العمل العربي المشترك خارج السياسة

تشير الكثير من الدّلالات إلى الوهن الذي أصاب الإرادة السياسية في كثير من الأقطار العربية، خصوصاً بالنسبة للقضايا القومية المشتركة، التي تمس الجميع بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ولقد كتب وتحدّث الكثيرون عن أسباب ذلك الوهن وقدّموا مقترحات قد تقود إلى علاج ذلك الوهن، ولكن بقيت تلك المقترحات في أغلب الأحيان مهملة في الأدراج دون أي تفعيل.
من هنا ضرورة وأهمية الانتقال من عوالم السياسة، المأزومة بسبب ذلك الغياب أو الوهن، الذي أصاب الإرادة السياسية العربية القومية المشتركة، إلى عوالم أخرى قد يكون ولوجها مدخلاً أفضل وأيسر للعمل الوحدوي العربي التضامني المشترك.
لنأخذ كمثال أول حقل الحاجة المشتركة لتأسيس مشاريع صناعة عسكرية عربية. لقد حاولت مجموعة من الأقطار العربية منذ عدة عقود تنفيذ خطوة مشتركة لتأسيس صناعة عسكرية عربية، لكن المشروع توقّف بعد حين بسبب ملابسات اتفاقية السلام بين جمهورية مصر العربية والكيان الصهيوني.

حاولت مجموعة من الأقطار العربية منذ عدة عقود تنفيذ خطوة مشتركة لتأسيس صناعة عسكرية عربية، لكن المشروع توقّف بعد حين بسبب ملابسات اتفاقية السلام بين جمهورية مصر العربية والكيان الصهيوني

لكن، ألم يأن الأوان لإعادة النظر في الموضوع على ضوء مستجدّات داخلية جديدة حدثت في طول وعرض بلاد عرب من جهة، وعلى ضوء تطورات كارثية في الابتزازات والضغوط التي مارستها قوى استعمارية وصهيونية من خلال موضوع شراء وشروط استعمالات السلاح للجيوش العربية؟ ألا تضع الولايات المتحدة الأمريكية على الأخص، ولكن أيضاً مؤخراً الكيان الصهيوني، شروطاً كثيرة قبل بيع أي سلاح حديث متطور، أو السماح ببيع قطع غيار لأي سلاح مقتنى من هذه الدولة العربية أو تلك، بل شروطاً أقسى بالنسبة للسماح ببيع أية أسرار تكنولوجية من دون تنفيذ شروطهما الابتزازية الكثيرة، سواء بالنسبة للموضوع الفلسطيني، أو بالنسبة للموافقة على المقاطعة، والمحاصرة الاقتصادية على هذا القطر العربي، أو ذاك، أو بالنسبة لقبول مشاريع مسّميات مشبوهة، مثل الشرق الأوسط الجديد، أو الديانة الغريبة الجديدة المسّماة بالإبراهيمية؟
وإذن ألم يحن الوقت للتخلص من تلك الابتزازات والضغوط من خلال قيام صناعات حربية عربية مشتركة، كما فعلوا في السابق؟ ولكن بإبعاد السياسة عن هذا المشروع وجعله في الدرجة الأولى مشروعاً عربياً مستقلاً، تحركه حاجات السوق العربية من السلاح لجيوشها، ولكن أيضاً يدخل في التنافس العالمي لبيع الأسلحة وتطويرها والتعاون في بناء مراكز بحوث لتحديث التكنولوجيا والعلوم التي تقف وراءها؟
ألن تؤدي تلك الخطوة إلى تحسين استقلالية كل أقطار الوطن العربي في شؤون التسليح، وبالتالي إلى مزيد من الاستقلالية في كل شؤون الأمن العربي الداخلي والخارجي؟ لنستذكر هنا أن ما تنفقه الأقطار العربية سنوياً على شراء الأسلحة يصل إلى نسبة أربعة ونصف في المئة من حجم ناتجها المحلي. لنستذكر أن محاولة بعض الأقطار العربية لبناء صناعات حربية ظلّت محدودة وتكنولوجياً قديمة بسبب ضيق القاعدة البشرية والعلمية والتقانية المطلوبة، وإن وجدت يظل العاملون فيها في خوف من الاغتيالات، التي يمارسها الأعداء ضد كل العلماء العرب العلميين والتقانيّين الذين يشتغلون في تلك الصناعة. لنستذكر أيضاً أن صناعة السلاح تحتاج إلى ثروات مالية هائلة لا تتوفر إلا في قليل من الأقطار، بينما ستكون متوفرة بقيام مشروع صناعي عربي مشترك. وينطبق الأمر على القدرات التكنولوجية، إن توفرها وتوفر إمكانيات تطويرها الدائم سيكون أسهل وأفضل على المستوى العربي الكلي، بدلاً من المستوى القطري المحدود في كل إمكانياته.
وأخيراً فإن الخليّة الأولى لقيام مثل تلك الصناعة العربية المستقلة المشتركة تستطيع أن تنطلق في الحال بما هو موجود: فمثلاً، مصر لديها ستة وعشرون مصنعاً والجزائر لديها سبع شركات تصنيعية تابعة للدولة، ومن المؤكد أن بعض الآخرين لديهم مثل ذلك أو أفضل. ما ذكرناه اليوم هو أحد الأمثلة وسنحاول تفصيل أمثلة أخرى في مقالات مستقبلية.
*كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عابد صابر:

    هنآك شيء واحد مشترك بين العرب العداوة العربية العربية. وكل الأنظمة العربية فاسدة خاينة بدون استثناء…وأصبح العدو العرب العرب أنفسهم…

  2. يقول د. رامي:

    تجارب العقود الماضية من القرن السابق أوضحت بأن كل مجتمع عربي وكل قطر عربي له ما يتمايز به وما يتباين به عن غيره من المجتمعات والأقطار!… تمايز وتباين في التوزيع والغلو الطائفي والتنوع القومي والوضع الإقتصادي والهاجس الداخلي والنظام السياسي ودرجة الحضور المؤسساتي والطابع الإجتماعي والتعليمي/الثقافي، إلخ… هذا التمايز والتباين يعطي المتأمل فكرة عن مدى إمكانية تحقيق وحدة عربية “إندماجية” والتي كان يدعو لها الكثيرون فيما مضى!!!… ورغم ذلك فبناء علاقات تكاملية في الإقتصاد والتجارة والصناعة ما زالت ممكنة، ولكنها تحتاج إلى إستقرار إقليمي طويل الأمد… من المهم الإنشغال بالمبادرات التي تعنى ببناء الإنسان، فيما يرتقي بحال الإنسان وبفكر الإنسان، وفيما يمكن الأجيال من إمتلاك مهارات هذا الزمان اللازمة للمنافسة على الخارطة الصعبة لأسواق العمل في القرن 21…

اشترك في قائمتنا البريدية