بعد عشر سنوات من إنكار الجهات الرسمية، عادت قضية النزوح القسري المرتبطة بالتغيير الديمغرافي في العراق (الذي حدث في سياق الحرب على تنظيم الدولة داعش) والذي حظي بغطاء رسمي، لتصبح موضوعا للنقاش، ليس لتغيير طرأ في ذهنية الفاعل السياسي الشيعي الطائفية، والممارسات الانتقامية التي صاحبت عمليات التهجير تلك، بل بسبب الخوف من التهديدات الأمريكية المعلنة، والضمنية المرتبطة بإيران بشكل عام، وبالميليشيات العراقية التابعة لها بشكل أخص.
تواطأ المجتمع الدولي ومؤسساته الدولية بينها يونامي، وعلى رأسها القوات الأمريكية التي كانت الفاعل الرئيسي في التحالف الدولي ضد داعش الذي تشكل في أيلول 2014، حول ما جرى من عمليات نزوح قسري في العديد من المناطق (بل وعمليات تدمير منهجية، أيضا، لبعض تلك المناطق، كما في قرية العوجة مسقط رأس الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين؛ حيث قامت القوات الرسمية بتدمير وحرق بيوت القرية بالكامل) ومنع النازحون من هذه المناطق من العودة إليها على مدى السنوات العشر الماضية، بل صدرت قرارات رسمية لهذا المنع.
تقع ناحية جرف الصخر جنوب بغداد، وتتبع إداريا لمحافظة بابل، يسكنها بشكل رئيسي عشيرة الجنابيين السنية (يصل عددهم إلى 100ألف نسمة) وقد سيطرت عليها القوات الرسمية العراقية بشكل نهائي في تشرين الأول 2014. لكن منذ ذلك الحين مُنع أهلها من العودة إليها رسميا، وترافق ذلك مع عمليات إلغاء منهجية للعقود الزراعية التي يمتلكها هؤلاء النازحون، في سياق تكريس التغيير الديمغرافي الذي حصل في هذه المنطقة.
فبعد استعادة جرف الصخر بأيام قليلة، أصدر مجلس محافظة بابل بتاريخ 29 تشرين الأول 2014 قرارا بمنع أي نازح من العودة إليها لمدة ثمانية أشهر، بزعم تطهير المنطقة من العبوات الناسفة وتفكيك الدور المفخخة، على أن تتم إعادة العوائل النازحة بعد ذلك. لكن مجلس المحافظة نفسه عاد في نيسان 2017، (أي بعد مرور أكثر من 30 شهرا على استعادة المنطقة) وقرر بأن «عودة نازحي جرف الصخر السُنة مرهونة بإعادة البنى التحتية وإزالة الألغام»! وأصدر المجلس نفسه في آب 2017 قرارا آخر يقضي بإقامة دعاوى قضائية ضد أي جهة حزبية أو سياسية تطالب بعودة نازحي جرف الصخر!
ولم يقتصر الأمر على الجهات الرسمية، بل كانت ثمة تغطية اجتماعية أيضا لهذه السياسات الطائفية تحت ذرائع شتى، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في طبيعة مناقشة هذه الموضوعات سياسيا، أو في الإعلام أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
لم يكن قرار التغيير الديمغرافي في جرف الصخر مجرد قرار إداري، بل كان قرارا سياسيا اتخذه الفاعل السياسي الشيعي على أعلى المستويات؛ ففي ورشة عمل خاصة عقدها مركز كارنيجي للشرق الأوسط حول «مسألة التمثيل السني في العراق» (عقد في كانون الثاني 2016) كنت مدعوا لها، أخبرنا الشيخ عدنان الجنابي، وهو الشيخ العام لعشيرة الجنابيين في جرف الصخر، وكان يومها عضوا في مجلس النواب، أن رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي قد أبلغه شخصيا، حين تحدث معه بشأن عودة نازحي جرف الصخر، بأن قرار جرف الصخر ليس قرارا عراقيا، بل قرار إيراني. وأن عليه أن يذهب إلى إيران لمناقشة هذا الموضوع معهم! وبعد أكثر من سنة أكد الدكتور أياد علاوي هذه المعلومة في مؤتمر صحافي عقده في محافظة بابل في أيار 2017 حيث كشف علاوي أن الشيخ عدنان الجنابي قد ذهب إلى إيران بالفعل، ولكنهم أبلغوه أن قرار جرف الصخر بيد «شخص في لبنان»!
عادت قضية النزوح القسري المرتبطة بالتغيير الديمغرافي في العراق (الذي حدث في سياق الحرب على تنظيم الدولة داعش) والذي حظي بغطاء رسمي، لتصبح موضوعا للنقاش
وقد تحدثت شخصيا مع ثلاثة نواب لوزارة الخارجية الأمريكية حول موضوع جرف الصخر، وكانت إجاباتهم دبلوماسية وفضفاضة لا تحيل على شيء؛ حول الثقة بالحكومة العراقية وإجراءاتها بهذا الصدد! كما أن يونامي لم تشر في تقاريرها حول حقوق الإنسان في العراق، أو في إحاطتها لمجلس الأمن، حول عمليات المنع المنهجية للنازحين من العودة إلى مناطقهم، والتي تجري في مناطق عديدة في العراق وليس في جرف الصخر وحدها. بل كانت ردودها غالبا عبارة عن إشارات عامة حول هذه المسألة. وفي إحاطة للممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش في مجلس الأمن في 22 مايو 2017، عبر الأخير عن قلقه بشأن ما سماه «تأخير عودة النازحين إلى مناطق حررت منذ أمد بعيد مثل منطقة جرف الصخر السنية أو أماكن في محافظة ديالى» ولم يشر بطبيعة الحال إلى أن ثمة قرارات رسمية تمنع هذه العودة، أو إلى الاتفاقات «الرسمية» التي حدثت وفرضت على الأهالي شروطا «مذلة وقاسية وذات طبيعة طائفية» للسماح بعودة النازحين، كما حدث في مناطق يثرب وعزيز بلد في محافظة صلاح الدين.
وحين أشرنا الى التواطؤ المجتمعي الذي تغذيه الدولة نفسها بمؤسساتها وقوانينها، فإننا نشير أيضا هنا الى ضلوع بعض النخب المجتمعية في التحريض على النازحين والدعوة الى منعهم من العودة، ففي عام 2019 مثلا كتب صحافي قريب من الميليشيات الشيعية المسلحة، ويشغل منصب مدير في الدولة العراقية، وبشكل علني عما أسماه نموذج «المناطق منزوعة السكان» الذي طُبق في جرف الصخر، ودعا الى تطبيقها في مناطق أخرى، بينها منطقة الطارمية في بغداد، ولم يحاسبه أحد على الأقل بموجب المادة 7/ د من نظام روما الأساسي، الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، الذي ينص على أن «إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان» يعد جريمة ضد الانسانية. على الرغم من أن الدولة العراقية ومؤسساتها ومسؤوليها حريصون جدا على ملاحقة كل من ما ينشر في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي واتخاذ إجراءات تعسفية، وغير قانونية في أحيان كثيرة، ضد أي حرف لا يعجبها!
لا يمكن فهم المناقشات الأخيرة التي أجراها الفاعلون السياسيون الشيعة في الإطار التنسيقي حول عودة نازحي جرف الصخر والعوجة، (لم يدر النقاش حول كل الحالات والمناطق التي منع فيها النازحون من العودة إلى مناطقهم) سوى على أنها استجابة سياسية تكتيكية للمتغيرات التي حصلت في الإقليم، تحديدا تطورات الموقف الأمريكي من إيران وأذرعها في المنطقة، ودافعها الجوهري هو الخوف من الاستهداف المباشر من إدارة ترامب القادمة، ولا تؤشر على تغيير حقيقي في الممارسات الطائفية التي تعتمدها الدولة في العراق، وهو ما يجعلها مجرد ورقة للمناورة، وليست تراجعا حقيقيا عن تلك الممارسات.
كاتب عراقي
سيتغير الوضع قريباً يا دكتور !
ما طار طير وارتفع , إلا كما طار وقع !!
ولا حول ولا قوة الا بالله