العرب وتاجر الفحم الأمريكي!

دخل دونالد ترامب البيت الأبيض في فترته الرئاسية الأولى جاهلا بكل شيء ومجردا من أيّ أسلحة إلا طموحاته الجامحة وأحلامه المؤجلة، ومحاطا بشلة من الأقارب والأصدقاء السطحيين والهواة والحاقدين.
لكن على خلاف فترته الرئاسية الأولى، دخل ترامب البيت الأبيض هذه المرة في سياق مختلف تماما وخطير. عاد متسلحا بأحقاده وحساباته المؤجلة وبرغبة جامحة في الانتقام. لكن الأهم أنه عاد متسلحا بما تعلَّمه من تجربته الأولى ومحاطا بشلّة من المقرّبين والأوفياء الذين اكتسبوا خبرة إما بفضل الممارسة في الفترة الأولى أو فقط من المتابعة ومحاولة التعلّم.
هذا ما يفسر اندفاع ترامب والفريق العامل معه إلى اتخاذ قرارات صادمة وإصدار تصريحات خطيرة أصابت العالم، وحتى من يعرفون ترامب وتفكيره، بذهول كبير.
مضمون الرسالة التي حملتها قرارات وتصريحات الأسابيع القليلة الماضية أن ترامب 2 مختلف وأخطر مقارنة بالفترة الأولى. وخطورته تكمن في أنه يعرف ماذا يريد ولا أحد سيثنيه عن خططه أو يقنعه بالتراجع عنها.
هذه التصرفات والقرارات والسياسات ستُدخل صاحبها التاريخ حتما. لكنها خطر على الولايات المتحدة والأسس التي قامت عليها والتفكير الذي به بسطت هيمنتها على العالم منذ الحرب العالمية الثانية. بتعبير أوضح ترامب بصدد كسر القواعد التي أرستها أمريكا للهيمنة على الكرة الأرضية ومن ثمة تقليص القوة الأمريكية ونفوذها عبر العالم.
بمنطق الانعزاليين المحيطين بترامب وجهلهم المطبق، لا بأس من تراجع الولايات المتحدة، فهذا هو الصواب والمطلوب، في نظرهم، لأنهم يؤمنون بأن بلادهم تتصدق على شعوب العالم مقابل لا شيء. لكن الحقيقة أن هذه «الصدقات» هي التي أثمرت سطوة الولايات المتحدة على اقتصاد العالم وثرواته، من الهيمنة على النفط العربي إلى سرقة المعادن الثمينة في أفريقيا، وهي التي حققت تفوقها الاستراتيجي وانتشارها العسكري عبر العالم ليشمل محيطات لا نهاية لمساحتها وجزرا صغيرة لا تتسع لهبوط طائرات متوسطة الحجم.
بعض المحللين يُشبّهون تصرفات ترامب اليوم بتصرفات ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي. نهاية تلك التصرفات كانت انهيار الاتحاد السوفييتي بسرعة لم يتقبلها العقل البشري.
منذ الحرب العالمية الثانية استمدت أمريكا «عظمتها» من حضورها المتعدد الأشكال في كل الأحداث التي شهدها العالم.. مرة بافتعالها في شكل حروب وانقلابات ومؤامرات، ومرة أخرى بتوجيهها وثالثة بإنهائها وفق مسار معين دون آخر، إلخ. والغياب عن المسرح العالمي، كما يريده ترامب وفريقه، يعني ترك الفرصة للصين تملأ الفراغ وتدير المكان. والأهم أن الغياب هو الوصفة المثالية للتراجع وبداية الاختفاء.

دخل ترامب البيت الأبيض هذه المرة في سياق مختلف تماما وخطير. عاد متسلحا بأحقاده وحساباته المؤجلة وبرغبة جامحة في الانتقام

