في شواغل القدامى أشياء كثيرة زالت لكنها وهي تزول أبقت على آثارها القديمة في النصوص، من ذلك أن كثيرا من الشعر القديم مثلا كان يُنظم خارج الأغراض الكلاسيكية ويقال في مناسبات يومية، في محاورات أو مساجلات. وكان الشاعر يميل إلى نقلها، لكنه كان يميل أيضا إلى أن يثبت من خلالها يومياته وشواغله البسيطة والدائمة.
كثير من اليومي كان يصاغ ويحافظ على يوميته؛ كان الشعر يحفظ للشاعر ضربا من الصلابة في الموقف، ويعطيه نوعا من التوازن، والحق الذي لا يعطيه له الحديث اليومي. الكلام اليومي يفقد ديكتاتوريته إذا صار حوارا، فالحوار يبني التفاهم والتفاهم ركنه الأساسي التعاون، وهو حسب فيلسوف اللغة البريطاني بول غرايس مبدأ أساس في نجاح أي محاورة. في هذا المقال سنقدم مثالا لذلك قطعة شعرية لابن الرومي في معاتبة صديق له.
فقد كان لابن الرومي صديق هو أبو القاسم التوزي الشطرنجي، ويبدو أنهما كانا يلتقيان على لعبة الشطرنج ويطيلان اللعب حتى يتعاتبا، وقد اشتهرت فيه همزية طالعها (يا أخي أين ريْعُ ذاكَ اللقاء؟ أين ما كان بيْننا من صفاء؟) وفيها يقول (أيْنَ مِصْدَاقُ شاهدٍ كان يحكي .. أنك المخلص الصحيحُ الإخاءِ). يسارع النقد الكلاسيكي إلى البحث عن الغرض الذي يمكن أن تنخرط فيه أي قصيدة من القصائد، فإنْ لم يجده بحث عن المعنى المتواتر الذي يمكن أن تنخرط فيه، فالبحث دائما يكون من داخل الأغراض المعروفة فإن لم يكن، كان داخل المعاني الأخرى الممكنة لذلك صنفت هذه القصيدة في باب المعاتبات.
الميل النقدي إلى تصنيف الأشعار في أغراض كبرى، أو في المعاني الشاملة هو ميل قديم إلى رد الخصوصي إلى عام والعينة إلى خطاطة دلالية؛ وبهذه المقولة العامة يدعي النقد أنه أحاط بالمعنى ودرس مكامن الجديد فيه، وما أضافه الشاعر وما اتبع فيه السنن. هذه الرؤية النقدية الأغراضية هي قراءة جدولية تنزل أي نص في جدوله المألوف من البنى، ومن الأغراض العامة وبعد ذلك التنزيل يرى إن كانت هناك عناصر التزام أو عناصر لتكسيره.
تختلف عن هذه الرؤية، رؤية نقدية حديثة بنيوية كليانية. الكليانية أو الشمولية هي طريقة في التعامل مع الظواهر على أنها كل لا تفسره الجزئيات التي تكونه؛ ولذلك يعتمد هذا المنهج على الشرح الكلي أو الجوهري. فعلى سبيل المثال فإن معنى العتاب وهو معنى شمولي جامع ينبغي أن ينظر إليه لا في إطار علاقة فردية، بل في إطار علاقة البشر بعضهم ببعض وعندئذ يصبح أي جزء من العبارات الخاصة مزدوج الرمزية: فهي رمزية لأن علاقتها بما تدل عليه اعتباطية وهي رمزية، لأن اللقاء والصفاء والإخاء لا تحيل على معانيها في تفسير العلاقة بين الصديقين؛ بل ستصبح علامات محيلة على رموزها داخل العلاقات البشرية المفتوحة فيفهم العتاب في سياق رمزي مثلا على أنه نوع من الإنذار بتبدل العلاقة وربما بذهابها.
العلاقات في التصور الكلياني ينظر إليها في كلياتها؛ فالعلاقة بين الشاعر والشطرنجي ينبغي تناولها في سياق يشبك تلك العلاقات وينظمها بمقاييس مجتمع أو ثقافة معينين. وفي السياق نفسه فإن كليانية التركيب ينظر إليها أيضا على أنها أسلوب عام، لذلك فإن تواتر الاستفهام مهم في خلق أسلوب كلياني له فعل دلالي شامل كأن يقال إنه يفيد ضربا من الدهشة والاكتشاف المفارق لأصل العادة أو عدم قبول ما يحدث من تنكر وتبدل في العلاقة. والبنيوية هي في بعد من أبعادها كليانية إذ تختزل الفرد إلى نوع من الآلة التي تتلاعب بها البنى. بالنسبة إلى ليفي ستراوس، تتكون الأنثروبولوجيا البنيوية من دراسة بنية عناصر القرابة، وملاحظة كيف تشكل هذه العناصر قوانين تطور المجتمعات. وهكذا كتب ليفي ستراوس: «لا يتصرف الرجال، كأعضاء في المجموعة، وفقا لما يشعر به كل شخص كفرد: فكل رجل يشعر وفقا للطريقة المسموح له بها، أو الموصوفة له بأن يتصرف بها. فتُعطى العادات على أنها معايير خارجية، قبل توليد المشاعر الداخلية، وهذه المعايير غير المحسوسة تحدد المشاعر الفردية، وكذلك الظروف التي يمكنها، أن تعبر عن نفسها فيها أو يجب أن تفعل ذلك».
في هذا السياق فإن معنى العتاب هو شعور كل شخص في مجموعة أن صفاء ما سيزول وأن هذه المعايير تحددها بنية من المشاعر الداخلية؛ وهذه المعايير هي التي تحدد المشاعر الفردية لذلك يدعى «الشاهد» في بيت الشاعر الثاني ليكون الدليل على أنه الوفي أو المنقلب. بهذا المعنى فإن البنية تكون قوة اجتماعية مستقلة عن قدرات الأفراد حسب عبارة رايمون بودون Raymond Boudon الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي. وإذا نظرنا إلى الكليانية على أساس أنها منهج يساعد على أن يشرح كيف أن الظواهر الثقافية والاجتماعية واللغوية ترتبط بأنظمة من الأبنية مناسبة لها ولا تنفك عنها. إن بنية النص لا تفهم إلا من خلال العلاقات التي تقيمها العلامات بعضها مع بعض في الكلام، ومن خلال هذه البنية يمكن أن نصل إلى إدراج النص في نظام عام، من خلال استخراج الأبنية الضمنية.
في قصيدة ابن الرومي التي اخترنا منها نماذج، أبنية نحوية و عروضية؛ الجملة وحدة البنية النحوية والبيت وحدة البنية العروضية، لكن الدراسات تنظر إلى البيت على أنه الوحدة النحوية والعروضية الدنيا، التي نستخرج منها الدلالة. في البيت الأول بما هو بنية نحوية ـ عروضية يمكن أن نجد ضربا من التقابل بين شكلين نحويين هما النداء والاستفهام: النداء (يا أخي) هدفه تحديد المتلقي المباشر وتسميته بالصفة: الأخ، وهو في معنى الصديق؛ لكن هذا النداء لا يمكن فهمه مستقلا إلا في علاقته بالاستفهام المنقطع (أين..؟ أين؟) اسم الاستفهام المكرر لا يفيد تكريرا لمجرد التكرير إذ البنى اللغوية لا تكرر عبثا، ففي التكرير ضرب من كشف عن أن موضوع الاستخبار ليس المكان أو الإطار، بل ما حواه الإطار من علاقات مميزة أخرجتها اللغة من الترميز الاستعاري إلى الترميز المقنع: الاستعاري في الحديث عن العهد باستعارة الخضرة والنبت (ريع) فكأن عهد الصفاء هو عهد الحياة وعهد الخصوبة الذي يمكن أن يحيل على نقيضه وهو عصر الإمحال. في هذا الجزء يشار إلى خصوبة الزمان باسم إشارة للبعيد (ذاك اللقاء) بعد في الزمان وفي المكان وفي الوجدان، لكنه مسجل لذاك التقابل الجدولي بين (هذا البعد) و(ذاك اللقاء): تتعامل اللغة النسقية مع مستوى جدولي تحيل عليه. في عجز البيت وهو الوحدة النحوية العروضية الثانية تبدو الفكرة أكثر صراحة لأنه ليس فيها استعارية الجملة الاستفهامية الأولى (أين ما كان بيننا من صفاء؟) هذه الجملة تتقابل مع الأولى تقابلا في مستوى التلميح والتصريح والتكنية والتسمية: من داخل هذا النظام التقابلي يمكن أن نقف على حركة المعنى الداخلي في البيت الأول، فهي حركة تبدأ ميالة إلى الإخفاء ثم تتضح شيئا فشيئا وهذا يعني أن هناك تدرجا في الوضوح بتدرج الكلام وأن الإبانة والإفصاح تتسع كلما تقدمت حركية الكلام.
إن ما قدمناه ههنا هو تصور في تحليل المعنى بنيوي يراعي التقابل لا الفردية والكلية لا الجزئية، ويراعي انغلاق الأبنية على معانيها وكيف أن المحلل ينبغي وهو يدرس تلك الأبنية أن يحافظ على انغلاقها النصي، ولا يسمح إلا قليلا بالخوض في تفاصيل قائلها.
أستاذ الللسانيات في الجامعة التونسية