السرديات غالبا، لا علاقة لها بالحقائق؛ هي رواية تُسوّق لغايات سياسية. وقد تتحول إلى «حقيقة مطلقة» لا شك فيه حين تتبناها الدولة التي تفرضها قسريا على المجال العام، ويصعب الطعن فيها أو التشكيك أو محاولة الفهم أو التدقيق!
في يوم 15 حزيران 2014 نشرت «الدولة الإسلامية في العراق والشام/ داعش» صورا على الإنترنيت تظهر على ما يبدو مسلحيها وهم يعدمون العشرات من الجنود العراقيين، كما نقلت بي بي سي يومها، ونقلت أيضا عن مختص الشؤون العراقية في هيومان رايتس ووتش «أرين ايفيرز» قوله : «إعلان داعش عن قتل 1700 شخص يعتبر امتدادا لسياستها الهادفة إلى إشعال نار حرب طائفية»!
وكانت تلك الصور لجنود فروا من قاعدة سبايكر الجوية واستطاعت داعش أسرهم بعد دخولها إلى المدينة يوم 11 حزيران، في أعقاب سيطرتها على الموصل قبل ذلك بيومين، ثم قامت بإعدام أعداد كبيرة منهم، ووثقت عمليات الإعدام بنفسها.
الغريب في الأمر أن الدولة العراقية لم تصدر أية أرقام رسمية عن عدد الجنود الذين أُعدموا في تلك المجزرة البشعة؛ وقد أنكرت الحكومة في البداية الرقم الذي أعلنته داعش، وورد على لسان رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي نفسه، لكنها لاحقا تبنت هذا الرقم! وهذا ما يتضح من التقرير الذي أصدره «فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من جانب داعش» (يونايتاد) قبل أيام؛ ففي تقريرها المعنون «مجزرة مجمع القصور الرئاسية في تكريت ضد الأفراد الذين غادروا قاعدة أكاديمية تكريت الجوية « تقول بالنص: «حيث قتل فيها زهاء 1700 جندي ومتدرب ومتطوع أثناء فرارهم من قاعدة أكاديمية تكريت الجوية في الفترة الواقعة بين 12 وعلى الأقل 14 حزيران 2014».
ولا أعرف كيف أمكن لمحققين أمميين أن يتورطوا في تبني رقم أعطته داعش دون أن يتحققوا من «الدولة العراقية» عن أرقامها الرسمية لعدد الفارين، وعدد الذين أعدموا، بعد 10 سنوات كاملة من الواقعة حيث يفترضُ أن ثمة معاملات رسمية تتعلق بهم تكشف عددهم الدقيق!
التقرير يوضح أيضا، وبما لا يقبل اللبس بأن تنظيم داعش قد دخل إلى مدينة تكريت يوم 11 حزيران 2014، وأنهم جاؤوا في مجموعتين، أحدهما بقيادة والي تنظيم داعش في صلاح الدين نفسه، وأنه بحلول مساء اليوم نفسه، كان لدى تنظيم داعش خمس نقاط تفتيش منصوبة في المدينة. وأن نقاط التفتيش هذه هي من ألقت القبض على هؤلاء الجنود الفارين من سبايكر، وأنه عملية اعدامهم جرت «بعد التشاور مع قيادات تنظيم داعش العليا» وأن من انخرطوا في عمليات القتل هذه «حوالي 100 ـ 150 شخصا ينتمون لتنظيم القاعدة» وأنه «تم تصوير عملية القتل من قبل تنظيم داعش، وتم نشر فيديوهين اثنين على الأقل في وقت لاحق..»..
هناك سردية عن سبايكر يُراد لها أن تُسوّق لاستخدامها سياسيا وطائفيا، وليس مهما المعلومات المرتبطة بتلك السردية، مثل أعداد الضحايا الحقيقي، المهم أن تؤدي السردية غرضها
بعيدا عن الإشكاليات المهنية العديدة في تقرير يونايتاد، خاصة فيما يتعلق باعتمادها مصادر رسمية تمثل وجهة نظر غير مهنية ومتحيزة من الأصل (وجهت يونايتاد شكرها لمدير «المركز العراقي لتوثيق ضحايا التطرف» على الرغم من أنه مركز غير مهني) فإن تشكيل يونايتاد نفسها كان غير مهني لأنها تشكلت بموجب قرار مجلس الأمن المرقم 2379 الصادر في 21 أيلول 2017، وقصرت مهمتها على «جمع وحفظ وتخزين الأدلة في العراق على الأعمال التي ترتكبها داعش» حصرا، دون أن تمتد ولايتها بجمع وحفظ وتخزين الأدلة المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والجرائم التي ارتكبت في سياق الحرب ضد داعش من الأطراف جميعا! متجاهلا تقارير بعثة الأمم المتحدة في العراق التي تحدثت عن عشرات الاتهامات الموثقة والموجهة إلى القوات الرسمية بمختلف صنوفها، أو الميليشيات التي كانت تعمل بغطاء رسمي، بل متجاهلة اتهامات المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان نفسها التي تحدثت (في جلسة طارئة عقدت في جنيف 2014) عن ارتكاب كلا طرفي النزاع؛ داعش والقوات الرسمية أعمالا ترقى إلى جرائم حرب!
بالعودة إلى جريمة سبايكر، يفترض بأن تقوم الحكومة العراقية مثلا بمواجهة «السردية» المفبركة التي أطلقها أحد السياسيين السنة لأهداف انتهازية، والتي مفادها أن المتهمين الحقيقيين في جريمة سبايكر هم العشائر السنية في محافظة صلاح الدين، تحديدا العشائر التي تسكن في محيط مدينة تكريت، والعزة، والبو عجيل، والبيجات/ البو ناصر، وأن داعش يوم ارتكاب الجريمة الجمعة 13 حزيران/ يونيو، لم تكن قد وصلت تكريت بعد!
فقد ترتب على هذه السردية عمليات انتقامية بشعة وثقتها منظمة هيومان رايتش ووتش في تقريرها المعنون «دمار ما بعد المعركة ـ انتهاكات الميليشيات العراقية بعد استعادة تكريت» الصادر في 30 أيلول/ سبتمبر 2015. ففي هذا التقرير توثيق للعمليات الانتقامية التي جرت في هذه المناطق «ثأرا» لضحايا سبايكر، والتي تضمنت «نهب وإحراق وتفجير مئات المنازل والمباني المدنية في تكريت والبلدات المجاورة في انتهاك لقانون الحرب»!
أما في العوجة، موطن البيجات/ البوناصر فقد حدثت عمليات تفجير وحرق لمعظم بيوت المدينة، وكان الجيش هو من قام بذلك وليس الميليشيات، ولا يزال أهلها ممنوعين من العودة إليها حتى اللحظة!
كما أن عمليات الانتقام والثأر خلّفت مئات المختفين قسريا حتى اللحظة؛ وفي تقرير لبعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) حول وضع حقوق الإنسان في العراق 2016؛ نجد النص الاول عن اقتياد «عصائب أهل الحق نحو 500 إلى 550 رجلا من أبناء المكون السني … بمنطقة جزيرة تكريت، عقب عملية أمنية نفذتها قوات الشرطة الاتحادية بالاشتراك مع جماعات مسلحة، حيث أُفرج عن جميع الإناث من السكان بعد فترة وجيزة» وحتى هذه اللحظة لايزال مصير هؤلاء الرجال الذين اقتيدوا مطلع شهر آذار وأخفوا قسريا، مجهولا!
لم يُحاسب من أطلق هذه الكذبة التي أدخلت البلد في دوامة الثأر والانتقام، ولم تتدخل الدولة من أجل تجنب هذه الكارثة من خلال التحقيق الرسمي الموضوعي وكشف الحقيقة، وبالتالي المحاسبة وإنفاذ القانون؛ لأن الحقائق ليست مهمة في هذا السياق، بل السرديات، حتى وإن ثبت كذبها، لهذا لم يهتم أحد في الدولة العراقية بمسألة تدقيق الأرقام، أو إعلان رقم رسمي لضحايا جريمة سبايكر، تماما كما لم يهتم أحد بتشكل لجان تحقيقية في عشرات الجرائم الموثقة صوتا وصورة، مثل جريمة الإعدام الميداني لطفل الاسحاقي، أو جريمة سحق طفل آخر تحت سرف دبابة الدولة، او حرق رجل حيا وتعليقه مربوطا فوق النار من أطرافه الأربعة، أو تقطيع أوصال آخر وهو حي. كما لم يهتم أحد بالتحقيق في آلاف حالات الاخفاء القسري التي لاتزال الدولة «تغطي» عليها بشكل منهجي؛ فالجرائم في الدول الطائفية مثل العراق، تُصنَّف وفقا لهوية الفاعل وليس تبعا لطبيعة الفعل نفسه!
وحتى لو أجبرت «الدولة» على القيام بتحقيق، وأثبت هذا التحقيق وقوع جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، فإن المتهم سيختفي، وتختفي معه القضية برمتها، كما في حال المتهم هواري أبو مدين داؤود، أحد أعضاء منظمة بدر، الذي اتُهم بقتل 17 عشر مدنيا، ودفنهم في مقبرة جماعية، وقد أعلن عن توقيفه بانتظار محاكمته، ثم اختفى هو والقضية معا!
كاتب عراقي
” كما لم يهتم أحد بالتحقيق في آلاف حالات الاخفاء القسري التي لاتزال الدولة «تغطي» عليها بشكل منهجي؛ فالجرائم في الدول الطائفية مثل العراق، تُصنَّف وفقا لهوية الفاعل وليس تبعا لطبيعة الفعل نفسه! ” إهـ
هؤلاء تحت التراب !!
ولا حول ولا قوة الا بالله
هذا البلد اساسا يعتاش على الطائفية والفساد بكل ألوانه وان اي مساس بهما يؤدي إلى انهيار السلطه. لقد أحرقوا وسفكوا من دماء الأبرياء ما الله أعلم به.
ولماذا تصير انت على تكذيب أحد السياسيين السنه الذي اتهم عشائر تكريت بقتل جنود وضحايا سبايكر. اليست هذه دماء للابرياء وانت تعرف في صميم قلبك ان ما قاله السياسي صحيح ولكن لا تريد الا ان تضع الاتهام في خانه الشيعه وفي مقالك لم تستنكر داعش واطرفها ومن والاها بل اعتبرتها حركه.