ضبابٌ كثيف يلف المشهد العربي والمشرقي منه، خاصة في اللحظة الراهنة، ولعل أسهل ما قد أقرره أو أكتبه هو أننا لم نشهد شبيهاً له في الزمن الحديث، ولا حتى في حرب تحرير الكويت؛ لذا فإنني أتفهم، بل أشارك الكثيرين الذين يتشككون ويشفقون من المقبل، على خلفية تصريحات وإيماءات وتحركات الحكام الجدد في سوريا، خاصةً في ضوء قضم إسرائيل لأراضٍ عربية سوريةٍ جديدة، وكون السياقين، الإقليمي والعالمي، اللذين صاحبا سقوط نظام آل الأسد، لا يشيعان الراحة، مع الإسراع بالتأكيد على ترحيبي التام بانهيار ذلك المسخ المتوحش وشعوري بالخفة والانعتاق.
أستطيع أن أقول إنني أتفهم الحماسة والحمية التي تتملك الوطنيين المخلصين المنافحين عن الحق والأرض العربيين، وهما الثابت الوحيد ربما في كل الأوراق المبعثرة على الأرض الآن، إلا أنني أيضا أدعو إلى شيءٍ من التأني والاقتصاد في الحماس، أياً كانت دوافعه ونوعه، والبداية بالنظر العميق إلى الواقع وتحليله بموضوعية، بعيونٍ وعقلٍ صافيين لا تشوبهما ولا تثقلهما المشاعر الوطنية الملتهبة ولا الغضب المتأجج من الإهانات المتصلة التي لم تنقطع وبحور الدماء.
الواقع المحض، كجرد محتويات مخزن من البضاعة، لا يتأثر بآرائنا ومشاعرنا.
في لحظة الإلغاز والغموض والحيرة العارمة تلك، يستدعي المرء نماذج مشابهة من عالم الأدب أو التاريخ أو كليهما، وقد حضرني مشهدٌ من مسرحية «ضيعة تشرين» للراحل محمد الماغوط، حيث يعتلي المختار نهاد قلعي شرفة منزله محرضاً رجال قريته الذين ذهبوا للحرب (في إشارةٍ إلى نكسة 67) مديراً المعركة ناظراً إلى الأفق البعيد، فلم ير هؤلاء الرجال عائدين منكسي الرؤوس، مهزومين في ذلةٍ وغضب من الجبهة عقب معركةٍ لم يستعدوا لها ولم تطل.
كان منجز جمهوريات ما بعد الاستقلال إذلال الإنسان العربي وتشويه وعيه وروحه وتدميره، حتى صار جاهزاً للهزيمة والاستعمار، لو كان سيخرجه من سلخانة الأسد، الذي فر بجلده كالنعامة
هذه هي اللحظة الراهنة في واقعنا العربي: لحظة هزيمةٍ وذهول واهتزازٍ عميقٍ مزلزلٍ للكثير من المفاهيم والآراء والانطباعات. لم تزل الثوابت كما هي، أسارع إلى القول، فليس من المفترض أن تتغير المبادئ، أو تسقط الحقوق، إلا أن تصورات الناس وطريقتهم من ثم في التعامل مع الواقع بتغيراته وانعطافاته الحادة، وقد صيغ وشُكل وعيهم، عبر تلالٍ من الأكاذيب وبهلوانيات المواقف (خاصةً على يد النظام السوري الذي لم يبرع أحدٌ مثله في ذلك المضمار) كل ذلك ترك الناس في حيرةٍ، أيفرحون بسقوط الطاغية، نظاماً وقائداً؟ أم يفزعون من تغول إسرائيل وما يرونها عبر غلالةٍ عميقة من ترتيباتٍ إقليمية جديدة، لن تأتي إلا انتقاصاً وتغولاً على الحق العربي؟ الإجابة ببساطة واختصار: لا توجد إجاباتٌ سهلة فالصورة معقدة ومركبة وكذلك مكوناتها.
أما الصورة الثانية التي تسيطر على وعيي وتفكيري ووجداني فهي صور المعتقلين السوريين المحررين ومنهم من نسي اسمه، لا أملك إلا أن أسأل نفسي: ما الذي بقي من المفاهيم والأولويات «الوطنية» لدى هؤلاء؟ ذاك الذي نسي اسمه، ما درجة وعيه بالمخاطر الإسرائيلية المحدقة، وما درجة اهتمامه بالأطماع التركية؟ أما أولئك الذين ما يزالون يذكرون أسماءهم، بعد سنين القمع والاعتقال، أليس لديهم الكثير من الأسئلة عن قيمة الوطن والوطنية والصراع إلخ؟ أليست لديهم تساؤلات، بل شكوك عن مفهوم القيمة، قيمة أي شيء، على الإطلاق بعد ما خبروه وعانوه من التوحش البشري الذي لا تقدم عليه أكثر الوحوش ضراوةً؟ نحن الآن في لحظة انكشافٍ وزمن حصاد، كما قررت كثيراً في مقالاتٍ سابقة، بسقوط نظام الأسد سقط آخر معاقل «دولة ما بعد الاستقلال» العربية ربما، وثاني أنظمة البعث التي انطلقت من مبادئ هي نظرياً في المجمل تندرج في خانة «السمك لبن تمر هندي» كما نقول في مصر، أي خلط ومزج الأيديولوجيات في خلاط الأفكار، فلم تنتج إلا أنظمةً مسخاً، وإذ انطلقت من أهدافٍ معلنة هي بناء وحدة عربية وإنسانٍ عربي ٍ جديد انتهت ببناء عبادة أفرادٍ – قادة قتلة مجرمين ومعتقلاتٍ وخرابٍ اقتصادي وهزائم وأنست الناس أسماءهم، بالمعنى الحرفي لا المجازي. لقد كان منجز جمهوريات ما بعد الاستقلال إذلال الإنسان العربي وتشويه وعيه وروحه وتدميره، حتى صار جاهزاً للهزيمة والاستعمار، بل ربما الترحيب به لو كان سيخرجه من سلخانة الأسد، الذي فر بجلده كالنعامة بالمناسبة. وفي هذا السياق لزم التنويه أن النظام السوري الذي كان يجيد خلط الأوراق وراء رطاناتٍ قومجيةٍ عروبية لا حصر لها، كان أكثر انحطاطاً ودناءة ربما من نظيره العراقي، وقد عاش بمبدأ وسلوك عائلات المافيا، كما نراها في الأفلام والمسلسلات الأمريكية، حيث لعب مع الكل وتحالف وهادن الكل في مراحل متفاوتة، بدءاً من الفصائل الإرهابية الجهادية حتى إسرائيل في مراحل متفاوتة.
لقد كان الدمار والانهيار الحقيقي للمجتمع العربي، أسبق من مجرد سقوط النظام وهو موجودٌ ماثل، حتى والنظام لم يزل قائماً، كما هي الحال مع نظام السيسي حيث المجتمع في سقطةٍ حرة من التعفن والإفقار، ولم يأتِ سقوط النظام إلا تكملةً حين حانت الفرصة وتغيرت المصالح ومواقع اللاعبين الإقليميين والدوليين، لذا فمن العبث التام تصور أنه كان يخيف إسرائيل، في حين أنها كانت تقصف متى شاءت وأين شاءت دون أن يحرك النظام ساكناً.
لقد هزمت هذه الأنظمة الشعوب وكسحتها، وليست هذه الحلقة الأخيرة سوى الخاتمة أو الـ finale كما يقال لهذه المعزوفة النشاز البائسة، ولعل ذلك ما يؤكد روعة مقاومة حماس وحزب الله حيث جاءا ضدا ونفياً لهزيمة، بل عمالة وتواطؤ الأنظمة والشعوب (البعيدة عن التواطؤ بالطبع). لقد كان سقوط نظام الأسد ضرورةً لا مفر منها لإتاحة الفرصة لبدايةٍ حقيقية (أو على الأقل فرصةٍ لها) للمجتمع السوري.
من الجائز الآن أن نقول إن ذلك البلد أو المجتمع في مرحلة لعق جراحه والجأر بالشكوى والألم مما لحق به قرابة الخمسة عقود. أنا على ثقة من أنه ما أن تتوفر الحرية السياسية والفرصة لهذا المجتمع، فهو قادرٌ على التصدي للتحديات الوجودية المحدقة به وإعادة بناء نفسه وتضميد جراحه، لكن لا بد من توفر الحرية وإعلاء قيمة الإنسان قبل الدولة والنظام.
لعل من المفيد أن نضع أنفسنا محل ذلك السوري المعتق من الاعتقال عقب ثلاثين أو أربعين سنة، انقطعت فيها أخباره عن أهله فعدوه ميتاً ومات منهم من يهمونه، وقد يكون نسي اسمه، لقد فقد معنى «المعنى» وقيمة «القيمة» حتى الأفكار الكبيرة التي ربما ألهمته يوماً ما وحدت به لمعارضة النظام (إن كان هذا هو سبب دخوله السجن) فلعله نسيها أو كفر بها. هذا المعتقل بحاجة إلى استعادة اسمه.. إنسانيته، قبل أن يتحسس رأسه وينظر (أو ينظر له الآخرون بصراحة) عن الصراع العربي الإسرائيلي وأطماع تركيا في الإقليم. قبل أن ينظر لا بد أن يستعيد وعيه بعد أن رده زبانية الأسد إلى مرحلةٍ جنينية أو قبل جنينية من الوعي (أو اللاوعي) البدائي لكن عبر مستنقعاتٍ من العذاب والإهانة لم يعد بعدها لأي شيءٍ معنى.
لقد أقام نظام الأسد وأشباهه صروحاً من خيالٍ وأوهام على حطامٍ من البشر، وقد سقط.. أو أُسقط.. لن أجادل ولن أختلف إلا أنه في الحالتين كان مفلساً مهترئاً فضلاً عن كونه مهزوماً. هذه هي نقطة البداية، قد لا تعجبنا لكن ذلك لن يغير من الأمر شيئاً. فعوضاً عن التخويف والتباكي والمزايدات لا بد من التركيز على المجهود الذاتي لهذا المجتمع للملمة جراحه وطرح بدائله والصعود بنفسه.
كاتب مصري
شكرا لك على هذه المقالة الواقعي الرائع ولكن لا نقاش على الجيد وهذه هي امتنا.