في مؤتمر صحافي عقد يوم 26 ديسمبر الجاري في العاصمة بغداد حضره العديد من الشخصيات السياسية العراقية، أعلن ما سماه القائمون على المبادرة اسم (مبادرة الإصلاح الوطني)، وغايتها رسم خريطة طريق عراقية للطبقة السياسية الحاكمة اليوم، نتيجة الهزات التي شهدتها المنطقة منذ طوفان الأقصى حتى الآن. قرأ نديم الجابري البيان التفصيلي لمبادرة الإصلاح الوطني، والجابري أستاذ جامعي مختص بالعلوم السياسية، لعب أدوارا سياسية مميزة بعد سقوط نظام صدام عام 2003، إذ طرح نفسه كسياسي شيعي، وشارك بفعالية في تأسيس حزب الفضيلة الإسلامي، الذي مثل أول الانشقاقات السياسية، التي خرجت مبكرا من عباءة التيار الصدري.
وشغل الجابري منصب نائب في المجلس الوطني المؤقت، ونائب في الجمعية الوطنية الانتقالية، التي أشرفت على كتابة الدستور، ونائب في مجلس النواب العراقي في دورته الأولى، حيث كان رئيسا لكتلة الفضيلة النيابية ضمن الإئتلاف العراقي الموحد، الذي مثل الكتلة الشيعية في البرلمان. كما شغل منصب الأمين العام لحزب الفضيلة الإسلامي، حتى عَزَله رئيس الحزب الشيخ محمد اليعقوبي من المنصب في عام 2007. ومنذ ذلك الحين بات الجابري يقدم نفسه بصفة سياسي مستقل.
مفتتح بيان المبادرة، شرح الأسباب التي دفعت بقطاع من الفاعلين السياسيين لإطلاق مبادرتهم، إذ جاء فيه: «يبدو أن عاصفة التغيير التي انطلقت من غزة ومرت ببيروت واجتاحت دمشق، ربما تمتد إلى العراق، إذا لم يتدارك حكماء العراق الوضع الصعب في البلاد، والناجم عن الفساد والهدر وتهريب العملة الصعبة وسوء الإدارة. ومن أجل تجنب عاصفة التغيير المقبلة نحو العراق، لا بد من الشروع بمراجعة العملية السياسية في البلاد، لأنها وصلت إلى أبواب مغلقة لا تتمكن من الولوج منها إلا بمساعدة القوى الوطنية الواعية، وقد آلت القوى الوطنية على نفسها تحمل هذه المهمة الصعبة، ودعوة القوى السياسية جميعها إلى تنفيذ بنود هذه المبادرة، التي يمكن وصفها بمبادرة الفرصة الأخيرة».
لم تكتف ورقة مبادرة الإصلاح بتأشير الخطوط العامة للإصلاح السياسي المطلوب تنفيذه في العراق، بل دخلت في تفاصيل مشاكل السلطة التنفيذية وعددت معضلاتها وطالبت بحلها
إذن نحن أمام مبادرة يعتبرها القائمون عليها بمثابة الفرصة الأخيرة للتغيير السلمي، ولذلك قاموا بدق جرس الإنذار لتنبيه القوى الممسكة بالسلطة في العراق من تسونامي التغيير الإقليمي الجارف، الذي أصبح يهدد استقرار العراق ويهدد طبقته السياسية بالاجتثاث، لكن إذا أمعنا النظر في الشخصيات التي كانت تقف على منصة المؤتمر الصحافي خلف الدكتور نديم الجابري، وقرأنا الأسماء التي وقعت على البيان، سنعرف أن المشاركين هم شخصيات مستبعدة عن كعكة السلطة، التي يمسك بها الساسة الشيعة في الإطار التنسيقي، الفصيل المقرب من طهران، بمشاركة الساسة الكرد شبه المستقلين في إقليمهم، وبعض الحلفاء السنة. نستطيع القول إن لغة المبادرة كانت تكيل اللوم لقوى الإطار التنسيقي، وما انساقت فيه من سياسة الانجرار والدوران في الفلك الإيراني، دون معارضة ولا حتى نقاش، لذلك قام المبادرون بتقديم نصيحة سياسية في محاولة لخلق توازنات إقليمية تستوجبها خريطة (الشرق الأوسط الجديد) التي يرون أن تغيراتها مقبلة لا محالة. إذ أوجزت المبادرة الامر بالقول؛ «من الضروري أن يدرك الجميع أن هناك نظاما دوليا جديدا أخذ يتشكل، ولا بد أن نساهم في صياغته وأبعاده، لا أن يفرض علينا بشكل قسري، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية». وهدد أصحاب المبادرة فرقاءهم السياسيين الممسكين بالسلطة في العراق بقولهم: «من الضروري أن يدرك الجميع أن هنالك نظاما إقليميا جديدا سيحكم منطقه الشرق الاوسط، ولا بد أن نكون أحد أقطابه، وإلا سنعرض بلدنا إلى المخاطر الكبيرة. ومن الصعب التكيف مع هذه التشكلات الدولية والإقليمية دون مراجعة السياسة الداخلية والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية للبلاد، مع الأخذ بالتحولات الاستراتيجية الاتية. لا بد من عقد تحالفات استراتيجية متوازنة مع محاور القوة، ومحاور العقل السياسي، ومحاور التكنولوجيا المتقدمة في النظام الدولي الجديد».
فما هي المحاور المشار لها؟ مثال ذلك محاور القوة إقليميا، هل يعني المبادرون تطبيع العلاقات العراقية مع تركيا وإسرائيل وكتلة الدول الخليجية الفاعلة، كالسعودية وقطر والإمارات العربية؟ وهل تعني محاور العقل السياسي دول الاتحاد الأوروبي وروسيا مثلا؟ ومحاور التكنولوجيا المتقدمة هل تعني الصين بالنسبة لورقة المبادرة؟ كل هذه الاحتمالات لم تشرحها المبادرة بشكل واضح وتركتها نهبا للتكهنات، لكن هناك إشارة مهمة جاءت بصيغة: «لن يتمكن العراق من ذلك ما لم يتحول إلى دولة مدنية ناجحة، ولن يتمكن العراق من عقد تلك التحالفات الدولية، إلا إذا استرد دوره المحوري في المنظومة العربية وتحالف معها استراتيجيا. ولن يتمكن من ذلك ما لم يتخل عن الخطاب الديماغوجي وفلسفة المكونات البدائية، ليكون خطابه خطاب دولة لا خطاب طوائف».
لم تكتف ورقة مبادرة الإصلاح بتأشير الخطوط العامة للإصلاح السياسي المطلوب تنفيذه في العراق، بل دخلت في تفاصيل مشاكل السلطة التنفيذية وعددت أهم المعضلات التي تواجهها وطالبت بحلها، إذ وضعت كل معضلة مسبوقة بعبارة (لا بد من) دون توضيح آليات الحلول، التي استعصت على الحكومات العراقية طوال عشرين عاما، مثال ذلك: «لا بد من الانتهاء من مشكلة الطاقة الكهربائية في غضون سنتين لا أكثر، ولا بد من وضع سياسات فعالة لتحريك الاقتصاد وإنهاء مشكلة البطالة. ولا بد من تحقيق الأمن الغذائي للمواطنين كافة، خاصة تأمين البطاقة التموينية، ولا بد من إعادة النظر في سلم الرواتب ليكون أكثر إنصافا وعدلا».
أما تأشير مشكلة التعليم والوضع العلمي في العراق فقد تناولته ورقة مبادرة الإصلاح مسبوقا بـ(لا بد) أخرى إذ جاء فيها: «لا بد أن يدرك الجميع أن ميزان القوى الدولية تحدده قدرات الدول العلمية والتقنية. والواقع أن العراق تراجع كثيرا في هذا المجال، لذلك لا بد من تحسين التعليم المدرسي بشكل مدروس وتحسين نوعية التعليم الجامعي، وربطه بحاجات التنمية، والتركيز على مراكز البحوث العلمية لأنها الأساس في التقدم العلمي». وفي مواجهة أكبر معضلتين في الحياة السياسية العراقية طوال العقدين المنصرمين، قدمت المبادرة إصلاحاتها بجرة قلم، هكذا، دون أن نفهم ما هي الآلية التي سيتم تطبيقها لحل هاتين المعضلتين وأعني: الفساد السياسي، وإصلاح قانون الانتخاب والتمثيل السياسي. إذ أشارت المبادرة إلى مشكلة الفساد بالقول: «من أجل مكافحة الفساد السياسي والمالي والإداري لا بد من إجراء عقود سيادية مع شركات محاسبة ورقابة مالية أجنبية معتمدة، ولا بد من معالجة الأساليب البيروقراطية في دوائر الدولة، بالمقدار الذي يسهل للمواطن إنجاز معاملاته بانسياب وبما يحفظ كرامته».
أما مشكلة الانتخابات وتقلبات قوانينها، التي مرت بها العملية السياسية، فقد جاءت مبادرة الإصلاح لتضع الحل فتقول؛ «لا بد من استعادة ثقه المواطن بخيار الانتخابات، ودفعه للمشاركة الواسعة فيها. وهذا لن يتحقق إلا بالشروط الآتية: سن قانون انتخابات تراعى فيه المصلحة العامة. على أن يعده فقهاء العلوم السياسية والقانونية، وبإشراف الأمم المتحدة المباشر على الانتخابات. ثانيا اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع توظيف المال السياسي وقدرات الدولة في الانتخابات. وثالثا تطبيق قانون الأحزاب بشكل كامل ودون استثناءات».
ومن قراءة ورقة المبادرة يتضح أنها صرخة اخرى ستضيع هباء في خرائب العملية السياسية العراقية، وإن التخوف من سياسة المحاور الجديدة في الشرق الأوسط ستفرض شروطها على العراق، وقد بات واضحا أن كل الفرقاء السياسيين اليوم يتمنون أن تمر عمليات التحول والتغير الجيوسياسي بأقل الخسائر بالنسبة للعراقيين الذين لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من النكبات.
*كاتب عراقي
يحسب لصدام حسين انه وضع التكبير لله “الله اكبر” على علم العراق حيث لا يستطيع لا طائفي ولا كاتب ولا معلق ولا رئيس وزراء ولا غيرهم من الامعات “جمع إمعة” ازالته.