العلمانية المُفترى عليها؟

من أكثر المصطلحات التي يُساء فهمها واستخدامها هو مصطلح العلمانية، فالإسلاميون يعتقدون أنها معادية للدين لأنها تفصل بين الدين والدولة، بينما هم يعتبرون أن الإسلام دين ودولة، لا بل إن البعض يعتبر العلمانيين بأنهم ينتمون إلى معشر الملاحدة غير المؤمنين بالأديان أو بالله. وهذا طبعاً غير صحيح في كل الحالات، فهناك زعماء وسياسيون كثر في العالم يحكمون بلداناً علمانية، لكنهم مؤمنون ويذهبون إلى المعابد والكنائس ودور العبادة الأخرى، وبالتالي ليس هناك علاقة بين العلمانية والإلحاد إلا في بعض الأنظمة البائدة. لكن مع ذلك، فهناك التباس كبير لدى الغالبية العظمى من الشعوب حول مفهوم العلمانية. ولو سألت السواد الأعظم من العوام في العالم العربي عن العلمانية لسمعت كلاماً مسيئاً جداً لها، فهو مصطلح ملعون مطعون في الثقافة الشعبية العامة في العالمين العربي والإسلامي. ولم ينصف العلمانية سوى المفكر علي عبد الرازق في كتابه الشهير: «الإسلام وأصول الحكم» الصادر قبل قرن من الزمان. والمشكلة أن حتى بعض المثقفين لا يميزون كثيراً بين أنواع العلمانية، بل يحصرونها بشكل مبتور ومجتزأ فقط في عملية فصل الدين قسراً عن الشؤون السياسية والاجتماعية للدولة، أو حسب مقولة السيد المسيح الشهيرة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» دون التبحر في شرح أنواع العلمانية المتعددة، وفي ذلك طبعاً ظلم كبير لمفهوم العلمانية الواسع، ففي واقع الأمر ليس هناك علمانية واحدة، بل هناك نماذج وألوان مختلفة منها، وهي تُطبق بطرق وأشكال متعددة حسب النسق الثقافي لكل بلد. ويمكن تقسيم العلمانية إلى أنواع رئيسية بناءً على أسلوب تطبيقها ومدى تأثيرها على الحياة العامة والخاصة. ولنبدأ بالنوع الذي يعتقد كثيرون أنه النوع الأول والأخير، وليس هناك أي نموذج آخر غيره، وهي «العلمانية الإلحادية». وهذا النوع كان فعلاً موجوداً في يوم من الأيام، وقد استغلته الدول الغربية أيام الحرب الباردة لتخويف الشعوب العربية منه، واستخدمته كبعبع لشيطنة الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية البائدة. وقد كان الإعلام الغربي يومها يصوّر الأنظمة الشيوعية بأنها معادية للأديان كي تؤلب الكثير من الشعوب ضد الشيوعيين. وقد نجحت في ذلك نجاحاً كبيراً. ولا ننسى أن أمريكا حشدت آلاف المجاهدين العرب والمسلمين لطرد السوفيات من أفغانستان على اعتبار أنهم ملحدون وكفرة. وقد راق ذلك للحركات الإسلامية وقتها فتوافدت على أفغانستان لتطهرها من الرجس الشيوعي المعادي للدين. ولا شك أن النوع الشيوعي من العلمانية كان يسعى إلى إقصاء الدين بالكامل من الحياة العامة والخاصة، وكان الشيوعيون يعتبرونه شأناً فردياً لا مكان له في السياسة أو المجتمع، لا بل منعوا المظاهر الدينية في الأماكن العامة، وفرضوا قوانين صارمة تحد من حرية ممارسة الشعائر الدينية وتشيطنها. وهناك نوع ثان أسوأ من النوع الأول في معاداته للدين ألا وهي «العلمانية المعادية» التي تتخذ موقفاً عدائياً سافراً واضحاً تجاه الدين، وتعتبره عاملاً مفسداً يجب محاربته بشتى الطرق وليس فقط الحد من مظاهره وممارساته، فتمنع أو حتى تحظر وتهاجم النشاطات والمؤسسات الدينية كبعض الأنظمة الأيديولوجية الشمولية مثل ألبانيا سابقاً.

النظام العلماني ليس بالشكل القبيح الذي رسخ في عقول ملايين العرب والمسلمين، بل هو نظام مفترى عليه، وكل البلدان التي جربته بشكله الصحيح تقدمت على كل الأصعدة

أما النوع الثالث من العلمانية، فهي «العلمانية اللادينية المحايدة» وهي تهدف إلى الحياد بين الأديان دون تفضيل دين معين، مع السماح بممارسة الدين كجزء من الحرية الفردية، فلا تتدخل الدولة في الشؤون الدينية، وتضمن المساواة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم. وتعتبر فرنسا إحدى الدول التي كانت ومازالت تمارس هذا النوع من العلمانية من خلال مبدأ «اللائكية».
ثم يأتي النوع الرابع من العلمانية المعروف بـ «العلمانية الجزئية»، وهي تركز على فصل الدين عن الدولة فقط في الأمور السياسية والقانونية، مع السماح بتأثير الدين في الجوانب الثقافية والاجتماعية، إذ يمكن أن تظهر الرموز الدينية في الحياة العامة، ولكن تُمنع من التأثير في القرارات الحكومية. وتعد تركيا مثالاً على ذلك النوع من العلمانية في بعض مراحلها.
أما النوع الخامس فيطلقون عليه «العلمانية التوافقية» التي تُحاول تحقيق التوازن بين الدين والدولة بحيث يُسمح للدين بلعب دور إيجابي في المجال العام دون أن يسيطر على الدولة وذلك من خلال التعاون بين المؤسسات الدينية والدولة لتحقيق أهداف مشتركة، مثل دعم الأخلاق أو التعليم. ومن الدول التي تطبق هذا النوع من العلمانية هي ألمانيا من خلال علاقتها بالكنائس المسيحية. ولا بد أن نذكر هنا أن الكنائس في ألمانيا ذات نفوذ كبير جداً، وتملك مثلاً كماً هائلاً من المشافي.
ولا ننسى أيضاً أن ألمانيا العلمانية لديها حزب شهير يُدعى «الحزب الديمقراطي المسيحي» الذي يعمل ضمن نظام علماني.
وهناك نوع سادس يسمونه « العلمانية الثقافية» التي تُركز على تقليل تأثير الدين على هوية المجتمع العامة. وتهدف إلى بناء هوية وطنية تعتمد على القيم المشتركة بعيداً عن الدين كما هو الحال في الولايات المتحدة من خلال تبنيها مبدأ الحرية الدينية في إطار الهوية الوطنية. لكن هذا لا يعني أن المؤسسات الدينية بلا حول ولا قوة في أمريكا، بل على العكس من ذلك، فالرئيس الأمريكي الحالي مثلاً يعتمد بدرجة كبيرة على الإنجيليين البيض، ولولاهم لما فاز في الانتخابات، لهذا يسمونهم بأوفياء ترامب. ولا شك أنكم تشاهدون في مراسم تنصيب الرؤساء الأمريكيين كيف يتقدم رجال الكنيسة حفل التنصيب، وكيف يتلون الترانيم والابتهالات والأناشيد الدينية في مراسم تنصيب الرؤساء والملوك والملكات في بريطانيا وأمريكا، وهي مراسم سياسية بامتياز، مما يجعل السياسة والدين يتناغمان في موكب عجيب غريب.
أما النوع السابع والأخير من العلمانية فيطلقون عليها اسم «العلمانية المتكاملة» التي تدمج بين القيم الدينية والقيم العلمانية بطريقة تسمح بالتعايش بينهما، كما تُفسح المجال للمؤسسات الدينية للعمل ضمن النظام العلماني بشرط الالتزام بالقوانين العامة، كبعض الدول الإسكندنافية. باختصار فإن العلمانية تختلف حسب السياق الثقافي والسياسي لكل دولة، وهناك بلد علماني مثل بريطانيا تتولى فيها الملكة أو الملك رئاسة الدولة والكنيسة معاً. إذاً، فإن النظام العلماني ليس بالشكل القبيح الذي رسخ في عقول ملايين العرب والمسلمين، بل هو نظام مفترى عليه، وكل البلدان التي جربته بشكله الصحيح تقدمت على كل الأصعدة. وفي الختام دلوني على نظام ديني ناجح في العالم. إيران مثلاً؟ السودان؟ أفغانستان؟ العراق؟ خلينا ساكتين!

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول باسو المغربي بوسطن:

    العلمانية ليست نظام سياسي أو ديني، هي وصف لكيف تتداخل الأديان والمذاهب مع الواقع السياسي والاجتماعي التي تعيش فيه المجتمعات، والمد والجزر في هذه العلاقة يتطور مع الاحداث ، خلال الغزو السوفييتي لافغانستان إلى احداث سبتمبر يستطيع كل متابع ان يرى الفرق في تداخل الاديان بالسياسة على الصعيدين الدولي والمحلي،
    القول الفصل في نظري يكمن في التعليم والاعلام في اي بلد لكيفية التوفيق بين الأمرين، الدول لا تستطيع أن تتجاهل البعد الديني لشعوبها، ببساطة لانها ان تجاهلته استغلت اطراف هذا التجاهل لصالحها، و لن تستطيع الدول محاربة الثقافة او الدين، يل على اي منظومة سياسية تتطلع للنجاح ان تجعل من البعد الديني لاي شعب محرك فعال وإيجابي لمصلحة المجتمع و الوطن، دون تهميش اي معتقد مهما قل وزنه أو تضاءل وهجه، والدول لها المسؤولية الكاملة في اي تداعيات سلبية على المجتمع من اي معتقدات تتعارض مع قيم ومبادئ المجتمع المدني.
    النظام علماني او غير ديني هو انجح تنظيماً للتعامل مع العالم المعاصر والمستقبلي، ببساطة لان اختراع الدولة الحديثة لم يأت من الاديان حصرا بل من تراكمات التجارب البشرية، التي احدثت الانتخابات و الدستورية والبنوك المركزية و المؤسسات الحكومية بشكلها الراهن ، تتعايش وتتنافس مع الكنيسة

