نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وفي برنامج «المقابلة» مع قناة «الجزيرة» قدّم الكاتب اللبناني حازم صاغية صورة شديدة القتامة عن الواقع الاجتماعي في بلده. بتعميم كبير قال، إن المسيحي لم يعد يطيق المسلم والسني لم يعد يطيق الشيعي والجو أصبح يشع بشكل عام بالكراهية، ما يجعل الاستمرار والعيش المشترك صعباً.
لم يكن صاغية يدعو إلى انفصال المكونات الطائفية، وتشكيل بلدات صغيرة منفصلة كحل لأزمة العيش المشترك هذه، فهو يدرك أنه، وفي حالة بلد صغير المساحة ومتعدد الطوائف والمذاهب كلبنان، تظل محاولات العيش المشترك، بلا شك، أكثر واقعية وعملية من محاولات التقسيم، لكن ملخص حديثه كان ما وصفه بـ»الزواج الكئيب والطلاق المستحيل».
هذا التعبير يعيدنا إلى مقال قديم لصاغية نشره في عام 2006 تحت عنوان: «استحالة الوحدة واستحالة التقسيم» وصف فيه لبنان بأنه بلد «يتحايل على نفسه للظهور في مظهر الوحدة والتوافق». هذا الجو القاتم الذي يرسمه صاغية، يجعل الحديث عن مشروع لبناني مشترك صعباً، وكذلك تصبح الوطنية نفسها محل شك حين نصل لمرحلة يتلخص فيها العدو بالجار الذي ينتمي لطائفة مختلفة.
صاغية كان شديد الصراحة في التعبير عن قناعاته ولم يتردد في تكسير الصورة الذهنية التي يحاول كثير من أبناء جلدته تصديرها عن لبنان، المتعايش المتسامح والتي هي، وفق رأيه، غير واقعية. تلك القناعة التي وصل إليها صاغية، ومثقفون عرب آخرون من بلدان مختلفة، ساهمت في إضعاف فكرة القومية العربية الرومانسية التي كانت تحلم بجمع المحيط والخليج، فحسب تعبير صاغية: إذا كنا عجزنا عن توحيد بيروت الشرقية مع أختها الغربية، فكيف نوحد العالم العربي؟
الأسئلة حول معنى الوطن وإمكانية التعايش المشترك، تطرح اليوم أكثر من أي وقت مضى، فلا يحتاج المرء لكثير من البحث حتى يدرك أن جذور الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان، إنما تعود لهذا الشقاق الطائفي الذي أنتج عدداً من مراكز القوى، التي تحمل كل منها وجهة نظر مختلفة حول التحديات القائمة، ومستقبل البلاد وعلاقاتها الخارجية. أكبر دليل على ذلك هو أن تشكيل حكومة متجانسة أو قابلة للاستمرار أصبح اليوم تحدياً كبيراً لكل رئيس حكومة، وفي هذا الصدد نذكر ردود جورج قرداحي على منتقديه، قبيل تقديم استقالته، إثر الأزمة الشهيرة حين كان يقول إن قضيته ليست إشكالية الحكومة الوحيدة. ما يجعل الحالة اللبنانية جديرة بالدراسة هو أنها ليست مقتصرة على لبنان، وإن كان لبنان هو البلد الذي تظهر فيه المشكلة الطائفية والتعقيدات الهوياتية أكثر من غيره. التفكير في التقسيم والانفصال ليس خصوصية عربية، وليس أدل على ذلك مما نشهده من احتراب اليوم على الساحة الإثيوبية، وصعود الاتجاهات الاستقلالية عند أكثر من فصيل. يحلو للكثيرين ربط الأزمة الإثيوبية الحالية بسياسات رئيس الوزراء آبي أحمد، إلا أن النظرة الواقعية تخبرنا أن الحساسيات الإثنية، التي وصلت اليوم حد القتل على الهوية بين مجموعات الأمهرا والتيغراي والأرومو والعفر، لم تبدأ مع وصول آبي أحمد لسدة الحكم، وإن ساهمت سياساته في إذكائها.
الإحباط السياسي والفشل الاقتصادي الذي تعيشه بلداننا، جعل كثيرين يعتبرون أن حياتهم ربما كانت ستكون أفضل لو كانت مناطقهم مستقلة
في ما يتعلق بالعالم العربي فإن أطروحة «التعايش المستحيل» تلك تذكر بما كان المنظر الأمريكي برنارد لويس يردده، فبعد عكوفه لعقود وتفرغه لدراسة المنطقة توصل عالم السياسة والاجتماع، إلى نتيجة مفادها أن تشكل الحدود العربية بطريقتها الحالية كان خبط عشواء، ما أنتج كثيراً من بؤر الخلاف والتوتر، وجمع كثيراً من الأضداد الثقافية في وطن واحد. هذا الواقع، في نظر لويس، سيؤدي إما للانفصال والتفتت الطائفي والإثني، أو للعيش في ظل احتقان دائم قد يصل حد الحروب الأهلية.
هاجم كثيرون أطروحات لويس، وتم اتهامه بأنه يسعى لتقسيم المنطقة العربية، لكن المفارقة هي أن مثقفين عربا كثيرين، خاصة في البلدان التي تشهد تباينات لغوية أو ثقافية حادة، باتوا يؤمنون بما كان ذهب إليه منذ عقود، وهو أن دولاً عربية هي قابلة فعلاً للتقسيم. هؤلاء صاروا يقولون بوضوح إن انقساماً هادئاً هو أفضل بكثير من الحروب أو الموت في سبيل وحدة إجبارية ضمن وطن واحد.
هل يقود التباين الثقافي أو الديني بالضرورة للانفصال والتقسيم؟ هذه نقطة يمكن الاختلاف عليها، لكن الشيء المؤكد هو أن عالمنا الثالث يدخل ضمن ما يمكن أن نطلق عليه اسم «الحدود الهشة»، أي الحدود القابلة للتغيير، فسواء تحدثنا هنا عن إثيوبيا التي أخضعت فيها القومية الكبيرة قوميات أضعف منها، وضمتها بالقوة إلى فدراليتها، أو العالم العربي الذي نتجت حدوده عن رسومات متسرعة لمغامرين أوروبيين، فإن النتيجة واحدة وهي، أن هذه الحدود تظل سائلة وقابلة للتحريك.
استدعاء النموذج الإثيوبي هنا مقصود، فالصورة تشبه كثيراً الحال في أكثر من بلد عربي، وتدفع الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها الأمور في ذلك البلد إلى التفكير في الطريقة المثلى لتجنب الوصول لنقطة اللاعودة. مثل لبنان، وباستعارة تعبير حازم صاغية، فإن إثيوبيا كانت «تتظاهر» بأنها دولة حديثة متجاوزة للتباينات الثقافية والدينية وكانت هذه هي الصورة التي استقرت في أذهان كثيرين عنها، قبل أن نجد أنفسنا فجأة إزاء انفجار لصراع عرقي وهوياتي خلف الملايين من القتلى والمتضررين. رهان آبي أحمد على العنف وعلى مجموعات إثنية لمواجهة المتمردين عليه أعاد إلى السطح السؤال حول ما إذا كان الانضمام للفدرالية يخدم بالفعل جميع الإثنيات بشكل متساوٍ. هذه الأسئلة المتعلقة بما إذا كانت الوحدة بين المكونات المختلفة خياراً واعياً، أم أنها كانت مجرد شرك استعماري صالح ليكون نواة لصراعات لا تنتهي، تطرح اليوم بشكل جاد في بلد عربي آخر وهو السودان. في سودان اليوم أصبح مجرد وصف البلاد بأنها عربية مثار نقاش سياسي وثقافي، حيث يؤمن كثيرون بأنهم ينتمون فقط لثقافة افريقية ويعتبرون أن ذلك مناقض بالضرورة للعروبة. كانت هذه النزعة الافريقانية صاعدة إبان الحرب على المتمردين من جنوب السودان، لدرجة أنها أدت إلى فصل الجزء الجنوبي من البلاد. المشكلة كانت أن أزمة الخلافات الثقافية داخل البلدين لم تنته بذلك الانفصال، إذ تولدت صراعات جديدة، وهو شيء متوقع في بلد شاسع المساحة ومتعدد الأعراق كالسودان.
منذ بداية العام الماضي بدأت أطروحات عبد الرحمن عمسيب، التي دعا فيها لانفصال مناطق الثقافة العربية في السودان، تكتسب رواجاً. عمسيب الذي بدأ بكتابة خواطر دعا فيها لانفصال ما سماها «دولة البحر والنهر»، في إشارة للنيل والبحر الأحمر، اكتسب في ظرف وجيز الآلاف من الأنصار الذين بدوا مقتنعين بدفوعاته الانفصالية وبحقهم في تقرير المصير. بنى عمسيب طرحه على كون أن السودان الحالي تشكّل بشكل عشوائي، ومن دون رابط منطقي بين جهات متباينة في عاداتها وتقاليدها وطرائق تفكيرها، واعتبر وفقاً لذلك أن هذه الحدود التي خطها المستعمر ليست مقدسة وهي قابلة للتعديل. (استعان عمسيب بالتاريخ للتأكيد على أن إقليم دارفور لم يلتحق بالسودان إلا مؤخراً). ظهور هذه الأفكار ونجاحها في استقطاب الناس لم يأت مصادفة، بل هو بالدرجة الأولى نتيجة للإحباط السياسي والفشل الاقتصادي الذي تعيشه بلداننا، والذي جعل كثيرين يعتبرون أن حياتهم ربما كانت لتكون أفضل لو كانت مناطقهم مستقلة.
كاتب سوداني
مقال مرعب. آمل أن يفكر الجميع بالتقارب بديلا عن التباعد.
في عالم العولمة الجديد تحاول الدول إلى بناء تكتلات لإيجاد وسائل وطرق لمواجهة متطلبات هذا العالم الجديد ، مثال ذلك الدول الأوروبية. سياسيو تلك الدول أيقنوا أن الدول منفردة ستكون عاجزة أو ستجد نفسها أمام صعوبات كبيرة في عالم العولمة الحديث. بعكس مايحصل في معظم دول المنطقة العربية ولأسباب الجهل وعدم الوعي المجتمعي والسياسي حتى عند مايمكن تسميته الطبقة المثقفة في تلك الدول ، فإننا نرى أن الولاء يكون بالدرجة الأولى إلى الأثنية أو الطائفة أو حتى العشيرة والقبيلة التي ينتمي إليها زيد أو عمرو من الناس على حساب الوطن الذي يضم الجميع، وفي أغلب الأحيان نعيد ذلك إلى نظرية المؤامرة على بلداننا لنتهرب من تحمل المسؤولية عن الإنتكاسات التي نعيشها كل يوم. وبهذه العقلية وبهذا التفكير لاتبنى ولن تبنى أوطان.