العدالة الانتقالية المقارنة: سؤال الضحية، سؤال الجلاد

حجم الخط
0

العدالة الانتقالية المقارنة: سؤال الضحية، سؤال الجلاد

العياشي أبو الشتاءالعدالة الانتقالية المقارنة: سؤال الضحية، سؤال الجلاد ماذا نفعل بالضحية؟ ماذا نفعل بالجلاد، بل وماذا نفعل بالمرحلة؟ تلك هي الاسئلة الضمنية التي تختزنها جميع تجارب العدالة الانتقالية في البلدان التي تشكلت فيها لجان التقصي والتحري والكشف عن الحقيقة في ما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي ارتكبت في تلك البلدان: لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا قدمت تقريرها في 1998، اللجنة الوطنية للتقصي في الارجنتين، في السلفادور تكونت سنة 1991 لجنة تقصي بعد أن توقفت الحرب الاهلية التي استمرت 12سنة، وفي الشيلي انتهت لجنة فاليتش من إعداد تقريرها في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 ورفعته إلي الرئيس ريكاردو لاغوس وفي المغرب انتهت هيئة الانصاف والمصالحة من تقريرها في 15 كانون الاول (ديسمبر) 2005 بعد سنتين من العمل.في تقارير هذه اللجان وغيرها التي شكلت عبر مختلف دول العالم، للتقصي والتحري والبحث عن الحقيقة في ما جري من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، كان المطروح دوما هو ماذا نفعل بالضحية؟ ماذا نفعل بالجلاد؟ وبالمرحلة التي اشتغلت عليها كل لجنة من تلك اللجان وغيرها، حتي إن تطويق تلك اللجان بالاجابة عن تلك الاسئلة يعد إن لم يكن هو الحجر الاساس فيها، وهو القاسم المشترك بينها علي اختلاف في المقاربات والتفاصيل الخصوصية لكل لجنة علي حدة، تبعا لظروف البلد وخصوصيته وتبعا للاطار القانوني والصلاحيات التي أعطيت لكل لجنة من اللجان في مختلف البلدان.الضحية، الجلاد، المرحلة، ولكن هذه المكونات إذا صح أن نعتبرها مكونات اساسية طرحت وتطرح في كل تجربة عدالة انتقالية هي مكونات خضعت للقراءة والتأويل ولم تبق دالة دلالة حرفية ضيقة علي معانيها المتداولة المعروفة. فالضحية مثلا ليس هو ذلك الانسان الكائن الذي تعرض لانتهاكات جسيمة، حدت من حريته وعرضته للقمع والتعذيب بأشكاله الرهيبة، أو هو ذلك المختفي قسرا أو المجهول المصير وإنما الضحية يتعدي كل ذلك بأن ينفتح ليشمل ذويه، أقاربه وعائلته ممثلة في الاصول والفروع ذلك أن الاصول والفروع من آباء وابناء أصبحوا ضحايا بالتبعية فقد أصابتهم آلام وعذابات نتيجة اختفاء أو اغتيال واختطاف وأسر الضحية؟ ثم إن مفهوم الضحية ينفتح واسعا ليشمل ليس الكائن البشري، بل الكائن المكاني ونعني به المناطق والجهات التي لحقها التهميش والاقصاء والابعاد انتقاما منها لا لشيء سوي أن اضطرابات اجتماعية حصلت بها، فووجه سكانها بأن ارتكبت في حقهم انتهاكات. وتبعا لذلك واستنادا إلي علاقة التجاور والتساكن امتد الانتقام والانتهاك إلي المكان والجهة حيث مورس عليها الحرمان من المشاريع ومن خطط التنمية والتطوير والاستثمار. وفي التجربة المغربية تعتبر منطقة الريف الغربي نموذجا للجهة / الضحية بدءا من عقابها بأن سلطت عليها الغازات السامة لإخماد ثورة الريف في العشرينات من القرن الماضي، الي تهميشها وإهمالها عقب احداث الريف 1958/1959. وكما هو الامر بالنسبة للضحية هو الامر كذلك بالنسبة للجلاد، ذلك أن هذا الاخير في تجارب العدالة الانتقالية هم الافراد العينيون والإسميون الذين مارسوا وأمروا ونفذوا أشكال الانتهاكات علي ضحاياهم، كما ان الجلاد يتمظهر في النظام أو الدولة أو السلطة التي مورس في ظلها وبأمرها وتخطيطها، اعتقال وترويع وانتهاك حقوق الافراد والجماعات أيضا. وأما الحقبة فالمقصود بها الفترة الزمنية التي اشتغلت عليها كل تجربة من تجارب العدالة الانتقالية التي أشرنا إليها أو غيرها من التجارب التي لم نشر إليها. ومثلا بالنسبة لتجربة هيئة الانصاف والمصالحة في المغرب، فقد كانت الحقبة التي اشتغلت عليها واتخذتها موضوعا للكشف عن حقيقة ما جري فيها من انتهاكات تمتد من 1956 إلي 1999، أي حقبة تمتد علي مدي 43 سنة وهي أطول وأعقد حقبة اشتغلت عليها تجربة عدالة انتقالية لحد الآن، إن في افريقيا أو في امريكا اللاتينية حتي لانقول في العالم العربي الاسلامي لأنه لم تعرف تجربة مماثلة لما عرفه المغرب الذي يعد رائدا وسباقا في هذا الميدان.كيف أجابت تلك التجارب عن سؤال الضحية والجلاد والحقبة. لنأخذ مثلا تجربة لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا، أشهر تجربة ولجنة رأسها الاسقف ديسموند توتو، شكلت من أجل التقصي في انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبت في هذا البلد الافريقي ضد السكان الاصليين علي عهد نظام الابرتايد (نظام التمييز العنصري).لقد اعتمدت هذه اللجنة من بين ما اعتمدته من مسلكيات للكشف عن الحقيقة، وطي صفحة الماضي والعبور إلي المستقبل، إلي جانب جبر الضرر واقرار التعويضات للضحايا، اعتمدت طلب العفو أمام اللجنة من طرف المتورطين في الانتهاكات الجسيمة مقابل الافلات من العقاب. فكان ان عفت لجنة الاسقف توتو عن 849 من أصل 7.112 شخص متورط في ارتكاب الجرائم والانتهاكات ضد الضحايا، غير أن هذه المسلكية التي اعتمدتها لجنة توتو صادفت مقاومة وممانعة من طرف مرتكبي الجرائم، ذلك أنه وبعد مرور ست سنوات علي تقديم اللجنة تقريرها، يجاهر رئيسها انه كان علي جنوب افريقيا محاكمة مقترفي جرائم الابرتايد الذين لم يطلبوا العفو امام اللجنة، بمعني انهم لم يتعاونوا من أجل الكشف عن الحقيقة، وهذا الجانب في تجربة لجنة توتو نتلمسه واضحا صريحا في تقرير هيئة الانصاف والمصالحة عندما أشارت في تقريرها إلي المعيقات التي واجهت الهيئة أثناء الكشف عن الحقيقة، وإلي التعاون غير المتكافئ لبعض الاجهزة حيث قدم البعض منها أجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها، كما رفض بعض المسؤولين السابقين المحالين علي التقاعد المساهمة في مجهود البحث عن الحقيقة.تجربة أخري لافتة عرفتها امريكا اللاتينية هي تجربة لجنة فاليتش بالشيلي التي وضعت تقريرها بعد عمل استمر 13 شهرا، رصدت فيه الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت في الشيلي خلال حكم بينوشي الذي استمر سبعة عشر عاما (1973 ـ 1990)؟ ما يميز لجنة فاليتش هو التعويضات الممنوحة للضحايا في شكل معاشات والتأمين الصحي، كما يتميز التقرير الصادر عن اللجنة بإخفاء أسماء الضحايا واثبات حالات التعذيب فقط، واخفاء اسماء وهويات الجلادين علي اعتبار ان اللجنة هي لجنة للبحث والتقصي عن حقيقة ما وقع، وليست محكمة للعدل؟ فالقول هذا ما حدث، شيء، وهؤلاء هم المذنبون، شيء آخر كما قال رئيس جمهورية الشيلي ريكاردو لاغوس، معلقا علي انتقادات الجمعيات التي تدافع عن الضحايا في الشيلي، وهذا الملمح في لجنة فاليتش الشيلية يطالعنا جهارا في عمل هيئة الانصاف والمصالحة التي ينص نظامها الاساسي المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 10 نيسان (ابريل) 2004 والذي جعل منها هيئة غير قضائية ولا تثير المسؤوليات الفردية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي عرفها المغرب خلال 43 سنة امتدت من 1956 الي 1999. وتأسيسا علي هذا جاء تقرير الهيئة خلوا من اسماء الذين اقترفوا الانتهاكات في الآن ذاته معترفا بمسؤولية الدولة، وهذا الذي اعتمدته لجنة فاليتش وهيئة الانصاف والمصالحة أثار في الشيلي أو في المغرب انتقاد الجمعيات المدافعة عن حقوق الانسان التي طالبت بمتابعة المتورطين، وهو الموقف الذي يتضمن سؤالا هو: في فترات العدالة الانتقالية ماذا عسانا نطبق، هل نطبق العدالة العقابية حتي لا نقول العدالة الانتقامية أم نطبق العدالة الإصلاحية أو التأديبية؟ فهل بعد مرور أكثر من أربعين سنة، وهي الفترة التي اشتغلت عليها هيئة الانصاف والمصالحة نطبق العدالة العقابية.إنه واسترشادا بالتجارب الاخري التي عرفتها مناطق من العالم في ما يخص مرحلة العدالة الانتقالية، ولنأخذ مجموعة من دول اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وحتي الخمسينات، فإن الجرائم التي ارتكبت فيها ضدا علي حقوق الانسان وخرقا لها، قد تم تجاوزها وطيها والصفح عنها باسم المصالحة الوطنية اعتمادا واحتماء بالعدالة الاصلاحية والتأديبية بدل العدالة العقابية. فإسبانيا البلد الاقرب إلينا قد تجاوزت كل فظائع الحقبة الفرنكوية باسم الانتقال الديمقراطي، وتطبيقا للعدالة الاصلاحية حين تم وضع دستور للبلاد ينص علي تجريم الاضطهاد والتعذيب والاختفاء وكل المفاسد التشريعية والقانونية التي أحاط بها نفسه، النظام البائد في اسبانيا.ان التوصيات التي تضمنها تقرير هيئة الانصاف والمصالحة والتي تنص علي إعمال عدم الافلات من العقاب مستقبلا، إلي جانب التوصيات الاخري المتعلقة بإصلاح الدستور والقوانين القضائية والجنائية لمنع تكرار ما حدث في الماضي من انتهاكات، لهي توصيات انحازت إلي العدالة الاصلاحية في تجارب العدالة الانتقالية التي عرفتها الامم والشعوب.ہ كاتب من المغرب8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية