الضحك ليس على ترامب وحده

حجم الخط
0

صحيح أن الضحكات الهادئة التي قوبل بها خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأمم المتحدة، تشير إلى موقف واضح من سياساته التي يسعى بها إلى عزل بلاده والانسحاب من مشكلات العالم، لكنها تشير أيضاً إلى استخدام الهذيان الترامبي للتغطية على أعطاب ونواقص لغة “الصواب”، التي بات زعماء العالم يرددونها في الأمم المتحدة في كل دورة من دورات الجمعية العامة.

فالصواب السياسي المتعارف عليه في الغرب، بوصفه لغة حقوقية تراعي الحساسيات الثقافية والأقليات العرقية والدينية، وتحرّم الإساءة العلنية للسود والمثليين والنساء، تحول إلى لغة عالمية تقضي بوضع إجماعات حول قضايا المناخ والبيئة وحقوق الإنسان والمهاجرين، ورفض الحروب والعنف والسلاح النووي، بحيث تنتقل المخاطر التي تحدق بالعالم من موقع الكوارث، إلى موقع الاتفاقات والمواثيق والتعهدات والإنجازات، أي يجري ضبطها وتقنينها، والاستثمار فيها سياسياً، بدل العمل على إزالة العوامل التي أنتجتها والتي غالباً ما تقف خلفها قوى عابرة للدول. وعليه، فإن خطاب الإجماع العالمي الذي نسمعه بالتقسيط على لسان قادة الدول يغطي على العجز، وينحو بالقضايا منحى فوقيا ليخفي أسبابها. والمفارقة أن هذا الخطاب، مرن، يمكنه امتصاص أي مفهوم حتى لو كان الدعوة إلى إصلاح الأمم المتحدة نفسها، كما حدث في الدورة الأخيرة للجمعية العامة، حيث خرجت دعوات بهذا الشأن من عدة رؤساء.

خطاب الإجماع العالمي الذي نسمعه بالتقسيط على لسان قادة الدول يغطي على العجز، وينحو بالقضايا منحى فوقيا ليخفي أسبابها

ورغم أن  كلام ترامب الخارج عن الصوابية العالمية، والمهتم بمصالح الولايات المتحدة، بدا نشازاً واستحق الضحك من الذين يستمعون إليه، لكنه في عمقه جواب منطقي على الخطابات المجانية التي تفرّغ القضايا من أسبابها وتحيلها إلى عناوين إعلانية. فلو نحينا الجانب الترويجي حول إنجازات إدارته في الكثير من الملفات، فإن الرئيس الأمريكي ركز في كلمته على الوطنية وهاجم العولمة، في انشقاق واضح عن الإجماعات الأممية، الذي يرتاح لها قادة العالم، فإذا حضروا إلى الجمعية العامة تحدثوا بالعموميات التي تعفيهم من تذكر الانهيارات التي تصيب مجتمعاتهم، حيث صعود اليمين المتطرف وأزمات المهاجرين وتقلص الخدمات والارتباك في التعامل مع الإسلام، والسجال حول التمثيل السياسي، وسيطرة الشركات، واستبعاد غير الفاعلين اجتماعياً. هذه الانهيارات، وإن كانت تختلف ظروفها من بلد إلى آخر، لكنها ترتبط ببعضها بعضا بوصفها نتاج عالم ما بعد الحرب الباردة وما تبعه من تركيب صيغ جديدة لعلاقات القوة تتجاوز حدود الدول. وترامب ليس إلا نتيجة سلبية لهذه الانهيارات، بمعنى أنه يتلاعب بالفجوات التي يحدثها النظام السياسي في بلده ويتسلل عبرها ويصنع لنفسه شرعية، بصورة شعبوية مبتذلة وعلى حساب الفئات المتضررة التي يدّعي تمثيلها. وخطابه في الأمم المتحدة امتداد لهذه التكتيك مع إضافة أعداء خارجيين مثل الصين.

والحال، فإننا حيال لغتين في الأمم المتحدة، يتغذيان من بعضهما بعضا، واحدة يمثلها قادة العالم، وأخرى يمثلها ترامب، الأولى، تنحو منحى تعميم المشكلات وتأطيرها في عناوين عامة، تستجدي الحلول عبر المعاهدات والاتفاقيات، وثانية تجتزئ المشكلات وتخرجها عن مسبباتها الموضوعية لتختلق أعداء وخصوما، من هنا يأتي استغراب ترامب للضحك عليه، فهو الجزء المكمل للكلام الأنيق الذي نطق به حكام الأرض.

كاتب سوري من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية