العرب بحاجة للسفسطة الآن

أُريدَ للحكمة اليوم أن تكون مموهة مضللة لا تفضي إلى شيء جلي، فالحكمة المباشرة في عصرنا هذا لا تقود إلا للمهالك. وفي ما يلي من سطور، توضيح للسبب الذي يدعو إلى التمعن في السفسطة من واقع الحال، ليس لأنه موضوع فلسفي ضارب في القدم، بل لأنه شيء بتنا نعيشه من دون أن نسميه.
يجهل الكثيرون عن السفسطة أنها لم تبدأ حيث انتهت، ويروج المعنى الشائع لها على أنها الجدل العقيم الذي لا يفضي إلى نتيجة، أو السؤال الذي ينتهي بسؤال، أو تلك الحكمة المموهة التي تنتهي بمزيد من الغموض واللامعرفة، مستمدةً قوتها من المنطق والحجة وإن كانا في غير حق. هذا التعريف فيه شيء من الحقيقة، لكنه ليس إلا مآل السفسطة الأصل، والمنتهى الذي وصلت إليه معارف الإغريق اليونانيين لمّا وصلت حضارتهم للانحطاط بعد اجتياح الفرس والفينيقيين لأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، فمع أن اليونانيين نجحوا في صد هذا الهجوم، إلا أن الحرب خلفت الكثير من الدمار والموت، ليدرك اليونانيون أنهم بحاجة للتخلص من نخبوية التعليم لحماية حضارتهم من الاندثار، فسمحوا للأناس العاديين بنقل العلوم وتدريسها للعامة. ذلك أدى إلى تحول مهنة التعليم إلى ملاذ للمتكسبين به بحق أو بباطل، فصار فساد منطقهم أداة لتحقيق هؤلاء أهدافهم وإفحام خصومهم، فأهملوا العلوم كلها إلا ما جاء به الجدل والكلام. وهكذا تحول معنى السفسطة من ‘معلمي الحكمة البلغاء’ وأنصار الديمقراطية وحماة المستضعفين، إلى ‘بائعي الوهم’ والمتكسبين منه.
اللافت أن السفسطة مع فساد ما آلت إليه، إلا أنها أدت إلى إثراء رغبة التعلم عند عامة الناس، فتحول تلاعب السفسطائيين بالمدارك الفلسفية إلى محرك للخيال الممتزج بالواقع، ما أدى إلى ملامسة بعض كبار روادها لأهم نظريات الكون، كنظرية النسبية التي يقال ان آينشتاين اســــتوحاها من أفكار السفسطائي بروثاغوراس، كما أفرزت تلك المدرسة أهم فلاسفة التاريخ كسقراط وأفلاطون، وتأثر بمذهبهم هذا كبار فلاسفة ما بعد الحداثة كنيتشه وديكارت، مع أن السفسطة في آخر تحولاتها تخلت عن الديمقراطية وأخذت صف لوردات أثينا والمهيمنين عليها اقتصاديا وسياسيا وازدهرت في عهد تميز بالمركزية.
لنا أن نسقط ما حدث كله على ما آلت إليه حضارة العرب والمسلمين، فالتطابق يمس نواحي كثيرة. من المهم أن نتلمس تلك النواحي ونتفاءل بها. فلو أن ما مررنا به من عصور انحطاط يمثل ما آلت إليه أثينا بعد صدها للفرس والفينيقيين – مع فارق أن السقوط قد حدث فعلا في حالتنا في بغداد والأندلس واسطنبول وزمن الاستعمار، فإن ذلك يبدو وكأنه فرصة حقيقية لأن نجد أنفسنا بعد انحطاطنا في سفسطة سقراط وأرسطوطاليس، وهي التي أعادت لليونانيين وفلسفاتهم الهيبة وأقنعت فلاسفة العصور التي تلتها بالحذو حذوها حتى يومنا هذا في العالم الغربي. ولعلنا نستبشر خيرا برأي ابن رشد الذي اعتبر أن السفسطة مغالطة في الأصل، وهو ما يبدو أننا نبرع فيه هذه الأيام. وأننا ببراعتنا في التضليل من خلال المنبر والعمود الصحافي وحساب تويتر وغير ذلك، يمكننا أن نجد طريقاً إلى الخلاص الذي يدفعنا لمزيد من البحث والمعرفة، ذريعةً للجدال والإفحام والتكسب الدائم، وهو ما ينشده كل طرف من أطراف الصراعات المذهبية والطائفية والدينية والسياسية الآن.
لا يمكن أبداً أن نعفي رجال الدين من سفسطائيتهم، لكن الأيام تثبت الآن أن هذه السفسطة الدينية خلقت جيلا جديدا يلح في التساؤلات ويقابل الحجة المضللة بحجة مثلها أو أفضل منها. ويبدو من المقنع اعتبار حركة الإلحاد والشك المنتشرتين في بلادنا العربية حاليا صنفين من الأصناف الثلاثة للسفسطائيين، كما أوردها ابن حزم الأندلسي قبل قرون.
ومن البديهي أن حذا حذو رجال الدين رجال السياسة تباعا، فالسياسة تختلط كثيرا بالدين في عالم اليوم، وهكذا بتنا نسمع بالليبرالي والعلماني والإخواني والجهادي، ومن هؤلاء من كفر بالأنظمة العربية وبات خصمها، كلٌ على رؤياه، ومنهم من مال منطقه في الصف المقابل تكسبا وارتزاقا، وكلٌ من محرابه السفسطائي يتنسك.
حان وقت السفسطة يا عرب، شئنا أم أبينا، فلا يبدو أن قانوناً ولا سوطا يمكنه إيقاف هذا المد المثير من الجدل عقيما كان أم نافعا. ولنستبشر خيرا، فلعل بعد الفوضى من انتظام ينقلنا إلى شيء غير الاقتتال وإقصاء بعضنا بعضا والتفكير في الهدم طريقا للبناء. ولعل سقراط وأفلاطون يبعثان من جديد، هذه المرة في بلادنا وبين ظهرانينا. ولعل من نهوض بعد الانبطاح.
‘فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ’ سورة الرعد’.

