ماذا نعني حين نقول عن قوة سياسية ما إنها قوة عامة؟ ما هو الإطار السياسي للعام في مجالنا؟ قد يمكن التمييز بين ثلاثة أطر وثلاث دلالات للعام، يحدث أن يجري التحول بينها دون وعي، هي بصورة تخطيطية وخشنة وطني محلي، قومي عربي، ثم إسلامي.
العام الأول، الوطني، مطابق للدولة، فهو عام سوري أو لبناني أو عراقي أو مصري إلخ. وهو يفترض فاعلية موحدة ومجانسة للدولة، فلا تحوز الدولة ولاية عامة على محكوميها إلا لأنها منتجة للعام، لما يعمُّهم من قواعد ومؤسسات. ونقيض العام هنا الفئوي، أي ما دون الوطني من طائفي وعشائري وإثني وجهوي، أو ما فوقه من قومي عربي أو إسلامي أو أممي. وما يبقي هذا العام الوطني هشاً وغير حاكم، هو أن الدولة ليست مناط المواطنة، وهي متراجعة في احتكار العنف الشرعي، سواء عبر منح مقاولات قمعية لأقارب ومحاسيب، أو عبر الممارسة المنهجية للتعذيب مما هو غير شرعي في كل حال، أو عبر دعوة قوى أجنبية لقمع محكوميها أو قطاعات منهم عند اللزوم مثلما فعلت “سوريا الأسد”. إلى ذلك لا تبدو دولنا قادرة على الدفاع عن نفسها في وجه اعتداءات موصوفة متكررة، وهي ما يطعن في سيادتها، وبالتالي شرعيتها.
وقبل عقود كان العام يطابق القومي العربي، أقله في المشرق، أكثر من الوطني المحلي. وبخاصة حين يتعلق الأمر بفلسطين، “قضية العرب الأولى” (وبصورة ما قضيتهم الأخيرة، بما هم كذلك، أي كعرب). ومن هذ المدخل يحوز من يقاوم إسرائيل صفة عامة، حتى لو كان فئة مخصوصة، دينياً أو حزبياً أو طائفياً. ما يقابل العام بهذه الدلالة هو الوطني المحلي الذي كان يوصف قبل عقود بالقطري، وكذلك ما دون القطري من طائفي وعشائري وغيرها، وما فوق القومي من روابط تحالفية أو إيديولوجية عابرة للبلدان. ورغم تراجع القومية العربية منذ عقود أطول من عقدي صعودها، إلا أن العامّ العربي يستعيد حضوراً قوياً كلما تعلق الأمر بمواجهة إسرائيل وحلفائها. وهي مواجهة كانت تتكرر كل عقد أيام حروب الدول، وصار إيقاعها أسرع مرتين في زمن حروب المنظمات الدينية المسلحة. بصورة ما، تبقى القومية العربية حية على يد القوى التي هزمتها بالذات، أو تبقى الطبقة القومية من الوعي حية في مواجهة هذه القوى تحديداً.
وهناك صيغة ثالثة للعام، يتبناها الإسلاميون، وقوميون عرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، يحيلون بصورة صريحة أو ضمنية إلى “الأمة”، لكن في تغذية لالتباس هذا المدرك بين القومي العابر للأديان والمذاهب، العلماني، وبين الإسلامي المتمركز دينياً. في مواجهة قوى السيطرة الدولية، أخذت القومية العربية بعد انتهاء حروب الدول تركن إلى حروب الدين، أي ما هو إسلامي، ونزعت الفوارق الشعورية بينهما إلى التضاؤل. في الأساس محتواهما الشعوري قوي جداً، قياساً إلى المحتوى العقلاني والبراغماتي، وإنما لذلك حين أخذت القومية العربية بالتراجع لم تكن الوطنيات المحلية هي التي ازدهرت، بل الإسلامية التي تبدو من الوجهة الشعورية استمراراً للقومية العربية.
ومما يبقي الأمور سائلة على مستوى عامّاتنا الثلاثة هذه هو الشرط الاستعماري المتجدد، والمتجسد على الدوام في الواقعة الإسرائيلية. الفئوي والخاص يترفّع إلى مستوى العام أو ما يقاربه حين يواجه إسرائيل، والعام الوطني لا يكون عاماً، بل عميلاً أو لا وطنياً، حين لا يواجه إسرائيل، ولو كانت المواجهة بلاغية فحسب على طريقة الحكم الأسدي في سوريا. لقد خلق تجدد الشرط الاستعمار انفصاماً بين الوطني والعقلاني، فصار الوطني غير عقلاني والعقلاني غير وطني؛ الوطني مرادف للانفعالات الهوياتية الحادة، والعقلاني راكن إلى الواقع كما هو.
لا تبدو دولنا قادرة على الدفاع عن نفسها في وجه اعتداءات موصوفة متكررة وهي ما يطعن في سيادتها وبالتالي شرعيتها
وهذا للقول إن العلاقة بين العامات الثلاثة ليست تطورية حصرياً، أي أن ضعف الوطني حيال القومي والإسلامي ليس مجرد نتاج نقص تشكل وطنيا يحتاج مزيداً من الوقت، أو من “التاريخ”، من أجل اكتمال استقلال السياسي عن الثقافي والديني، والوطنيات المحلية عن القومية العربية والقومية الإسلامية. هذا جانب من قصة يتمثل جانبها الآخر منها في النقص السيادي للدول في المشرق، أي عجزها عن الجمع بين احتكار العنف في الداخل والدفاع عن الكيان في الخارج في مواجهة إسرائيل وداعميها. بصورة مفارقة، أبقت إسرائيل ورعاتها النزعة القومية العربية حية وأضعفت استقلال الدول العربية عنها، هذا فيما وجدت القومية العربية التي لم تعد تطابق أي دولة أو مشروع سياسي نشط في الإسلامية قوتها الغضبية، أو طليعتها المسلحة. وهذا بالضبط لأنها حين هزمت ارتدت إلى شعور غاضب وناقم. وأرجحية المحتوى الشعوري لدى الإسلاميات، سنية وشيعية، على محتواها العقلاني هو ما يجعلها أقل قابلية للردع من الدول (أو ربما ما كان يجعلها كذلك قبل جولة الحرب الحالية). الدولة تدفع غرامة عقلانيتها قابلية للردع هي ما انتفعت منها إسرائيل وحماتها طوال نحو نصف القرن الأخير.
يستفيد حزب الله اللبناني من سيولة العام هذه إلى أقصى حد. فهو أقل ارتداعاً من الدولة اللبنانية ومن الحكم الأسدي، ومن النظام الإيراني ذاته. وإلى ما قبل شهر من اليوم، كان حزب الله في مواجهة إسرائيل يبدو، إلى جانب حماس حتى ما قبل عام ونيف من اليوم، التجسيد المقاتل للعامّ العربي، التجسيد الذي نُغضي عن خصوصيته الشديدة بفضل دوره العام. ثم إن إسلاميته كانت تتيح لإيران ومطامحها الامبراطورية الدخول الواسع في بلدان عربية مجزأة لم تستطع إنتاج عام وطني مطابق للدولة، والتغلغل في عامٍّ عربي جامع لم يستطع أن يحوز جسماً ينمو.
والقصد المجمل لهذا التحليل هو أن سيولة العام في مجالنا نتاج تفاعلي لنقص تشكل الدول والكيانات الوطنية من جهة، ولكون الاستعمار صفحة غير مطوية في هذا المجال، صفحة لا تكف بعدوانيتها وحروبها المتكررة عن تغذية ما هو شعوري وانفعالي وهوياتي، وإضعاف ما هو عقلاني وتفاعلي وعام جامع.
لكن من شأن التوقف هنا أن يغفل فاعلية أطراف منتفعة جداً من هذه السيولة لتسويغ احتكار السلطة ورساميل مادية ورمزية في مجتمعاتنا، قوى اقترنت بضروب مهولة من التمييز والقمع والفساد والتبعية. هذا جانب ثالث، حاسم من القصة. حزب الله لا يكف عن تمنين لبنان وسوريا والعرب أجمعين بمقاومته، وكذلك عن الثناء على نفسه وقيادته وعقيدته وتبعيته الإيرانية، وتبخيس خصومه والطعن فيهم وصولاً إلى اغتيالهم.
هنا نرى المقاومة بمثابة غسيل عام لمكاسب خاصة، يجنيها هذا التشكيل المسلح وحده دون غيره. ولعقود طوال استثمر الحكم الأسدي في القضية العامة لتسويغ سلطانه الفئوي الذي آل إلى إبادة، سهلت وطبعت ما رأينا في فلسطين بعدها. واستخدمت إيران قضية فلسطين كي تسيطر على لبنان وسوريا (فضلاً عن العراق واليمن) عبر دعم قوى عميلة لها فيهما. وفي جميع الحالات ليس هناك ذرة من الجدية في مواجهة إسرائيل وداعميها بينما يجري تقويض مجتمعاتنا من الداخل بالسلاح والطائفية والتمييز والامتيازات، أو باستعراض التفوقية الطائفية أو الفئوية، ومعها في الوقت نفسه مظلوميات عابرة للحقب ومتعالية على التاريخ.
هناك في المحصلة عامل بنيوي مديد التأثير وراء سيولة العام في مجالنا، يتمثل في المحور الأمريكي الإسرائيلي الأقوى عسكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحقوقياً واجتماعياً، وفائض قوته يردع الدول ولا يترك لها غير سيادة منقوصة وعقلانية صغيرة، تحد من قدرتها أن تكون قوى عقلنة عامة في مجتمعاتنا. لكن هناك استثمارات سياسية في هذا السيولة التي تتيح هامش مناورة واسعا لقوى خاصة تموه به نزعات التفوق الفئوي، الطائفي أو العائلي أو الحزبي، وهي ما نقلت صعوبات العقلنة من الموضوعي إلى الذاتي، ما ضمن لها الاستدامة، وما كان له أكبر الإسهام في التدمير الذاتي للمشرق الشامي العراقي.
ما نقدر عليه من هذا التفاعل السُّمَي، بقلوبنا وألسنتنا لا أكثر، هو مقاومة الاستثمارات الفئوية التي كمّلت في سوريا وفلسطين ولبنان التدميرية الإسرائيلية ولم تنقصها. والمثال الذي يتكثف فيه هذا التهافت هو أن حزب الله الذي فتح “جبهة إسناد” لغزة ضد الإبادة الإسرائيلية، منضبطة بما ظنها قواعد اشتباك مشتركة بينه وبينه إسرائيل، كان طوال سنوات ما بعد الثورة السورية قوة إبادة في سوريا، لحساب إيران، ودون انضباط بأي قواعد اشتباك.
* كاتب سوري
عقده أوديب لا تزال تغمض عيون بعضا من مثقفينا ،مع فائق الإحترام لماضيهم،عن الهجمه الصهيونيه المسعوره والتي تريد ان تفرض شروطها بكل السبل الإباديه في تحقيق شرق أوسط جديد متجانس مع ما بعد الاستعمار والحداثة وبدون إنضباط بأي قواعد إشتباك.
اتفق مع الكاتب.
يجب علينا رؤية الواقع.
الحزب تحول إلى قوة تدميرية كبرى في سورية بدون ضابط ولا وازع لا ديني ولا اخلاقي.
بينما نراه منضبط اشد الانضباط بقواعد اشتباك محددة لا يحيد عنها مع الصهاينة.
كنت اتمنى ان يلاقي العربي السوري المسلم معاملة شبيهة بمعاملة حزب الله للصهاينة من الرفق والانضباط والابتعاد عن استهداف المرافق العامة والمدنيين عندما يستهدف الكيان.
ليته عامل القصير معاملة تل ابيب!
ايران وحلفاؤها كانوا ومازالوا وسيبقون قوة خراب وتدمير في المشرق العربي.
ربما العرب من خارج سورية من الصعب عليهم ادراك هذه الحقيقة بسبب ما يسميها ياسين حالة السيولة العامة التي تحجب عن الناس مشاهدة هذه الحقيقة.
على صعيد الإجرام داعش و النظام تفوقوا على الجميع و لم يرقص المعارضون السوريون عندما قتل البغدادي و لا وزعوا البقلاوة فرحا بمقتل من قتل آلاف السوريين العرب المسلمين السنة بالمناسبة و تحديدا من المنطقة الشرقية بسوريا و من عشائرها … يبدو بالقصة شي تاني