العبور الأجناسي بوصفه تجسيراً «2»

أفاض منظرو النقد في التفكير في الأجناس الأدبية مبلورين تصوراتهم منذ عشرينيات القرن الماضي، منتهين في ستينياته إلى رؤيتين اثنتين لا ثالثة لهما، فأما انغلاقية تمثلها تنظيرات البنيويين وغايتها الابتعاد بالنصوص عن حاكمية السياقات الخارجية الاجتماعية والتاريخية والدينية.. وأما انفتاحية وتمثلها التنظيرات ما بعد البنيوية، التي بانفتاحها على ثنائيات وعلاقات لها صلة بالدال والمدلول أو اللفظ والملفوظ كانت قد اعتنت بالأسلوب والسياق والتداول، لكنها تركت أمر التجنيس على ما هو عليه.
لعل التعقيد الذي عليه التجنيس الأدبي، وما في مظهريته من اختلاط وتنوع وتنافر وغرابة، لا تتضح إلا بهذه القوانين التي فيها العبور نظرية لا تفصل في الأنماط والأنواع والأشكال، إلا لأجل أن تعضد قالب التجنيس، كما أنها تقنن العمليات والفاعليات والخطوات، من أجل أن تموضع ذاك القالب وقد صار محددا ومؤطرا.
فلا تعود هناك أجناس هي في تشكلها مشاعة، يوحي شيوعها باللاتجنيس، أو يُوهم بأن بالإمكان أن تتفرع من الجنس الواحد أجناس مثله، أو تتداخل معه أجناس هي متخللة بتعبير باختين، أو جامعة بتعبير جينيت، كما ستزول فوضى التصنيفات كأجناس نقية وأجناس غير نقية وأخرى حية ومختلطة أو غير شفافة.
ومن المهم القول إن التجنيس فاعلية ليس الإقرار بها أمرا متاحا بلا مقاييس. ولعل أهم تلك المقاييس البعد التاريخي في التطور النوعي للأدب فهذا المقياس لوحده كاف لأن تهوى أمامه أي محاولة للتخلخل والتفريع والاستجماع واللاانتهاء. وليس العبور كعملية تصنيفية جمعا للنصوص على نية إفادة سابقها من لاحقها حسب، وإنما أيضا إعطاء الكتابة صورة إبداعية بإجناسية محددة فيها النص أوسع من مجرد تداخل شكل بشكل، وتماثل مضمون بشكل، بل العبور الأجناسي أعمق من أن يتموضع في جدلية من الجدليات المفروغ منها كجدلية شعرية/ بنيوية أو كانفتاح/ انغلاق أو كنمط/ صيغة أو كنص/ خطاب أو كصوت/ صورة.
ولا غرو في أن هذا التشكل الاستعادي للتجنيس، هو في حديته لا يلغي التناص أو التطريس، ولا يعارض التفاعلات النصية بين مختلف صنوف الكتابة الأدبية.
وليس مفهوم العبور مقطوع الصلة مع الإرث المفاهيمي الشكلاني لايخنباوم وشكلوفسكي والبنيوي لجاكبسون وهيمفليسف، وما بعد البنيوي لكرستيفا وتودوروف وجينيت، بل هو موصول بها جميعا، من خلال التجنيس الذي هو بغية العبور، وبه تحافظ الكتابة الأدبية على قوالبها بعيدا عن أي انتهاك أو تسيب يغيب صنف إنتاجها. ولو مثلنا بالقصة القصيرة لوجدنا أنها ما غدت جنسا أدبيا مفروغا منه إلا بعد سلسلة مخاضات تاريخية كانت فيها حكاية ومقامة واسكتشات، لتتوطد فاعلية تجنيسها وقد امتلكت قالبا خاصا بها وحدها، فلا يشاركها في مواصفاته أي قالب سردي آخر، ثم تأكد بمجموعة فروض وقوانين أن لقالبها هذا من السمات ما يجعله جنسا عابرا قادرا على أن يحتوي ما هو مثله سرديا، لكنه أقل منه إجناسيا ممتلكا بالعبور روعة فنية لا تملكها قوالب أخرى.

فالتجسير هو الوسيلة للتعابر الذي به يتفرد القالب الأجناسي الأكثر إمكانيات متقدما بتراكمية وتخصصية واشتراطية محسوبة باعتماد قصدي والتحاق تراتبي.

وليس لقالب أن يكون مؤهلا للتفرد دون تجسير هو واسطته لأداء عملياته في التعيين والاحتواء والجذب والتماهي. ولا تتقنطر المسافة بين المتعابرين، إلا كانت المسافة بينهما بلا عوائق كأداء ولا مطبات وعرة لكن بتفاضلية أحد المتعابرين على حساب الآخر، وسبب التفاضل راجع إلى الاقتحام والتطاول مضيا ونفاذا في المعبور عليه.
ولما كان التجنيس هو هدف العبور الأجناسي، فإن هذا التجسير هو وسيلة العبور التي بها يتعزز التجنيس، ويتأكد نجاح الجنس عابرا، وقد اجتاز عتبة المخاطرة وانتقل مستقلا، به يتحصن المعبور عليه مثل بر الأمان. لذا لا عودة من بعده إلى مرحلة سابقة كان فيها هذا المعبور متزعزعا تأينا ولا ارتكازا. وبالتجسير يتحقق التوازن وتغيب الحيرة وقد سُدت الفجوة الإبداعية بين كتابتين غير منتظمتين، تمويلا وأبعادا لسانيا وما بعد لسانية. فيتخلص الجنس العابر من تشابكات التداخل، نافذا جنسا يقدر على المواجهة والمقاومة غايته العبور وواسطته التجسير.
وإذ نشبه التجسير بالقنطرة التي توصل بين ضفتي النهر، فلأن هذه القنطرة بالنسبة للأجناس العابرة هي ليست كتابة تستعير صفاتها من ضفة هي مشبه وضفة تقابلها هي مشبه بها، وإلا كانت هذه الكتابة تناصية لا تحتاج إلى رابط ما بين ضفتي النهر، ككتابة مستعيرة وكتابة معارة متاحتين على المجاز باستمرار ليس معه أدنى اختتام. بينما يتيح وجود تجسير يقنطر ضفتي النهر عملية الانتقال وصلا حقيقيا لا مجازيا، فهو ليس استعارة نصية، وإنما قولبة تجنيسية بها تصبح إحدى الضفتين معبورا منها كمنطلق، والضفة الأخرى معبورا إليها كمنتهى ومرسى. وإذا كانت الأنهار جارية مبتدئة من منبع ومنتهية إلى مصب، فكذلك العابرية الأجناسية هي من المرونة والسيولة ما يجعلها ممتدة، لكن بلا نهائية، ومرنة لكن بانسيابية ليس فيها خلط ولا تداخل ولا عشوائية.
وهذا التجاسر في استعارة النهر للتعابر الأجناسي هو دلالة على الامتلاء الداخلي، والاكتمال الإطاري، فكما أن للنهر ضفتين لا يمكن بلوغهما أو الوجود فيهما في الوقت نفسه، كذلك لهذا الجنس محطتان: الأولى معبر بواسطتها يبلغ الجنس المحطة الثانية. والجنس العابر هو ذاك الجسور الذي بلغ ضفة تجنيسه الأخرى مقداما، تجاسر مستحثا ممكناته حتى صار قالبه مدعما بالمعبور عليه، الذي يتحول من حال إلى حال، اتصالا ووصلا وتطاولا، بينما يظل العابر على حاله وإن تعضد بما احتواه من شكل أو نوع أو صيغة أو نمط وربما جنس. وليس الاتصال تداخلا كالتطاول عبورا، لأن الأول لا يقتضي عقدا له نفعيته وتبادليته، بدليل أننا في البناء النصي نجد عملية التداخل جائزة ومتاحة بلا عقد أو ميثاق بين المتداخلين، بينما في البناء الأجناسي نجد أن كل شيء مضبوط بموازين التحديد والتأطير. ومن ثم ليس التجاسر كالتنصيص فالعملية الأجناسية برمتها مقننة ومبوبة بينما العملية التناصية برمتها انفتاحية ولا نهائية، أو كما تصفها جوليا كرستيفا (منمنمة) أي تضمينية، بمعنى أن التجسير ليس فعلا إنشائيا كالتناص، يبتدع ابتداعا فيكون معترفا به من الوهلة الأولى، التي تتم فيها عملية الإعارة، فلا خطوات زمانية ولا مراحل مكانية، ناهيك من أن التطاول الذي به تتجسر المسافة بين المعبور عليه والعابر يعني أن هناك انتقالا هو أبعد من أن يكون تضمينا لأجناس في أجناس، أو لنصوص في نصوص، وإنما هو انتقال مفصلي وارتكازي بين منطقتين يربطهما طريق واحد بلا تقاطعات أو مطبات أو تحويلات أو تناوبات أو حلقات.
بهذا يكون التجسير فعلا إنجازيا وبروتوكولا قصديا يتمم الخطوة الأخيرة في عملية العبور الأجناسي. وليس عجبا أن يكون التجسير وسيطا عنوانيا، به يعرف أولا المعبور عليه من العابر، ومن خلاله ثانيا نستدل استدلالا مباشرا على أن العبور ليس فاعلية كتابية حسب، بل هو برنامج عمل وآلية تعيين علمية لا آنية فيها ولا اضطرار.
وإذ يتوسط التجسير بين كتابتين، فليس لأن كل واحدة منهما تريد أن تحاذي الأخرى، بغض النظر عن إطاريهما وإنما هو إذعان إحدى الكتابيتين للأخرى، عبر مسارهما تجسيرا لا تحاذيا نتيجته التأطير، انضواء واحتواء وجذبا وتماهيا.. فالتجسير هو الوسيلة للتعابر الذي به يتفرد القالب الأجناسي الأكثر إمكانيات متقدما بتراكمية وتخصصية واشتراطية محسوبة باعتماد قصدي والتحاق تراتبي.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    إنتاج منتج شيء، والحوار شيء، والإدارة والحوكمة شيء، وعملية أسلوب فرّق تسد، لتحكم أسرة أو شركة أو دولة شيء آخر.

    فهل المطلوب من لغة نص أي قانون، تنظيم العلاقة بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر في الوصول إلى ثقافة النحن كأسرة انسانية،

    أم الهدف من لغة نص القانون، في السيطرة لثقافة الأنا على حساب ثقافة الآخر، لا يهم هنا رجل أم امراة هو الحاكم أو المدير؟!??
    ??????

اشترك في قائمتنا البريدية