  2. يقول ,وطن حر:

    لكل مقام مقال أستاذ فيصل ما نجح في دولة ليس بضرورة ان ينجح في أخرى و العكس بالعكس لكل دولة سياقها و واجب متعين عليها في اعتقادي ان نظام الحكم له تأثير سياسي اكثر من جانب الاجتماعي و الثقافي
    من واجبنا نحن كمسلمين الحفاظ على اخلاقيتنا و مبادئنا و التصدي لكل ما لا يرضي الله و رسوله و في هذا الحال لا بهم نوع النظام الذي يحكم طالما لدى لشعب وعي

  3. يقول رضا تونس:

    مبدأ العلمانية من صميم الدين المسيح بل هي ركيزة من ركائزه وقد واجه السيد المسيح إختبار الهيرودسيين وهم طائفة من اليهود عملاء الإمبراطور الرومانية ليختبروه حول جواز إعطاء الجزية لقيصر من عدمها .فلما علم يسوع خبثهم قال لهم أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر و ما لله لله
    أي أعطوا ما للدولة للدولة و ما للكنيسة للكنيسة أي الفصل بين نشاط للكنيسة و نشاط الدولة و لقد كانت للكنيسة جهاز ا إداريا ضخما منضما يضم ٱلاف الموظفين من رجال الدين لم يكن أغلبهم الأكثر علما بالمسيحية تصرف لهم رواتب ضخمة و يديرون مقابلها أملاكا شاسعة من إقطاعيات و تبرعات و كنائس فهي دولة بموازات دولة القصير و دولة الملوك
    ولقد كان الصراع بينهما ينتهي بغلبة أحدهما ليضع الثاني تحت هيمنته
    ولقد هيمن القياصرة في البداية على للكنيسة و نكلوا بكل رجال الدين و أهانوهم عندما لم يكن لرجال الدين من يحميهم من بطش الملوك ثم سيطر. رجال الدين على الأمراء والملوك حتى وصلوا الى تجريدهم من أراضيهم عندما أصبحت أملاك الكنيسة و قوتها لا تضاهيها قوة الملوك
    ثم تحولت الهيمنة ثانية الى الدولة لما صعدت البرجوازية الاوروبية و استولت على الدولة في كل أوروبا
    العلمانية إ ذو ا مبدأديني مسيحي وليست فصل الدين عن الدولة

  4. يقول رضا تونس:

    لا معنى إذا للعلمانية خارج سياقها التاريخي و خارج الدين المسيحي الذي أنشأ الدين مؤسسة خاصة تقوم على شؤونها
    أما فيما يخص الإسلام فلا وجود لرجال دين إلا بقدر تمييزهم بأنهم عملاء في إختصاصهم لا يعطيهم ذلك أي مكانة خاصة تميزهم عن أبسط مسلم
    وقد وضع للمنتسبين إليه قواعد عامة و ضوابط تدخل في إطار القانون تشمل نواحي الزواج والميراث والزكاة لا يمكن لمسلم أن ينكرها ويبقى منتسبا للإسلام
    فللإسلام نظامه و للعلمانية نظامها و هما لا بتفقان

  5. يقول محمد:

    الا يكفيك الحكم الاسلامي بالأندلس لثمان مئة عام او الحكم العثماني دام ست مأساة عام لا يوجد بالعالم حكم دام مثلما دام حكم الاسلام

  6. يقول Qamar:

    مع العلم اذا دققنا جيدا نسمع من يردد ويطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية……هل هذه الشريعة قادرة على إدارة مفاصل الدولة بكل مناحيها في هذا القرن الواحد والعشرون ……
    ليتك يادكتور تكثر من نشر هذه التوضيحات على شكل بوستات قصيرة للنشر الوعي أكثر.

  7. يقول فيصل علي المغربي:

    الله عمل لنا نظام يتماشى مع فطرة الانسان السوية هو النظام الاسلامي

1 3 4 5

اشترك في قائمتنا البريدية