قد لا تنهار الإمبراطورية الأمريكية بطريقة انهيار الاتحاد السوفييتي ذاتها، لكن لا يمكن لأفعال ترامب المنفلتة أن تمر من دون عواقب على الولايات المتحدة.
قد يبدو ذلك اليوم بعيدا ومن ضروب المستحيل، لكنه بحسابات التاريخ قريب وممكن جدا. ليس ضروريا وأكيدا أن نرى هذه العواقب الأسبوع المقبل أو العام بعد المقبل، لكنها واردة لا مفر منها، والسؤال هل وليس متى.
هناك أطراف تنتظر هذه اللحظة. وارد جدا أن الصين وروسيا تستعدان لها وتعملان على التعجيل بها. ومن الوارد أيضا أن الأوروبيين يتوقعونها ويخشونها حتى لو أنهم لا يريدونها. لكن أين العرب؟ غائبون غيابهم الدائم المعهود. العرب أكثر من ينطبق عليهم قول «الحاضر الغائب»: هم عنوان رئيسي في أغلب المعضلات الأمريكية لكنهم بلا تأثير يُذكر ودائما في وارد المتلقي.
أقصد بالتحديد الحكام العرب، هم أصحاب القرار وهم الذين يتسابقون للتقرب من الولايات المتحدة وكسب ودِّها. يُنسب للرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق قوله إن التعامل مع أمريكا مثل التعامل مع تاجر الفحم، تقترب منه تتسخ بالسواد. وقال آخرون إن المتغطي برداء أمريكا عارٍ. بالنسبة للحكام العرب ترامب سيكون تاجر الفحم والممسك بالرداء. في عهده سيكون قادة الدول العربية الأكثر عرضة لتسلطه الذي من الواضح أنه لا يراعي لهم ظرفا أو ودًّا ولا يستثني منهم أحدا، لا كأشخاص ولا كدول ولا كمنظومات حكم، ولن يتورع عن إهانة من يستطيع إهانته منهم علنا دون أن يرف له جفن.
هذه فرصة القادة العرب للمِّ صفوفهم والاستعداد للأسوأ. لا أحد ينتظر منهم حشد الجيوش والقوة العسكرية لخوض معارك عسكرية ضد أمريكا. وليس مطلوبا منهم تشكيل تكتل اقتصادي لإعلان حرب تجارية عليها. المطلوب العمل جماعيا على تقليص الخسائر والحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة، لأن كابوس ترامب لن يؤذي الفلسطينيين وحدهم وإنما سيشمل جميع المنطقة، والمطلوب ممن يتحكمون بمصير المنطقة حمايتها، وأنفسهم، فأقل الواجب أن يدافع المرء عن حرمة بيته وممتلكاته.
هناك جهد عالمي يتشكل من دون قصد، ترامب أرسى بذوره الأولى، ستكون نهايته تآكل الإمبراطورية الأمريكية تمهيدا لنهايتها. المطلوب من العرب أن يكونوا جزءا من هذا الجهد ولو بالحد الأدنى، تماما كما التقت أمريكا وأوروبا وأطراف أخرى في الجهد الذي أرسى أسسه غورباتشوف وعززه بعده يلتسين وكانت نهايته تآكل الاتحاد السوفييتي ثم انهياره.
سيحفظ التاريخ أن العالم لم يشهد ظلما وتنمرا ودوسا على القوانين والأعراف مثلما يفعل ترامب وحليفه بنيامين نتنياهو. لكن سيحفظ التاريخ أيضا أن الرجلين، بصلفهما وغرورهما، وفّرا للقادة العرب كل أسباب رفع الرأس والفكاك من أمريكا وتغوّلها. آخر هذه الأسباب وأهمها الغطرسة بحق العرب، ثم كذب وبشاعة نتنياهو في مقابلته مع فوكس نيوز، وقبل ذلك تطاوله على دعوة السعودية بدعوتها لتخصيص جزء من أرضها لإقامة دولة فلسطينية، على الرغم من أن الرياض لم تفوّت فرصة لتبلغ الأمريكيين استعدادها للتطبيع مع إسرائيل ضمن شروط ليّنة.
إذا لم يغتنم العرب هذه الفرصة للتحرر من ترامب وأمريكا ونتنياهو وإسرائيل، سيدفعون الثمن باهظا، في المدى القريب على يد ترامب ونتنياهو، وفي المدى البعيد على يد الولايات المتحدة وإسرائيل. وسيكون الثمن المزيد من هدر سيادة بلدانهم المهدورة أصلا، وعروشهم إن كانوا مؤمنين بعدُ بأن خضوعهم لأمريكا حماها وسيحميها.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فريد:

    الانعزال ليس حلا مستداما، وليس علامة على التفوق، خاصة عند وجود خصوم أقوياء في مرحلة تصاعد، بل إنه قد يكون علامة على الضعف، لأن القوة الحقيقية تظهر في القدرة على التأقلم والتفوق وسط التنوع والتحديات. كما أن التفوق، إن كان موجودًا، لا يُثبت بالهرب من الآخرين، بل بالتفاعل والتنافس والابتكار.
    وعلى ذكر الابتكار، ربما قد يحسم سباق الذكاء الاصطناعي مصير الهيمنة المستقبلية لعقود قادمة، خاصة إذا تمكن أحد الأطراف من تحقيق اختراق ثوري، مثل تطوير ذكاء اصطناعي عام (AGI) أو إيجاد طرق جديدة لتقليل الاعتماد على الرقائق المتقدمة. لذلك ربما قد نكون أمام مرحلة الأمتار الأخيرة حيث قد يتمدد الفارق بين القوى المتنافسة بسرعة غير مسبوقة.

  2. يقول عمر علي:

    هل تعتقد أن الحكام العرب سيعملون شيئا جدياً من أجل قضية فلسطين؟ الكل يتذكر عندما خاطب ترامب ملك عربي ونشرها على التلفزيون ” ادفعوا كي نحميكم؟ أتوجد أهانة اكبر؟ ومع ذلك دعي الى ذلك البلد العربي وتم استثمار البلايين والمستفيد منها صهره الصهيوني صاحب فكرة جعل غزة الريفييرا.

  3. يقول On:

    أيا كانت هذه القوة التي تحقق السبق في الذكاء الاصطناعي العام، فإن مسؤوليتها الأخلاقية لا يجب أن تقتصر على حماية مصالحها أو تعزيز تفوقها، بل ينبغي أن تُوظَّف هذه التكنولوجيا لمعالجة التحديات العالمية بدلًا من تكريسها. فبدلًا من أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لفرض الهيمنة أو توسيع الفجوات الاقتصادية، يجب أن يكون وسيلة لحل المشكلات الكبرى مثل الفقر، والتغير المناخي، والأوبئة، والنزاعات. إن امتلاك قدرة تكنولوجية هائلة دون توظيفها لصالح البشرية لن يكون إلا إهدارًا لفرصة تاريخية. لذلك، من الضروري أن تكون الأولوية لإرساء أنظمة ذكاء اصطناعي تساهم في التنمية العادلة، وتحقيق رفاه مشترك، بدلًا من أن تتحول إلى أداة لتعميق الاختلالات أو فرض واقع جديد يخدم مصالح قلة على حساب الأغلبية.

  4. يقول Qs:

    تحقيق العدالة يتطلب ذكاءً اصطناعيًا محايدا و مصممًا وفق معايير أخلاقية عالمية، بحيث لا يصبح أداة لترسيخ الهيمنة الثقافية أو التلاعب بالمجتمعات، بل وسيلة لتحقيق التوازن وضمان التعددية الثقافية في عالم يشهد تحولات متسارعة. فالصراع العالمي اليوم يحمل أبعادًا ثقافية قوية قبل أن يكون مجرد صراع اقتصادي أو جيوسياسي. فالقوى الكبرى لا تتنافس فقط على الموارد أو النفوذ العسكري، بل تسعى أيضًا إلى فرض رؤاها وقيمها وأنماطها الحياتية على العالم. من النزاعات حول نماذج الحكم، إلى الجدل حول الحريات الفردية، إلى الصدامات حول الهوية الوطنية والتعددية، كلها تعكس مواجهة بين تصورات ثقافية مختلفة. في ظل العولمة، لم يعد الصراع مجرد تنافس بين الدول، بل أصبح يدور أيضًا داخل المجتمعات نفسها، حيث تتداخل الهويات المحلية مع التأثيرات الخارجية، مما يعزز التوترات حول الانتماء والقيم المشتركة. لذا، فإن فهم هذا الصراع من زاوية ثقافية أصبح ضروريًا لإدراك أبعاده العميقة وحلوله المحتملة.

  5. يقول أمين ظافر غريب:

    خارج صالة عرض Tesla في West Village في مانهاتن نيويورك، الأحد 9 شباط 2025، مُتظاهر يحمل يافطة رأيّ عليها “أسقط الأوليغارشية OVERTHROW the OLIGARCHS” مع صور لبيزوس وزوكربيرج والرَّئيس ترمب وماسك Bezos, Zuckerberg, President Trump & Musk. المجموعة الناشطة Rise & Resist تعقد احتجاجاً أوقفوا انقلاب ماسك وترمب في Super Bowl Sunday ردَّاً في 50 ولاية أميركيّة على تصرفات الرَّئيس الأميركيّ ترمب وماسك للتعبئة الشَّعبويّة DOGE بالولايات المُتحدة!.

  6. يقول دعد هلسة:

    لا يوجد مقارنة هنا بين هذه الحالة وحالة غورباتشوف-يلتسين بدون الانغماس بالكثير من التفاصيل المختلفة والحقيقة أن ترامب يمثل حالة فريدة غير مسبوقة والعالم كله سيشهد الأعاجيب والتوترات خلال الأربعة سنوات القادمة عدا عن دعمه المطلق لدولة الاحتلال وهو أي ترامب سيدير الحكم بطريقة ارتجالية انتقامية بعيدا عن نمط الدولة العميقة؟!

اشترك في قائمتنا البريدية