فرانك هوغربيتس
بعيداً عما أحدثه العالم الهولندي فرانك هوغربيتس، من خلال طريقته الاستعراضية والدعائية البعيدة إلى حد ما عن الممارسة العلمية، التي أدخل معها العالم في دوار واهتزاز نفسي، وجعل الناس في حدود لا بأس بها، خصوصا في منطقتنا تعيش الخوف، حيث يجب أن لا تخاف منطقياً طالما أنه لا يمكن التنبوء ومعرفة متى سوف يحدث الزلزال، بمعنى أنه جعل الناس تموت نفسياً قبل آوان الموت الجسدي، والأدهى من ذلك أنه منذ شهر فإن أغلب توقعاته قد حدثت على ما يبدو على الأقل ونحن نراقب وليس شرطاً أن تكون قد حدثت في منطقتنا.
لكن السؤال اليوم لماذا يتم استبعاد فرضية فرانك هوغربيتس الذي تنبأ بحدوث عدة زلازل في بعض المناطق، اعتماداً على حركة الكواكب، قال فاروق الباز مدير مركز أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن الأمريكية، في تصريح عبر قناة «أون» المصرية: «ربما تكون هناك علاقة بين الزلازل والفلك، لكن حتى الآن لا توجد أدوات علمية لذلك» وأوضح أن «الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وعند حدوث جذب شديد من الجهة الأخرى مضاد لجذب الشمس قد يؤدي لتحركات في القشرة الأرضية، لكن ذلك حتى الآن غير مثبت علميا، لكنه احتمال قائم لأن القشرة الأرضية عائمة فوق كتلة أرضية ليست صلبة» وهنا نتساءل لماذا يتم استبعاد فرضية فرانك من بعض الدوائر العلمية بشكل تعصبي، وهنا نستذكر نموذج في إبستمولوجيا العلوم، خصوصاً حول البعد الأيديولوجي للعلم، ونحن هنا لا نؤيد ولا نعارض أي فرضية، لأننا في طبيعة الحال غير متخصصين بعلم الزلازل، لكن حسبنا أن نتساءل من الناحية الإبستمولوجية، خصوصاً بعد هذه الأحداث، هل يعاد النقاش بشكل مختلف، ويفرض فرانك فرضيته على بنى العلم؟ بمعنى عدم استبعادها على قاعدة العالم بول فييرابند، من أن كل شيء يصلح، وبغض النظر فقد لا تكون صحيحة، انطلاقاً من الاحتمالية كرؤية ومنطلق، لذلك سوف نقوم بعرض نموذج يطرح سؤال العلم وكيفية اشتغاله، من خلال النظرية الفوضوية لبول فييرابند، أي أن هذا الحدث جعلنا نستذكر هذا النموذج، الذي لا يستبعد أي فكرة مهما كانت سخيفة أو قديمة، انطلاقاً من أفكار ونظريات أصبحت مفسرة بعدما مورس عليها الرفض.
يذهب فييرابند إلى أنه ليست هناك فكرة مهما كانت قديمة وسخيفة غير قادرة على تطوير معرفتنا، لقد تم امتصاص تاريخ الفكر كله في العلم، ويتأسس على هذا أنه لا توجد نظرية تتفق تماماً مع كل الوقائع في مجالها.
الوضعية المنطقية
عمل الفيلسوف والعالم الفيزيائي النمساوي الأصل بول فييرابند ( 1924 ـ 1994) ,على توجيه سهام النقد الى الوضعية المنطقية كذلك على أستاذه الفيلسوف كارل بوبر، لأنه رأى ان الوضعية المنطقية تمسكت بالمنهج الاستقرائي، حتى إن راسل يوحي كأنه شر لا بد منه، في حذف ما سواه، وكارل بوبر تمسك بالمنهج الفرضي الاستنباطي، من هنا هاجم فييرابند الاستقراء هجوماً شديداً مطلقاً مقولته الشهيرة «كل شيء يصلح» لأنه رأى أنه لا توجد قاعدة واحدة معقولة قابلة للتنفيذ مهما كانت مؤسسة إبستمولوجياً ولا يتم انتهاكها، من هنا ضرورة التحرر من الالتزام بقواعد المنهجية، لأن المنهجية الصارمة لا تحقق تقدماً للعلم، والعلم ينجح إذا سمح بخطوات فوضوية من آن لآخر، إذ أنه ليس بمقدورنا إيجاد نظرية واحدة تتفق مع كل الحقائق الموجودة، لأنه دائماً توجد مشكلات بين النظرية والحقيقة وحينئذ يكون الشغل الشاغل للعلماء هو إخفاء تلك المشكلات عن طريق التقريبات الخاصة التي أصبحت جزءاً رئيسياً في العلم الحديث، من هنا وضع فكرة الاستقراء العكسي عن طريق استخدام الفرض، الذي يتعارض مع النظريات المؤكدة والنتائج التجريبية الصحيحة، التي تؤدي الى تطور العلم من خلال تقديم اتجاه مخالف لقواعد وأسس نظريات التأييد والتعزيز.
يذهب فييرابند إلى أنه ليست هناك فكرة مهما كانت قديمة وسخيفة غير قادرة على تطوير معرفتنا، لقد تم امتصاص تاريخ الفكر كله في العلم، ويتأسس على هذا أنه لا توجد نظرية تتفق تماماً مع كل الوقائع في مجالها. الوقائع سبق أن أسسها الأيديولوجيون القدامى، وربما كان الصدام بين الوقائع والنظريات برهاناً على التقدم ودون الاستغناء المتكرر عن العقل، لن يكون هناك تقدم، بمعنى أن هناك عوامل عديدة منها الأسطورة التي ربما تساهم في التطور، وأن العلم ليس معصوماً عن الخطأ، أوليس الفكر هو أولاً قدرة على الغلط وأن للخطأ دوراً إيجابياً في نشأة المعرفة؟ كما يشير جورج كانغيلام. لهذا فالنزاع بينه وبين الأسطورة يقوي من الفوضوية، لأن فييرابند يرى أن العلم أكثر قرباً من الأسطورة، من هنا يوصى فييرابند بميثودولوجيا جديدة تستبدل الاستقراء بشكل معكوس، وتستخدم التعددية والرؤى الميتافيزيقية والأساطير جنباً إلى جنب مع العلم وإنكار الاهتمام بثنائية النظرية/ الملاحظة، فالأسطورة ليست ذات ملاءمة موضوعية، لكنها تستمر نتيجة لجهود مجتمع المؤمنين والقادة، لكن هؤلاء الآن هم القسيسون أو الفائزون بجائزة نوبل، وهذا أيضاً ما أكده كلود ليفي ستروس في ما يخص الأيديولوجيا السياسية، كيف أنها حلت مكان الأسطورة في المجتمعات الحديثة. إذن يعد العلم في نظر فييرابند من الجهود الفوضوية الأساسية وتعتبر الفوضوية النظرية الأكثر إنسانيةً، وأكثر قدرة على تشجيع التقدم مقارنة بالبدائل ذات القوانين والنظم.
الثورات المعرفية
التاريخ في شكل عام وتاريخ الثورات أغنى في محتواه وأكثر تنوعاً وتعدداً في جوانبه وأكثر حيوية مما قد يتخيله أفضل المؤرخين والمنهجيين، وهنا يستشهد بأينشتاين (لا تسمح الظروف الخارجية التي توضع أمام العالِم لحقائق الخبرة والتجربة بأن يجعل نفسه خاضعاً للكثير من القواعد والقيود في بناء عالم المفاهيم الخاص به، عن طريق الالتزام بنظام معرفي معين بذلك يجب أن يبدو النظامان أمام المعرفيين باعتبارهما نوعاً أو طرازاً من الانتهازيين غير المدققين) وهذا يؤكد البعد التخميني، لهذا يقول فييرابند كذلك عن جالليلو، إنه كان على الطريق الصحيح أثناء بحثه الدؤوب وراء ما كان يعتقد وقتها أنها نظرية سخيفة، ولاحقاً أتت نظرية نيوتن غير متسقة مع قانون جاليليو للسقوط الحر والمباشر وقوانين كبل، وبعد أرسطو وبطليموس ألقيت فكرة أن الارض تتحرك، الرؤية الغريبة القديمة السخيفة تماماً لفيثاغوريس في سلة المهملات للتاريخ، ولم يتم إحياؤها إلا على يد كوبرنيكوس الذي حولها إلى سلاح يهزم به من يحاربونه، وقد لعبت الكتابات الهرمسية دورها في هذا الإحياء، التي لم تلق الفهم الكافي، وقد درسها نيوتن العظيم بعناية، إلى جانب ذلك تظهر المذاهب القديمة والأساطير البدائية على أنها غريبة وغير ذات مغزى لأن محتواها العلمي، إما غير معروف أو تعرض لتشويه العلماء، من هنا يجب أن لا ينتصر الغلو في الوطنية العلمية الوثوقية، وأن نقتل ما لا يتفق مع المناهج المسيطرة، فمثلاً أمثلة كوبرنيكوس والنظرية الذرية وفودو والطب الصيني مقابل الطب البورجوازي، أثبتت أنه حتى أكثر النظريات تقدماً وأماناً ليست آمنة (وهذا ما يخص النظريات حول الزلازل أيضاً) ولهذا من الممكن أن تصبح معرفة اليوم في المستقبل حكاية خيالية وقد تتحول أكثر الأساطير إثارة للضحك إلى أقوى جزء من العلم، إن العلم الحديث أكثر غموضاً وخداعاً من أسلافه في القرنين السادس والسابع عشر كما يشير فييرابند، وكمثال للصعوبات الوصفية اليوم كانت نظرية مركزية الشمس في عصر جاليلو غير مناسبة كمياً ووصفياً وأنها كانت سخيفة من الناحية الفلسفية حتى أن ديكارت أشار إلى ذلك من خلال وصف جاليلو بأنه كان يعاني من انحرافات مستمرة.
لذلك يجب الخروج من الدائرة واختراع نظام مفاهيم جديد لنظرية جديدة أو الاستيراد من علم خارجي من الدين، أو من الأساطير أو أفكار المنافسين في لعبة العلم لا يستطيع العلم الوجود دون الاستنتاجات المضادة، فمثلا استفاد علم الفلك من الفيثاغورية، ومن الحب الأفلاطوني للدوائر، استفاد الطب من علم الأعشاب وعلم النفس والميتافيزيقا وعلم نفس الساحرات والقابلات والمحتالين وبائعي الأدوية المتجولين، وأيضا فإن علم الفلك الحديث من خلال كوبرنيكوس بدأ من خلال تطبيق فكرة فيلولاوس القديمة على احتياجات التنبؤات الفلكية وفيلولاوس لم يكن عالماً دقيقا (وهذا ما هو عليه العالم الهولندي اليوم) بينما كان بطليموس هو عالم الفلك المتخصص والآن يطلق على نتائجه بأنها سخيفة بشكل لا يصدق، بمعنى أن العلم الحديث لم يكن ليتقدم دون الاستخدام غير العلمي لأفكار ما قبل الطوفان، وأفكار التصوف، كما أشار إليه جاليلو من خلال أرستارخوس وكوبرنيكوس للعقل الذي يعارضه، وهو تفكير مصاحب للإيمان الصوفي، وفي السياق نفسه يستشهد كذلك بالفيلسوف إيمانويل كانط، في إشارة عدم استبعاده للسفسطائيين لناحية رغبتهم في هز الأشياء الأساسية.
يعتبر الغلو في وطنية العلم مشكلة أكبر بكثير، مقارنة بمشكلة التلوث العقلي، خصوصا أصحاب رؤية عولمة هذه القواعد، لأن العلم يحتاج لأشخاص قادرين على الابتكار، وليسوا مقلدين للنماذج السلوكية الثابتة.
العلم والأسطورة
يعتبر العلم أكثر قربا للأسطورة أكثر مما تستعد الفلسفة العلمية للاعتراف به، وهو أحد أشكال التفكير المتعددة التي طورها الإنسان، وليس بالضرورة أفضل هذه الأشكال، وهو واضح ومزعج ووقح لكنه سامٍ فقط لهؤلاء الذين صوتوا لصالح أيديولوجية معينة، أو الذين قبلوها دون اختبار مميزاتها وحدودها، وبما أن رفض أو قبول الأيديولوجيات يجب تركها للفرد، يلي ذلك أن الفصل بين الدولة والكنيسة يجب إكمالها بالفصل بين الدولة والعلم، وقد يكون هذا الفصل فرصتنا الوحيدة لتحقيق النزعة الإنسانية التي نحن قادرون عليها، لكننا لم ندركها بعد .
إن الظهور الثوري والانقلابات العلمية حدثت فقط لأن بعض المفكرين، إما قرروا عدم الالتزام بقواعد منهجية واضحة، أو لأنهم اخترقوا هذه القواعد ولم يستجيبوا كذلك لشرط الاتساق وعدم المقايسة، أو أنها ما عادت قادرة على التفسير، كما أشار إليه توماس كون، فتاريخ العلم مليء بالحوادث والتخمينات، التي يمكن للأفكار والأيديولوجيات أن تتسرب إلى فلسفة العلم، من خلال تاريخ العلم والأهم ملاحظة تجاوز مسألة الاتساق، إن نجاح النظرية هو بسبب أنها تحولت إلى أيديولوجيا صلبة وليس بسبب اتفاقها مع الحقائق، إنما لعدم تحديد إجراءات الاختبار، وكذلك بسبب إزالة بعض هذه الحقائق العلمية، الذي يصر على امتلاك المنهج الصحيح والنتائج المقبولة هو أيديولوجي يجب فصله عن الدولة، وبشكل خاص عن التعليم، وهذا الكلام كم هو شبيه بما نعيشه اليوم حول النظريات التي تخص الزلازل.
يعتبر الغلو في وطنية العلم مشكلة أكبر بكثير، مقارنة بمشكلة التلوث العقلي، خصوصا أصحاب رؤية عولمة هذه القواعد، لأن العلم يحتاج لأشخاص قادرين على الابتكار، وليسوا مقلدين للنماذج السلوكية الثابتة. يجب تحرير المجتمع من القوة الخانقة للعلم المتحجر مثلما حررنا أجزاء من القوة الخانقة للديانة الواحدة، قد يكون الانفصال بين الدولة والعلم فرصتنا للتغلب على البربرية الثائرة في عصرنا العلمي التكنولوجي، إن الانفصال بين العلم واللاعلم ليس فقط مصطنعا، بل هو أيضا ضار بتقدم المعرفة، في حين تبذل الديمقراطية بعض الجهود لتفسير العملية، بحيث يمكن للجميع فهمها، فإن العلماء إما يخفونها أو يمنعونها حتى تتلاءم مع مصالحهم، إن المواطنين الذين تعرضوا لضغوط المؤسسات العلمية مروراً بعملية التعليم الطويلة، والذين استسلموا لهذه الضغوط نجحوا في اختباراتهم، مقتنعون الآن تماماً بحقيقة الحكاية الخيالية، وهكذا خدع العلماء أنفسهم والأخرين لكن دون أي عيوب حقيقية لأن لديهم سلطة الحقيقة وشرعيتها بشكل أكبر، ومالاً وجاذبية أكثر مما يستحقون محاطين بهالة التميز .
يسأل فييرابند أليس من الممكن أن العلم كما نعرفه اليوم، أو البحث عن الحقيقة بأسلوب الفلسفة التقليدية سوف يخلق وحشاً ما؟ أليس من الممكن أن يضر الإنسان ويحوله إلى آلة بائسة غير ودودة أنانية دون سحر أو روح دعابة؟ أخيراً هل نحن أمام فرصة الانعتاق من أحادية النموذج، خصوصاً بما نمرّ به من حصد لأرواح الآلاف؟ حسبنا أن نتساءل مع هوغربيتس، من خلال النظرية الفوضوية لفييرابند من أن فكرته اليوم تعد سخيفة ومستبعدة، لكن ربما لاحقاً قد تتحول إلى نظرية مفسِرة علمياً، وهذا احتمال، خصوصاً أن البنية العلمية للعلم هي بنية ثورية.
باحث من لبنان
هذا الرجل صدق مرة فاعتبره الناس نبيا، لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى ?