاجتها إلى الاستثمارات والطاقة. أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري للدول العربية، وأكبر مستورد للنفط في العالم، الذي يأتي48٪ منه من السعودية والخليج وإيران، و2٪ من ليبيا و2٪ من ماليزيا بما يوازي 52٪ من احتياجها عام 2019 التي تزيد عن 10 ملايين برميل يوميا. وتعتبر ثاني أكبر مستورد للغاز المسال من قطر. شراهة الصين للقوة دفعتها لأن تكون أكبر مستورد للنفط والغاز والحديد وجميع المعادن، والعمل على جذب الاستثمارات العربية إلى أراضيها والتي تزيد عن 10 مليارت من الإمارات وقطر والسعودية ومصر فقط بينما تؤكد تقارير الجامعة العربية أن الصين لا تزيد استثماراتها في الدول العربية عن 1.4 مليار دولار عام 2020، وهو يقل عن المبلغ التي تستثمره الصين في مشروع سد النهضة بنحو 200 مليون دولار فقط. وتستثمر الصين 4.5 مليار دولار في أثيوبيا ومثلها في كينيا. تنمو العلاقات التجارية بين الصين والدول الإسلامية بوتيرة مستمرة ويصل معدل النمو نحو 10٪ سنويا. لكن خلال فترة ثورات الربيع العربي بدأت الصين حملتهاعلى المسلمين داخل أراضيها. انهت الصين عصر التسامح النسبي مع المسلمين الذي حصلوا عليه في أحلك فترات عهود الصين تشددا مع المتدينين، وخاصة حقبة الثورة الثقافية، ورغم وقوع صدام من حين لأخر مع بعض مسلمي الايغور فإن التضيق وقع على فئة ممن لهم علاقة مباشرة بالأحداث. وضعت الصين المسلمين في معسكرات للتأهيل التي يشرف عليها الحزب الشيوعي لتلقين الناس تعاليمه بالقوة وإجبارهم على تناول الخنزير والخمور وحرمانهم من الصوم والصلاة. كنا نسمع من المسؤولين الصينيين في أوائل القرن الحالي قولهم بفخر أن عدد المسلمين يبلغ نحو 45 مليونا منهم 22 مليونا في شينجيانغ بمفردها، بينما صرح وزير الخاريجة الحالي وانغ يي بأن الصين فيها 20 مليون مسلم من بين 200 مليون ممن لهم عقائد دينية. تصريحات وزير الخارجية تكشف التلاعب الصيني التقليدي بالأرقام والقلق الذي ينتاب الحزب الشيوعي من انتشار الأديان وخاصة المسيحية والإسلام واليهودية على عقيدة الحزب السياسية. فالمسيحية تدفع الشباب نحو الغرب حيث المبادئ الليبرالية. وبينما استطاع الحزب تهجين اليهود بدعم علاقات قوية مع إسرائيل وملوك المال في العالم، فإنه يخشى تمدد الإسلام السياسي. وهذا الخوف ليس على التحولات داخل الصين ولكنه على الأنظمة المتحالفة معه في الخارج وخاصة الدول العربية والإسلامية. فالصين تسعى للحفاظ على الأنظمة التي تؤمن لها احتياجاتها من النفط والغاز والمعادن وتفتح أسواقها لمنتجاتها بدون إثارة قضايا حقوق الإنسان والأقليات التي يتحصن بعضها بالدين المسيحي أو الإسلامي أومن البوذيين في التبت وغيرهم.
استغلت الصين قلق الأنظمة العربية من نمو التيارات الإسلامية وربط رؤساء دول كمصر وسوريا وغيرهم الإسلام السياسي بالإرهاب في شنها الحرب الواسعة على المسلمين. كسبت الصين تعاطف الأنظمة العربية والإسلامية فيما تفعله بالمسلمين فنجد الرئيس التركي يتراجع عن دعمه للايغور ويلاحقهم في اسطنبول ويثني عام 2019، على ما تفعله الصين من «إجراءات لحماية الأقليات. ويشيد الأمير محمد بن سلمان ولي عهد السعودية والإماراتي محمد بن زايد خلال زيارتهما لبكين بسياسات الصين مع المسلمين بل يهدي بن سلمان جزءا من كسوة الكعبة لجامعة بكين وليس للمسجد الكبير في نيو جيه حيث أكبر تجمع للمسلمين. وتتماهى الباكستان واندونيسيا في تحالف استراتيجي مع بكين. ومصر تلاحق الايغور باتفاق أمني بين القاهرة وبكين وقع عام 2017. تولدت المصالح المشتركة بين الطرفين فالصين تريد من العرب والمسلمين أموالهم وبترولهم وأسواقهم، والأنظمة تبحث عن ظهير سياسي بديل للغرب الذي يلاحقهم بحقوق الإنسان، بينما الرأي العام لايدرك حجم المشكلة وخطورة التعامل مع قيادت تجيد الظهور بوجه باسم « كيوت» بينما تتلاعب بمصيره كما تتحرك قطع الشطرنج.

 كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية