ينطلق كتاب الناقدة العراقية بشرى موسى صالح «الأعراف التداولية في التراث النقدي العربي» الصادر عن دار ميم للنشر في الجزائر2019 من إعلان نقديّ مؤداه أهميّة قراءة التراث والكشف عن أنساقه الفاعلة بالأمس واليوم، ففي قراءته التي تبدأ من لحظة البحث عن مضمونه المعاصر، وشكله المنضبط، تثار أسئلة تتضمّن فتح نافذة الحوار مع الحاضر، ونقد الماضي، وكسر أفق التقليد، وقطع سلسلة التبعيّة المقيتة، بلا تسفيه لخطاب (الآخر) الذي هيمن بمركزيّاته الثقافيّة على قسم كبير من وعينا الحديث، فضلا عن نقدنا.
بُني الكتاب من مقدمة، وست قراءات تبحث عن التفكير التداولي وإجراءاته في التراث العربي، أبدأ قراءتي من مقدمة الكتاب التي وجدتها غادرت شكل المقدمات الأكاديمية التقليدية، التي تبدأ بالحديث عن أهمية العنوان، لتنتهي في الحديث عن إشكالات تأليف الكتاب، فقد وجدتُ الناقدة في المقدمة، أعلنت عن مشروع قراءتها المغاير، وهي تدرك أن المقدمة في العرف النقدي المعاصر علامة توجيهيّة: قرائيّة من العلامات القصديّة التي تحيل على أفكار، ونوايا مبثوثة في متن الكتاب، أفصحت عنها حين حدّدت طبيعة العلاقة الرابطة بين الناقد والتراث، بوصفها جدلية نابضة بالتواصل، تبدأ من قراءة الأصول النقدية العربية قراءة عصريّة واعية، دون انقطاع عن فضاء النقد الحداثوي، ولا تنتهي عند نقاط التواصل المشتركة بين النقدين، مع فهم دقيق لطبيعة الربط النظري والمنهجي بينهما.
وإذ تقف الناقدة عند التداولية لتبحث عن رؤاها في النقد العربي القديم، فلأنها تعتقد أن في منطلقاتها النظرية، وإجراءاتها التطبيقية، تستلزم البحث عن الأصول؛ بمعنى أن لها صلة كبرى بالتراث وتشعباته البلاغية النقدية، التي يجب على الناقد المعاصر استنطاق محمولاتها في ضوء تحولاتها التأريخية، وقراءتها وكأنها من نقد اليوم، هذا يعني أنها تريد أن تقرأ التداولية في ضوء المحاولات التراثية التي كان لها شرف الإسهام في إيجاد ظاهرة نقدية تستدعي المرور عليها وفحصها، والوقوف عند امتدادات نصوصها، والإشارة إلى مكامن سلطة النقد القديم فيها، فهي تتبدى بلباس المغايرة المنهجية التي تسمح للمتلقي المعاصر أن يقيم معها صداقة ذوقية تتجلى بها ملامح الأمس المشرق.
وترى الناقدة في مقدمتها ضرورة النظر إلى النقد التداولي، على أنه جزء أصيل من الحراك الذي رغبت في الإشارة إليه، فقد ثبت لها ولمن سبقها في البحث التداولي، أن التداولية منطقة مشتركة بين السياق الشكلي النصي وهو ما موجود في الخطاب البلاغي القديم ، والسياق الدلالي بما يمتلك من جماليات ومظاهر شحذ فنية، ولما كانت حسب قراءتها تيار لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه، ويبحث في طرائق توظيف العلامات اللغوية بنجاح واستخلاص السياقات والطبقات المقامية المنجزة للخطاب، فإنها تعادل في التراث النقدي العربي علم المقاصد طبقا لرؤية الناقد مصطفى ناصف.
لقد وجدتْ الناقدة في الإحالة السابقة فرصة للإشارة إلى العمق التراثي العربي، وهو ما تجلى بوضوح في السياق التواصلي منزع النقاد المعاصرين، الذي أخذهم إلى الربط بين الحجاج، وهو طريق الاستدلال الذي لا يفارق الخطاب، والتداولية المقيمة للتعبير عن أسس فاعليتي الاستعمال والتواصل، لتقف عند مجالات الحجاج في التراث النقدي العربي، فتجده مائلا إلى معالم التداول الشعري، دون أن تقف عند مصطلح الجدل عند بعض النقاد والبلاغيين العرب، وهو يتجلى بشكل واضح في خطاب ابن وهب الكاتب في كتابه «البرهان في وجوه البيان» الذي أراد به الاحتجاج، أو الحجاج كما نفهمه اليوم، فهو على حدّ تعبيره: (قول يقصد به إقامة الحجة في ما اختلف فيه اعتقاد المتجادلين، ويستعمل في المذاهب والديانات، وفي الحقوق والخصومات، والتنصل في الاعتذارات، ويدخل في الشعر والنثر) ولعلّ ذلك الناقد عنى بالجدل أساليب المجادلة، التي تتوشّح بها الخطابات الأدبيّة، فليس الجدل نوعا أدبيّا قائما بذاته، إنّما هو مهارة بلاغيّة أدخلها الناقد في ما يجري في العبارة بقصد تقوية الحوارات، ووضعها في موضع الحجّة عند المتخاصمين، ودليلي أنّه قال إنّ الجدل يجري في الشعر والنثر بمختلف أنواعه؛ بمعنى أنّه يتخلل في سياقاتها.
لقد عنيت الناقدة في مقدمتها بالتداولية التي وجدتها، شأنها شأن مناهج ما بعد الحداثة تقيم في مقام التلقي والتواصل والاستعمال لتصاحب اللغة في سياقاتها الاستعمالية والمقامية، مرورا بعناصر السياق كله لتمنح القصدية بعدا استعماليا مهما، وهو ما فعله النقد القديم عند العرب حين ربط بين الفكر والإنتاج عند المؤلف، من خلال مصطلحات القصد والقصدية والتلقي والتواصل والاستعمال، وهي تتجلى في سياقات المقام ومقتضى الحال في التراث النقدي العربي.
أقف عند القراءة الأولى (في الطريق إلى التداولية) فأسقطها من شكل القراءة المستقلّة بنفسها لأنها كانت بمنزلة التمهيد للكتاب، وإن لم تنصّ الناقدة عليه، فقد انفتحت وظيفيا على الربط بين المقدمة والمتن، من خلال التذكير بالحراك التداولي المعاصر، والإشارة الدالة إلى قسم كبير من المصطلحات الفاعلة في ذلك الحراك من أمثال: الأفعال الكلامية والتداولية والفلسفة، والفضاء التداولي والتداولية والمناهج النقدية الحديثة، بمعنى أن الناقدة تولت التمهيد لما تريد، بسلسلة من الوقفات النقدية التي ستسهم في فهم الأعراف التداولية الخاصة بالتراث النقدي العربي، الذي تولى متن الكتاب الإحالة عليه من خلال جهود خمسة من النقاد القدماء.
في (المعايير التداولية في نقد ابن طباطبا العلوي) دخلت الناقدة إلى التراث النقدي القديم، من خلال مقولات ابن طباطبا في كتابه «عيار الشعر» الذي امتلك رؤية نقدية تداولية بدءا من عنوانه الذي أحال على عيار مستعار من المكاييل المادية، ليفترض وجود مقياس تداولي مناظر، تقاس في وجوده الموازنات النقدية وفق مكيال معلوم من خلال الحجاج، الذي تولى تحديد العلاقة بين الشاعر المبتدئ والشاعر النخبة على نحو يقرب بين المرسل والمتلقي.
وقفت عند وعي الناقد وهو يتقصى الاختلاف عند الشعراء في طبائعهم الشعرية، حتى يكونوا في سياق التواصل والتداول الشعريين، وكان القاضي، حسب الناقدة قد افترض في خطابه النقدي متلقيا افتراضيا صحبه في حواره النقدي، لكي يتداول معه أوجه التطابق والاختلاف.
افترضت الناقدة ثلاث مراحل اتضح فيها العيار التداولي عند ابن طباطبا وهي: المرحلة التعريفية التي قدم من خلالها الناقد الأدوات التي تنتج الشعر، والمرحلة الوسطى التي تجمع بين التعريف بأصول صنعة الشعر وإنتاجها، والمرحلة التداولية الخاصة، التي عمّق من خلالها الناقد البحث في الأثر الشعري ليقف عند أسراره، وكان العلوي، حسب رؤية الناقدة، حريصا في أطروحاته وإجراءاته بالتركيز على فاعلية الشعر، وهو يسهم في خلق الاستجابة التداولية، والإيحاء بأن تحصيل أصول صناعته لا يعني الوقوف على أسرار السحر الشعري؛ تلك التي تكمن في المثال البعيد.
في (المصاحبة التداولية في نقد الآمدي) رأت الناقدة في كتاب «الموازنة بين أبي تمام والبحتري» قصدا تداوليّا انتخب من خلاله الناقد المعيار المتحقق المثالي الخاص بعمود الشعر، الذي عدته عمود التداول عند العرب المبني، وفق مرجعيات تداولية اختزلها الآمدي بأوصاف نقدية دالة، حتى صار كتاب «الموازنة» يلبي مقصدية العمود التداولي، لتتمكن الناقدة من القول، إن عمود الشعر هو عمود التداول، ولا فاصل بينهما.
ورأت أن الآمدي أول ناقد عربي ما لم يكن آخرهم أفصح عن المأثورات النقدية، أو المؤثرات العرفية التي تداولها علماء الشعر ودارسوه، وكان العمود استقراء لها، وإقرارا لسلطتها التي هي سلطة التداول النقدي، وقد اقترن عمود الشعر عنده بما تداوله النقاد المعاصرون، وهم يتحدثون عن القارئ الضمني، فضلا عن أن ناقدا معاصرا عدّ شعرية ابي تمام والبحتري التي ابتكرها الآمدي وهو يقدّم لصناعة الشعر بمنزلة الأفعال الكلامية أو الإنجازيّة التي قال بها التداوليون.
وكانت الناقدة في (تداولية الشعر المحدث في نقد القاضي الجرجاني) وقفت عند وعي الناقد وهو يتقصى الاختلاف عند الشعراء في طبائعهم الشعرية، حتى يكونوا في سياق التواصل والتداول الشعريين، وكان القاضي، حسب الناقدة قد افترض في خطابه النقدي متلقيا افتراضيا صحبه في حواره النقدي، لكي يتداول معه أوجه التطابق والاختلاف، فكان الحجاج الحواري سبيلا إلى النقد، ولاسيما في مسألة المعاني الشعرية، وهكذا قدر له أن ينهج في نقده نهجا جديدا في تداول الشعر المحدث وإدراك عموده.
وللناقدة أن تقف عند (الأعراف التداولية في نقد عبد القاهر الجرجاني) لتكشف لنا أن هذا الناقد يقع في قمة الهرم الحجاجي التراثي، من خلال خطابه التأويلي التداولي الذي جعل من الحجاج ركنا مهما في التعبير عن المقصدية القرآنية، التي اعتمدت الشعر مادة، مع اعتماد أطروحات أخرى منها، تأكيد السياق التداولي بين المنشئ والمتلقي، ووقوفه المهم أمام الاستعارة، وكشفت الناقدة عن تداوليتها في إجراءاته المرتبطة بالفهم والذوق، حتى غدا في نظرها عابرا لعصره، وللناقدة الحق في ما رأت، فقد كانت جهود الجرجاني من الجدة بمكان ما جعلها تؤسس نمطا من البلاغة النقدية التي عبرت عصرها إلى العصر الذي نحن فيه، دون أن يُشك في حداثتها التي تنتمي إلى السيمياء والتأويل والتداول، ولاسيما في كتاب «دلائل الإعجاز» الذي ارتبطت الحداثة التداولية فيه بسياق التلفظ، وهو يخرج السياق النصي للعلن، دون أن يتجاوز المقام الذي وضع له الناقد أهمية كبرى في الفهم والتداول.
أمّا وقفة الناقدة الأخيرة فكانت عند (المنهاج التداولي في نقد حازم القرطاجني) الذي عدت كتاب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» نسقا نقديا تداوليا موازيا لكتابي عبد القاهر الجرجاني «الأسرار» و»الدلائل» مستندة إلى المقصدية التأليفية التي أفضت إلى وضع نظرية شعرية في المنهاج، مستقاة من تراث أرسطو في تقسيم أجناس الشعر وأنواعه، وهي ترى أن الكتاب يشتمل على قصد نقدي تداولي اعتنى بوضع السياقات التداولية للنظم الشعري، والمعاني الشعرية المثالية السائرة في فضاء القبول والتلقي عند العرب، وقد عمد إلى تصنيفها، وتبين سيرورة تداولها، وصولا إلى تبني فكرة تداولية المبنى، التي ارتبطت بالمعنى وكلاهما يرتبطان بالحجاج العقلي والذوقي والنفسي، ليذهب بعد ذلك إلى الحجاج في البناء الكلي للقصيدة، لتقف الناقدة في النهاية عند الحجاج الأسلوبي الذي عبّر من خلاله عن القران بين الألفاظ والمعاني، وهما يشكلان البنية الشعرية وصولا إلى تشكيل الأسلوب، وهي ترى أن الحجاج الثلاثي عند القرطاجني: المعنوي والبنائي والأسلوبي هو القوام الخاص بالقرطاجني الذي ارتكز على دعامة نقدية فلسفية أفادت من اليونان في ظل امتياح تفردها من الذوق العربي.
وبعد: فإنّ عناية الناقدة العراقية بشرى موسى صالح بالتراث، قراءة ونقدا تتساوق وضرورة العناية بالماضي، والحاضر لا لتغليب أحدهما على الآخر، بل للموازنة الكاشفة التي لا تتنكّر للمعطيات السليمة في أيّ منهما، وهي تغذّ الخطى لإدامة الصلة الجامعة بين رؤيتين قد تكونان مختلفتين في المسار، لكنهما متقاربتان في الاحتفاء بالحياة، لتجاوز ما هو خلافي في التراث إلى ما هو مشعٌّ وقارٌّ منبثق من خطاب يغني الثقافة الإنسانيّة.
أكاديمي وناقد من العراق