‘ كاتب وإعلامي إماراتي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد عبدالرحمن:

    لقد لفت نظري الي جوانب في السفسطة لم تدر بخلدي. لقد تداملنا كلمة سفسطة ووصفنا بها اساليب التفكير العقيمة التي لا توؤدي الي نتيجة. ان كل نشاط فكري هو عقلاني بالضرورة حتي لم حدثت انحرافات هنا وهناك. الخمول الفكري و الركون للماضي هو الكارثة.

  2. يقول عبدالله الهذلي. uk:

    نم ياوطني
    نم ياهبة السماء
    نم فقومي عينهم يقظى
    نم فهم لك حارسون
    نم فهم لك حافظون
    حتى بك يستأثرون
    لاتبكي ولا تجل
    لاتحزن ولاتنهت
    قومي يعشقوك
    من حبهم خيروك
    مابين الطغيان
    او الاحتلال حيروك
    نم يا جنة الله
    ياحلم لن نراه حتى
    نكون في النوم غائبون
    جعلوك من الغيبيات
    جعلوك من صالح الكرامات
    جعلوك من الا مرئيات
    هل كفرنا بك؟
    ام تسألنا عنك؟
    ايماننا بك قد اهتز
    وقل فخرنا بك والعز
    من بعد ان احتكروك
    من بعد ما منا طهروك

  3. يقول foufou lakhdar:

    لعل العرب في حاجة الى بعث حوار شامل ومعمق حول جميع القضايا المتعلقةبالواقع المعيش وفي حاجة اكثر الى بعث الولايات العر بية المتحدة

اشترك في قائمتنا البريدية