للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور قصيدة يخاطب فيها محبوبته عن العشق، أو الحب الذي كان بينهما، غير أنّه يصور ذلك عبر معادل موضوعي حين يتجلى هذا الحب في صورة طفل يحتضر أو يموت، وحين تموت الأشياء فإن ذلك يعني أنها لم تعد موجودة…
قولي أمات؟
جُسِّيه! جُسِّي وجنتيه
هذا البريق
ما زال ومض منه يفرش مقلتيه
هذي أصابعه النحيلة
هذي جدائله الطويلة
أنفاسه المترددات بصدره الوردي كالنغم الأخير
من عازف وفد النعاس عليه في الليل الأخير
وتلك جبهته النبيلة
بيضاء يلمع فوق موجتها الزبد
قولي.. أمات؟
وأنا غدوت بلا أحد!
الشاهد الوقوف على ما يعنيه أن تكون بلا أحد.. أو أن تكون وحيداً، فهل بات الفلسطينيون بلا أحد؟ أم باتوا وحدهم يواجهون هذا العالم منذ زمن بعيد. لقد عانت شعوب عربية أخرى من معنى التخلي من قبل.. في كل من سوريا والعراق.. غير أن الواقع الفلسطيني يبدو تاريخياً، وممتداً، كما أنه يرتبط بمعضلة قيمية تجعلنا نتساءل عن السبب! فهل بات العرب يختلفون على القيم؟ أم اختلطت عليهم القيم؛ شأنها شأن أي شيء يتعرض للتغيير، على الرغم من أن ما يميز العرب ارتباطهم بالقيم التي كانت مدخلاً عريضاً لتمييز ذواتهم، أم بتنا أقرب إلى مرحلة موت الطفل في قصيدة صلاح عبد الصبور الذي – ربما- يعني موت القيم التي هي إحدى أهم مفاخر العرب أو مآثرهم؟
لعل أي باحث في كتب التراث والفكر والتاريخ حول توصيف العرب أو الشخصية العربية واتصالها بالمعنى القيمي سيواجه شيئاً من هذا الارتباك، أو الغموض قياسا على المقارنة بين المتن والواقع المعاصر من حيث التفارق. هذا ينتج عن معضلة التمثيل الذي ينطوي على نموذج يجمع بين الواقع من جهة، والخلق أو الابتكار للذات من جهة أخرى، وبينهما غالباً ما تكمن مساحة رمادية لا يمكن أن تتيقن منها، فالمتأمل في وقائع العرب، بعد أفول أزمنة الازدهار، أو العصر الذهبي ـ كما يحب البعض أن يطلق عليها – سيجد أن تكوين العرب وتمثيلهم المعاصر لا يتسق مع الخطاب المثالي، الذي كونته العقليات المدرسية في تعريف العربي، وما يتميز به من قيم؛ ولهذا فإن القارئ اليوم ربما سيعتقد بأنه أمام خطابٍ مضلل على مستوى الوعي السياقي الحاضر، فهل يمكن أن يكون التمثيل التراثي للذات العربية، غير حقيقي؟ أم أن الشخصية العربية انفصلت عن قيمها، وأيهما الصحيح في ما يتعلق بالعرب والتاريخ.. أو أيهما يخون الآخر؟
يُختزل وجود العرب باللغة، فلا جرم أن الجاحظ في كتابه «الحيوان» يقول إن «كلّ أمّة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب، وشكل من الأشكال» ومن ثم يضيف أن العرب، خلّدوا مآثرهم باللغة أو الشعر، في حين أن العجم خلدوا مآثرهم بالبنيان، غير أنه يرى أيضاً أن الكتاب أبقى من البنيان، إذ كان يميل الملوك إلى طمس آثار من قبلهم، ولعل في خاطر الجاحظ الإشارة إلى أن وقائع اللغة أكثر بقاء، لكنه لم يبحث إن كانت أكثر قربا للحقيقة أو الصدق.
