العلاقات التونسية الجزائرية: هل جرفتها الشعبوية؟

حجم الخط
25

من كان قادرا على التحفظ؟ ومن كان باستطاعته الذهاب لأبعد وتفكيك القصة واستيعاب مغزى التصريح الرسمي قبل الحكم له أو عليه؟ ومن كان بوسعه في خضم ذلك كله أن يكبح عواطفه ويتفادى السقوط الحر في فخ المباركة السريعة لمضمونه، أمام الحجم الواسع للمتحمسين والمرحبين به في الجانبين؟ كان سيبدو كل من يقدم على ذلك كمن يجدف منفردا في الناحية المعاكسة للتيار، وكانت ستلصق به وبلا شك شتى الاتهامات، وربما يوصف في أقلها حدة، بأنه جاهل بالروابط العميقة التي تجمع البلدين، ولا يعرف شيئا عن تاريخهما المشترك وعن حاضرهما ومصيرهما الواحد.
لكن بغض النظر عن ذلك فإن أردتم مثالا حيا وحديثا عن الشعبوية بين بلدين جارين، فلا تتعبوا أنفسكم بالبحث بعيدا، يكفيكم أن تنظروا هذه المرة إلى الفصل الأخير من فصول العلاقة التونسية الجزائرية، لتجدوا المطلوب. وحتى لا يفسر الأمر على نحو خاطئ، فليس الغرض هو تصيد أي خطوة بسيطة كانت، أم كبيرة يقطعها بلدان عربيان نحو التكامل والتعاون والوحدة، للتقليل منها، بل العكس تماما.
وغاية ما في الأمر أن ما حصل مؤخرا بين تونس والجزائر في ارتباط بمسألة لقاحات كورونا، لم يصبّ أبدا في ذلك المسعى المحمود. وبالعودة للأصل فليس معروفا بعد ما إذا كانت فكرة تقاسم اللقاح ضد الوباء بين الجزائر وتونس، التي أثارت الكثير من اللغط والاهتمام داخل وخارج البلدين، قد خرجت من وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم من الاستعارة الرمزية؟ أم أنها كانت بالفعل، وكما قال نظيره التونسي عثمان الجنردي، في تصريحه بعد مقابلة الرئيس قيس سعيد، بمثابة «التزام شديد من الجزائر بمقتضيات الأخوة القائمة بين البلدين والرئيسين». وفي كل الأحوال فإنه من الواضح أن العبارة التي نطق بها الوزير التونسي نقلا عن نظيره الجزائري، كما أكد، تركت أثرا قويا في الجانبين وخدمتهما كل على طريقته. فعدا بعض الأصوات القليلة التي خرجت في تونس لتستنكر الأسلوب الذي استخدمته السلطات في طلب اللقاح، وأخرى التي ظهرت في الجزائر لتتساءل عن مبرر ما اعتبرته قسمة غير منصفة، أو مبررة لشحنة اللقاح المرتقبة، فإن معظم الردود كانت على العكس مرحبة ومباركة، لما رأته تكريسا فعليا للروابط الأخوية الوثيقة بين التونسيين والجزائريين. والمفاجأة هنا هي أنه عندما سأل وزير الصحة الجزائري بعدها على قناة «أي آر تي» الروسية عن الموضوع أجاب بشكل ضبابي، أنه اطلع على الطلب التونسي «وأنه من طبيعتنا كجزائريين ومسلمين اقتسام ما عندنا، ويمكن أن يأتي يوم ونحتاج نحن أيضا مساعدة تونس» بدون أن يؤكد أن حكومته وافقت رسميا على الفكرة. غير أن ما قاله المتحدث الرسمي باسم تلك الحكومة لاحقا لموقع إخباري محلي هو ما قد يكون شكّل بالنسبة للبعض نوعا من الصدمة، فقد قال عمار بلحيمر لموقع «سيرمانيوز» إن «الجزائر في مرحلة متقدمة من التفاوض مع الصين للحصول على شحنات من اللقاح المضاد لكورونا، ومن المقرر أن تستلم الدفعة الأولى من اللقاح الروسي سبوتنيك قبل نهاية الشهر الحالي.. وإذا وجدت كميات زائدة عن الحاجة الوطنية، فإنها أي الجزائر وكعادتها لن تبخل في مساعدة الدول الشقيقة المستحقة، والرد إيجابيا على طلباتها بهذا الخصوص» وهو ما وضع التصريح الأول موضع تساؤل، فما الذي حصل بالضبط؟ وهل قرر الجزائريون شيئا ثم تراجعوا عنه؟ أم أن التونسيين تسرعوا في فهمهم وفسروا ردهم بشكل غير مناسب؟ لقد صور الأمر للوهلة الأولى على الشكل التالي، فبمجرد أن علمت الجزائر أن جارتها الصغرى تواجه مشكلا عويصا، وأنه لا يمكنها توفير لقاحات كورونا لشعبها، بادرت لتعلن عن أنها ستتقاسم معها شحنة اللقاحات، التي لم تصلها بعد.

التقارب بين تونس والجزائر إن لم يندرج ضمن الرؤية الإقليمية الواسعة، فسيكون تحالفا مؤقتا يخضع لتقلبات السياسة وأهواء السياسيين

لكن أليس تصوير المسألة على ذلك النحو المبسط جدا هو عين الشعبوية؟ ألا يفرغ وبشكل ما تلك الأهداف النبيلة في الوحدة من مضمونها الفعلي؟ لم يكن الأمر بالنسبة للتونسيين والجزائريين هو البحث في ما إذا كان التعاون والتكامل بينهم ومساعدة بعضهم بعضا في الأزمات والشدائد والسعي بخطى حثيثة نحو الوحدة بين البلدين ضرورة أم لا، بل كان المطلوب أن تحدد الطرق والأساليب الموصلة لذلك. وهنا فإن السؤال الجوهري في تونس مثلا هو هل أن تلك الطريقة التي كانت قريبة من التسول كانت بالفعل هي الحل الأفضل لأشكال التزود باللقاحات؟ أم أنه كان حريا بديمقراطية ناشئة أن تبحث عن محاسبة المقصر، وتفتح الملفات بلا استثناء، بدلا من أن تهرب إلى الأمام، وتخفي عن شعبها مواطن الخلل والتقصير في إدارة الأزمة الصحية التي يواجهها البلد؟ إن تكرر الأمر واللجوء في أكثر من مناسبة للجزائر، سواء عند تسجيل نقص في تدفق السياح الأوروبيين على تونس، أو كلما حدثت مشكلة في تزود بعض المناطق بقوارير الغاز المنزلي، بسبب قطع بعض الأفراد للطرق، ليس بالضرورة دليلا على قوة العلاقة بين الدولتين، كما يظن البعض، بل هو إشارة قوية إلى أن فيها خللا ما. ولعله من باب استغباء التونسيين أن يقال لهم إنه من الطبيعي جدا أن يحصل ذلك، وأن يمد الجزائريون دائما يد المساعدة لبلادهم كلما احتاجتها، لأن ذلك هو الشيء العادي الذي يفترض أن يحصل بين جارتين شقيقتين، لكن إن تركنا الحسابات الداخلية التي تجعل سلطات كل بلد ترتاح لتلك الوضعية، التي تبدو فيها اليد العليا الجزائرية سخية في التعامل مع اليد السفلى التونسية، فإن الوضع الطبيعي للعلاقات بين الجارتين يبقى في انفتاحهما على بعضهما بعضا بشكل حقيقي، لا بشكل ظرفي أو صوري. والخطوة الأولى نحو ذلك هي أن تعرفا ما الذي تريدانه بالضبط، وكيف تتصوران المآل النهائي لعلاقتهما الضاربة في جذور التاريخ؟ وهل أنهما ترغبان بالاكتفاء بالوضع القائم، أي وضع دولة تساعد الاخرى وتمن عليها في بعض المناسبات؟ أم تطمحان لما هو أكثر من ذلك، أي إرساء نوع من الشراكة والاتحاد الذي يسمح للشعبين بان لا يشعرا بأنهما في بلدين مختلفين.
إن أهمية تلك الخيارات لا تعني تونس والجزائر فحسب، لأن لها انعكاسا فوريا ومباشرا على محيطهما المغاربي، فالتقارب بين الجارتين إن لم يندرج ضمن تلك الرؤية الإقليمية الواسعة، فإنه سيكون عبارة عن تحالف مؤقت يخضع لتقلبات السياسة وأهواء السياسيين، وعوامل المد والجزر التي يعرفها الجميع. والخطر في تلك الحالة هو في أن يكون الغرض الخفي من ورائه، هو أن يحاصر طرف آخر في المنطقة، ما يجعله أبعد ما يكون عن تحقيق آمال الشعوب المغاربية. أما أين تقف العلاقات التونسية الجزائرية اليوم، وهل أنها وصلت بالفعل لتلك المرحلة؟ فمن المؤكد أنه سيكون صعبا جدا على من هللوا باكرا للتصريح الرسمي أن يمتلكوا الجواب.
كاتب وصحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كريمة بومزار التونسية:

    الى الاستاذ نزار المحترم: البعض يحاول ان يفسد بين تونس والجزائر, ونحن من جهتنا نصلح الافساد ولن نمل, كل واحد ينفق من واش عندو. لي عندو الخير ايمد الخير, واللي ما عندو حتى خير, …… كما تقول الحكمة في تونس: يا المشحاح لا تعاند الذي اعطاه الله, سيزيده الله ويحرمك وتموت بالغمة.

  2. يقول محفوظ الجزائري:

    الجزائر لن تنسى أبدا مساندة الأشقاء التونسيون إبان فترة إحتلال الجزائر، وتكفي واقعة ” ساقية سيدي يوسف” للتدكير بما لاقاه أشقاؤنا بسبب دعمه للثورة الجزائرية،

  3. يقول صحراوي:

    .
    الجزائر لم تنتظر كورونا لمساعدة تونس أو غير تونس.
    منذ استقلالها الجزائر ساعدت وتساعد من يريد أو يطلب مساعدتها بداية من حركات التحرر عبر العالم.
    ولتنويرك أذكرك أن الجزائر لم تنتظر الجائحة لمساعدة تونس.
    الجزائر تعطي مجانا الغاز والكهرباء للمناطق الحدودية التونسية.
    الجزائر منحت وديعة للبنك المركزي التونسي رغم الضائقة المالية التي تعيشها.
    الجزائريون هبوا على بكرة أبيهم لزيارة تونس عندما قاطعها السياح الغربيون.
    الجزائر قدمت مساعدات طبية لتونس بمناسبة أحداث ساقية سيدي يوسف.
    الجزائر فعلت كذلك وأكثر مع الشقيقتين موريتانيا وليبيا طبيا وإنسانيا واقتصاديا، أخرها إرسال بعثة هندسية لإصلاح محطة توليد الكهرباء في طرابلس..

1 2 3

اشترك في قائمتنا البريدية