أخيراً؛ ساعدت الثورة في العراق، والتي اندلعت في أوَّلِ أيّام تشرين الأول/اكتوبر 2019، على إكمالِ لوحة ما يُعرف بـ «زعيم التيار الصدري»، نسبةً إلى مقتدى الصدر.
هذا الرَجُل؛ أي الصدر، نستطيعُ اعتبارهُ، نُسخةً من لوحة «ابن الإنسان». رَسَمَها؛ رينيه ماغريت. طبعاً، هو نسخةٌ سياسية. أسامة الغزالي حرب، من الممكن أن يوفِّر لنا، أقلام كاربون، لرسم تقريبي عن الصدر، والذي يبدو رَجُلاً بدونِ وجه في عالم السياسة الشيعية. حرب؛ وفي كتابهِ (الأحزاب السياسية في العالم الثالث)، نَثَرَ ريش كلمات؛ موريس دوفرجيه، على عتبةِ الوعي، لتصنيفِ مَثْلِ هكذا مُنتجات حزبية، تخرجُ من مصنعٍ قَرْوَسْطيّ: الأحزاب ذات النشأة الخارجية وهي التي تشكلت خارج إطار الهيئة التشريعية وتحمل نسبةً من التحدي للنظام القائم. اللقطةُ المميّزة الأخرى التي يستعرِضُها لنا حرب، مِنْ شريطِ صِوَرِ دوفرجيه: إنَّ هذهِ الأحزاب الخارجية مميزة بأيديولوجيتها المتطرفة سواء العلمانية منها أم الدينية وتكون ذات توجهات قومية أو مقاومة للاستعمـار.
الصدر الهارب مِنْ خَشَبَة الصليب الأمريكية
إذاً؛ مقتدى الصدر، الأبنُ الرابع لِـمحمد محمد صادق الصدر، وبعد تحميضِنا لكلمات دوفرجيه، في غرفةِ حرب (كتابهِ)، لا يعدو؛ هو وتيّارهُ السياسي- التيّار الصدري، سوى ردَّةِ فعلٍ على حدثٍ خارجي، هو الاحتلال الدولي للعراق، سنة 2003. هنالك مزيدٌ من الريش- المعلومات، نستطيعُ انتزاعها من التاريخ. الصدرُ الرابع هذا، من المواليد الأغسطُسيّة؛ . خَرَجَ إلى الوجود البشري، يوم الـ 12 مِنْ آب/أغسطُس، ليُشبه مولوداً أغسطُسيّاً آخر، هو محمد المهدي بن عبد الله بن فحل. أُرِّخ وجودهُ على البسيطة، يوم الـ 8 من آب/أغسطُس.
فارقُ الـ 130 سنة بين ولادةِ الاثنين (1843-1973). أعاد تسمية الثورة المَهْدَوْيَة السودانية، ضِدَّ بريطانيا، إلى ميليشيا جيش المهدي. هذهِ المرّة ضِدَّ العم سام؛ الأمريكي.
المليشيا المَهْدَاوْيّة، وحسبِ أدبياتِها ، لتبرير تأسيسِها، وبما مفادهُ: جئنا لنُفشِل، تأسيس محطةِ رصدٍ لليانكيز، للاستعداد لعودة المهدي، آخِرُ حلقة- إمام- في سلسلة الأئمة الاثني عشر، المُنحدرين من صُلبِ الرسول العربي، عن طريقِ ابنتهِ فاطمة. الدَورُ الحقيقي الذي لعِبتهُ هذهِ: الميليشيا، الصدرُ الرابع، وتيّارُها السياسي- التيّار الصدري، في الحياة الشيعيّة العراقية.
بعد حربُ النجف؛ الأولى والثانية؛ سنة 2004، والتي قرر النحاسيون الكِبار (الضباط ذوو المراتب العسكرية العالية) في جيش الاحتلال الدولي، القيام بِها، ضِدَّ مقاومة الميليشيا المَهْدَوْيّة، أعلنوا خفضِ رُتبة الخطر الصدري، إذ شهدت الحركة الصدرية، انشقاقات قيّصَريّة، حفَّزها ولي الفقيه الإيراني؛ علي خامنئي. تلك الانشِقاقات، والتي باتت تُعرف بـ «المجاميع الخاصة»، حَقَنها تصدير الثورة الخُمينيّة؛ الحرس الثوري الإيراني، في جسد التيّار الصدري. هكذا؛ رأينا عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله و.. إلخ، تخرجُ من فَمِّ التيّار.
سنة 2008؛ نستطيعُ اعتِبارها: السنة التي شهدت سقوط الأسنان اللبنية، لبراءة التيار الصدري؛ المتوحشة الطابع. في هذهِ السنةِ تحديداً، أصبح الفَمُ الصدري، أدرداً من كُلِّ شرعية اجتماعية وسياسية. طبيبُ الأسنان الذي أشرف على العملية، كان رئيس الوزراء السابق؛ نوري المالكي، والذي اختار محافظة البصرة- جنوب العراق، كغُرفةِ عمليات، ضِدَّ جيش المهدي.
بدأ الصدر بعد هذا التاريخ، وبالتقسيط الإعلامي المُريح، برمي حمولات الفظائع التي ارتكبتها هذهِ الميليشيا، مِنْ عباءتهِ الدينية. جمَّد الجيش، تبرَّأ من البعض، وأعلن غيبةً صغيرة، بحجَّةِ الدراسةِ العلميةِ في قُم. عليك أن تصيح دائماً مع الجماهير، هذا ما أقوله. إنها الطريقة الوحيدة لأن تكون آمناً. الأهم أن الصدر بدأ بقنص المالكي إعلامياً، كاد أن يصيدهُ سنة 2010، بِتحضير سِهامٍ برلمانية، لإقالتهِ. لكن أستاذهُ الحوزوي في قُم، كريم الحائري، ذكَّرهُ؛ بِحُرمةِ صيد المالكي، لأنهُ غزالٌ يعدو في الغابة الشيعية.
باستخدام «السوشيال» ميديا، بدأ الصدر بعد 2010، برحلةِ سفاري، لقنص القلوب العراقية. الأحراشُ السياسية في العراق، والتي أينعت بسبب السماد الإقليمي والدولي، ساعدتهُ على ذلك. طبعاً لا ننسى البيوت الزُجاجية للفساد. احتطبَ الصدر من جميع اللاعبين السياسيين. المالكي كان شجرةً سحريةً له؛ وجد أنهُ كلما احتطبَ منها، زاد صيتهُ اشتعالاً. الشجرة كانت تعودُ للنمو، لكنها مع كُلِّ ضربةِ فأسٍ صدرية، تقرعُّ من أغصان النفوذ، ويتساقطُ المزيدُ من شَعرِها.. الحلفاء السياسيون. في 2014؛ سقط المالكي من شجرةِ حزب الدعوة. استطاع الصدرُ عندها أن يستخدم حيدر العبادي، والذي كان أفضل رئيس وزراء- تقييمي الشخصي- كحبّات فاصوليا سحرية. أصبحت رياحاً لمِنطاد الصدر. حام مِنطادُ الصدر السياسي، في السماء العربية، لكن المطار الإيراني، ظلَّ الوحيد القادر على تحمُّلِ ثُقلِه الشيعي.
استطاع الصدر أن يحوِّل البسطاء من العراقيين إلى أفرانٍ، لإنتاج بسكويت ماري انطوانيت.. الأمل بدولةٍ لجميع العراقيين. إنتاجُ أفران ماري انطوانيت، لم يكن مُخصصاً للبسطاء، وإنّما لاصطيادِ أفواه العلمانيين؛ كالشيوعيين العراقيين. ربّما وللمفارقة، استطاع تعريق مُذكّرات هاشمي رفسنجاني، والتي سجّلت صفحاتُها من بين أشياءٍ كثيرة، كيف استفاد رِجالاتُ الثورة الخُمينيّة من كُلِّ الأحزاب التي اشتركوا معها في زعزعةِ آخِر عرشٍ بهلوي.
نجح الصدر عراقياً وحتّى عربياً، في ما فشِلت في المغامرة الماركسية النبيلة، لِخالد أحمد زكي. ذَكَرَ عنها؛ هادي العلوي؛ في كتابٍ حررهُ حيدر جواد وخالد سلمان (هادي العلوي/ حوارات الحاضر والمستقبل: جاء خالد من لندن بعد أن عمل في معية الفيلسوف برتراند راسل وانتقل فجأةً إلى الأهوار فلم يفهم الفلاحون منه شيئاً ولم يفهم هو من الفلاحين شيئاً وبقي سنتين لم يزد اتباعهُ فيهما على الثمانية. سلوك الصدر السياسي، جسّد واقعيّاً، ما سجَّلهُ كِتاب (نواصب و روافض)، مِنْ تحليلٍ لـفالح عبد الجبار: تحوّل العراقيون من مخلوقات محلية، وأسيرة صندوق مغلق تسيطر عليه الدولة إلى مواطنين عالميين، وانخرطوا في شبكات وسائل الإعلام الكونية، والمنظمات غير الحكومية والهيئات العالمية.
بهاء الأعرجي؛ ربّما كان أكثر سياسيٍ صدري، اكتسب سُمرة الشُهرة، بسبب التعرض الطويل، لشمسِ الفضائيات التلفازيّة. «برونزاج» الشُهرة، وظِلُّ الشمس التلفازية، لم يستطع في بحرِ سنة 2016، صَدَّ غيوم؛ سُلطة الزعيم الصدري عنه، حيثُ زُجَّ في قُضبان منطقة الحنانة؛ في محافظة النجف. هكذا تحوّلت الحنانة، إلى «باستيل»صدري، كشَفَ من بينِ ما كشف، إنَّ عباءة الزعيم، تُخفي محاكماً، لِجان نزاهة، قُضبان زنزانة.. وإلخ من مُعلّبات سُلطة الدولة، تلك التي فسِدت بشكلٍ كُلّي بعد 2003، نتيجة المواد الحافِظة، للزعامات الدينية بشكلٍ أساس. ولِد الصدرُ بعدها، سليماً مُعافى، مِنْ كُلِّ السياسيين الصدريين، والذين أصبح كِرشُ فسادِهم، أكبر من قُدرة العباءة الصدرية على منعِ بروزهِ.
لعبة السلطة
لُعبة السُلطة السياسية، وعباءة القداسة، كثيراً ما اجتمعا بعدها، لصُنعِ غسّالة صدرية، لتنظيف هذهِ الحركة السياسيّة، من الأفراد المُلطخين ببقعِ فسادٍ، تشبهُ البُقع النفطية في البِحار
الصدريون العاقلون، حاولوا؛ حماية مِنطاد الفاصولياء، بالتحليقِ بهِ بعيداً عن الإبر الصديقة، للفاسدين الصدريين، أولئك الذين بدأت غسّالة النزاهة الصدرية، بِحشرِهم في دوراتِها السريعة، منذُ أيار/مايو 2019. المحاولة جاءت في حزيران/يونيو 2019، لِتُعلِن عن وضع الغسّالة في متحف التوازنات الداخلية، لكن ما حدث، كان إن الإبر الصديقة، قررت ثقب المِنطاد، مُتمنين كما نتصوّر: احتِراق ما تبقى منه بعد هبوطهِ الاضطراري في أفرانِ ماري انطوانيت!
أيضاً؛ نيرانُ التحالُفات الصديقة- الشيوعيون العراقيون- رشقوا المِنطاد، برصاصٍ إعلامي، إذ إنَّ تحالُفِهم مع الصدريين، والذي انتج «سائرون»، بشرعيةٍ علمانية، قَبِلَ تدريع قانون سانت ليغو، بمزيدٍ من الطبقات السميكة. اختِصارُها قسمة الأصوات الانتخابية على 1.9، وبذلِك فإنَّ مائدة الأصوات الانتخابية، يجلسُ عندها الشيوعيون، ويأكلُ الصدريون منها فقط. التحالفُات الصديقة، عبّرت عن ذلك بكلماتٍ، أوحت ضمنيّاً؛ إنَّ الصدريين إمّا حيّة وإمّا عقرب: لُدِغنا مرّتين. النجاةُ من كُلِّ ما تقدَم ذِكرُه ؛ جاء من الثورةِ. بدّل الصدريون مِنطادَهُم بِقُبّعَةٍ زرقاء.
رفض المتظاهرون في كُلَّ المحافظات العراقية، أن يتسلل السياسيون إلى أسرَّة ساحات الثورة. الزعيمُ الصدري، كان واحداً من المرفوضين، لكن البطش الحكومي، الميليشيات، القتل، والمصير المجهول لكثيرٍ مِنَ الناشطين، دفع تشرينيّ ساحة التحرير، في العاصمة بغداد، إلى القبول بالاستعانةِ بالصدريين. أصبح الصدريون بِقُبّعَاتِهم الزُرق، قوات يونيفيل، لكن يجبُ أن نسأل: هل هم يونيفيل عراقي، شيعي، أم حزبي؟
ما توصلتُ إليه، إنّهُم لبِسوا قُبّعاتٍ زُرق بتدرجاتٍ مُختلِفة. في البداية أزّرقوا لصالح التشرينيين، بعد أن صَلُبَ عودُ الثورة، بدِماءِ مئاتٍ من الشهداء، أوصال المعوّقين، وأنّات آلاف الجرحى. خفَّت الزُرقة بـما باتت تُعرف بـ «جريمة ساحة الوثبة». تناسى زعيمُ الزُرق: الدِماء، والسلمية. سخّنت تلك الحادِثة المُفبركة والشنعاء في نفس الوقت، دِماء العدالة في عروقهِ. دفعتهُ يوم الـ 12 من كانون الأول/ديسمبر إلى إعلان البراءة من الثورة.
بعد استِقالة رئيس الوزراء؛ عادل عبد المهدي، تَرَكَ لتحالُفِ «البناء»، اختيار رئيسٍ جديد للوزراء. الخطوة الأخيرة التي رصدناها، والتي ليست بالغريبة، أنهُ وبعد مقتل قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، بضربةٍ أمريكيّة. قام الزعيمُ الصدري وعبر الأفواه السياسية التي تنطقُ بكلماتهِ في قُبّة البرلمان العراقي، بالدعوةِ إلى خروج القوّات الأمريكية.
الصدر حسبِ تعريف الأحداث، وبكلِمات انطونيو نيغري ومايكل هاردت، هو: الإنسان الذي نجح أكثر من سواه في الوصول إلى أُذن الحاكم. إذاً نستطيعُ أن نغبِط هذا المولود الأغسطُسي، على عينهِ الثاقبة؛ هو يعرِفُ إنَّ الحاكم: يكونُ مرّة شعباً، مرّةً حزباً، ومِراراً؛ مُجرّد دُمية إقليمية أو عالمية!
كاتب وصحافي من العراق
مقال ساخر رائع! يستحق أن يُقرأ مرتين!! ولا حول ولا قوة الا بالله