لقد اتخذت الشخصية العربية تكوينها من السردية الشعرية، التي نُظر لها على أنها ديوان العرب، واعتمدت على تقديم قيم المروءة والأخلاق، ونجدة المظلوم، بل إن السردية العربية تكاد تتمحور حول هذا، وفي كتب التراث ثمة حشد كبير من الشعر حول ذلك، مع النيل من أي محاولة للنيل من هذه القيم، ومن ذلك نستدعي أبياتاً للشاعر المتلمس الضبعي يعبر فيها عن الاختلال القيمي:
إِنَّ الهَوانَ حِمارُ القَومِ يَعرِفُهُ والحُرُّ يُنكِرُهُ والرَّسلَةُ الأُجُدُ
وَلَن يُقيمَ عَلى خَسفٍ يُسامُ بِهِ إِلاّ الأَذَلاّنِ عَيرُ الأَهلِ وَالوَتِدُ
إن تكوينات الخطاب في مواجهة الواقع تبدو عصيّة على التفسير، وكأن الذات قد انفصلت عن وعيها التاريخي، ولم يتبق منه سوى ركام لغوي أو شعري نلقنه للذات كي تبقي على هوية ماضوية لا تتصل بالمعاصر أو الحاضر، إلا من خلال اللغة، أو كتب التاريخ… ما يضعنا في معضلة الجمع بين التعريفات الحضارية والتاريخية لمفاهيم العربي، والعروبة، والقومية، وغيرها من المترادفات التي تجعلنا نحار في تنزيلها ضمن سياقنا المعاصر مقارنة بوقائع ما يعانيه العرب – ربما أكثر من قرن – من تشظٍّ للصورة التي نسجتها كتب التاريخ عن وقائع مثالية بدت للكثيرين منا مغايرة، أو أنها موضع شك، نظراً لمخالفة المتخيل أو التمثيل للواقع، كما نظّر إدوارد سعيد لفعل التمثيل.
تبدو وقائع التاريخ على قدر كبير من الهشاشة، فهي دائمة التحول، ولعلي هنا أستحضر كتابين للروائي أمين معلوف حاول فيهما أن يقوض مفهوم الهوية والتاريخ، كما في كتاب «هويات قاتلة» أو في رواية «سلالم الشرق» حين حاول أن يرسم صورة للشرق الذي كان على أعتاب تحول يحتمل قيمة الأفول أو الإنشاء من جديد، مع شيء من الرثاء لمناخ بدا أكثر توازناً أو تسامحاً أو خيانة… لكنْ ثمة دائما إحساس بأن ما تقدمه بعض الكتب ليس سوى جزء من منظور يبقى ذاتياً، ومعرضاً للتأويل. هذا الشرق الذي يعدّ في تعريفه عربياً يجعلنا نتساءل عما تبقى من قيمه التي شكلت هويته، على ضوء ما يحصل الآن من إبادة في غزة.
ليس الأمر معنياً بغزة على أهميته، لكنه معني بأن قطاعات في هذا العالم العربي بدا متناقضاً في مسلكها، فبينما عانت كثير من قطاعاته الأخرى من مآسي وويلات الحروب، إذ توجد كيانات أخرى تبدو غير معنية، بل تكاد وقائع الشارع العربي تكون اعتيادية، مع وجود الإبادة الجماعية غير المسبوقة في غزة، في حين تدافع دولة جنوب افريقيا ـ في محكمة العدل الدولية – عن إنسانية العرب… على الرغم من أن الجميع يرغب في تعريف نفسه ضمن مقولة العربي، والاتصال بالقيم العربية، في حين أن كتبنا تزخر بمقولات الوحدة والتضامن وتشاركية العقيدة، وحلم القومية العربية الذي يبدو الآن أقرب إلى مهزلة، ومن هنا يجب أن نتساءل ما الإضافة التي يمكن أن تطرأ من هذا التعريف أو أن تقدمه إذا كان الحاضر والماضي غير نقي أو بريء، أم أنه كان نمطاً من أنماط المتخيل المخاتل، أم أننا تنكرنا له، ولم يعد جزءاً من تعريف هذه الذات التي تصبح أكذوبة تشبه أكذوبة عطيل، حينما صرخ مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي الطيب صالح: أنا لست عطيل. عطيل أكذوبة.. اقتلوا الأكذوبة… كناية عن نفي هذا البعد التنميطي الاستشراقي.
تنهض معالم تقويض أو هدم تلك المقولات التي تتمحور حول العروبة، أو العالم العربي على نزعة من ماض سحيق وقديم وبائد، ولم يبق منها سوى مهابة اللفظ، وفخامته، في حين أن تجردها مع الزمن من كل شيء يبدو باعثاً على الخيبة، فمحاولة تعريف أي أمة لذاتها قد بدأ من التاريخ، لكن التاريخ ليس له قيمة بحد ذاته… إنما ما كمن فيه من قيم، وقد صدق محمود درويش حين قال في قصيدة طباق:
إن الهوية بنت الولادة
لكنها في النهاية إبداع صاحبها
لا وراثة ماضٍ
كاتب أردني فلسطيني
قراءة عميقة تحلل الوضع المهترىء لأكذوبة القيم العربية ..دام قلمك دكتور رامي أبو شادي