العنصرية خلف زجاجة وسيجارة

حجم الخط
2

هناك أغنية معروفة، من تراث الراي، تداول مشاهير على تكرارها في نصف القرن الماضي، ولا تزال من الأغاني الأكثر رواجاً، صارت مع الوقت مُتلازمة والألسنة تحفظها، جاء في مطلعها: «البيرة عربية والويسكي قاوري» (بما معناه: الجعة عربية والويسكي أجنبي). تبدو هذه الجملة بسيطة، لا جمالية فيها، كما لو أنها خرجت من فاه شخص بسيط محدود التعليم، لكن في الجزائر لها وقع آخر، فهي تختصر تاريخاً من العنصرية، ومن التمييز بين الناس، جملة واحدة تساوي قاموساً في الفصل بين أفراد المجتمع الواحد. ويقصد منها أن الجعة (نظراً إلى رخص ثمنها) موجهة للعرب من الجزائريين، إلى البسطاء منهم، بينما الويسكي (الذي يغلو ثمنه) فهو حكر على الأجانب، على الأوروبيين. بمثل هذه التعابير يجري التفريق بين شخص وآخر، ويجري وصم طبقة اجتماعية حسب المشروب الذي تتعاطاه. فالفقير يجب أن لا يخرج عن الخانة التي حُشر فيها، ولا شرب له غير ما هو محدد له من مشروبات، بينما الغني له حرية الاختيار، في اقتناء ما طاب له. عام 1999 بمجرد وصول الرئيس بوتفليقة إلى الحكم، ظهرت ـ بالصدفة ـ في الأسواق قنينة جعة جديدة، بحجم صغير، قرر معارضو الرئيس تسميتها (جعة بوتفليقة) بحكم أن الرئيس الأسبق كان قصير القامة، وتداولوا كلاماً أنه لا يشتريها سوى من كان من أنصار بوتفليقة. شاع الكلام عنها، وتحولت إلى قضية سياسية، فجرى سحبها من الأسواق بقرار من الأعلى. بالتالي لا يعد الشرب في الجزائر مسألة قناعة أو خياراً فردياً، ولا تعد مجرد قضية دينية، بين من يحرم أو يحلل، إنها قضية اجتماعية بامتياز، وأحياناً سياسية. فصار كل واحد من الجزائريين حريصاً على أن يشرب شيئاً محايداً، كي لا يذم أو ينظر إليه نظرة عنصرية، صار المواطن يختفي كي يشرب. فإن كانت ـ في الماضي ـ الجعة شراب الفقراء، فإنها، من سنين، باتت للأغنياء أيضاً، والفقراء انسحبوا إلى شيء آخر أسوأ منها، يطلق عليه (زومبريطو)، بمزج الكحول الطبي مع الماء أو العصير، وهو مشروب يستحيل أن ينزل إليه من يتسع ماله، حذر صحته، لكن الفقير لا بديل له، وهذا التمييز العنصري لا يقتصر على نوعية المشروب الذي يستهلكه الفرد، بل تتعداه العنصرية إلى ماركة السيجارة التي يدخنها.

ينفي الناس تهمة العنصرية عن أنفسهم، لكن لا يمكن أن ننفي أن العنصرية من الثوابت، في الجزائر. عنصرية تجاه البشرة، عنصرية تجاه المعتقد، وعنصرية أخرى تجاه لكنة الفرد، تختلف من مدينة إلى أخرى.

صناعة الطفل المدمن

نسمع عن حملات منع التدخين، في الجزائر، لكن لا أثر لها في الواقع، فعدد المدخنين في تزايد، والأسوأ من ذلك أن المدخنين من القصر يعثرون على ما يريدون بأقل الأثمان. فالجزائر من الدول القليلة التي يمكن فيه شراء السجائر بالقطعة، أي بالسيجارة الواحدة، من كل الأصناف والماركات. هذه الممارسة الربحية تضاعف من أعداد المستهلكين، لم يعد المال عائقاً، بحكم أن الناس بإمكانهم الشراء بالسيجارة الواحدة، وهذا ما يسهل الاستهلاك للأطفال والمراهقين، ما يعني أن ما نراه من حملات ضد التدخين لا تعدو أكثر من فلكلور، بالإضافة إلى أن التدخين في الأمكنة المغلقة لا يزال مسموحا، وقد نصادف أعقاب سجائر في مستشفى، ويجب أن لا تنزعج القلوب الرحيمة من رؤية طبيب أو ممرض وهو يمص سيجارة بين شفتيه. وعلى غرار القنينة فإن السيجارة باتت أيضاً عاملاً من عوامل التفرقة الاجتماعية، وقد ساعدت السينما على هذه الفكرة، حيث إن الطبقة الفقيرة حُصرت في تدخين سجائر رخيصة الثمن، محلية الصنع، بينما الطبقة المرفهة تدخن سجائر مارلبورو. هذه الماركة باتت مرادفاً لا مفر منه في الإشارة إلى من تيسر حاله، بينما الفقير لا يملك سوى الاختلاء بسجائر عالية النيكوتين تخرج من الشركة الوطنية للتبغ والكبريت. وفي الطبقات الهشة تزداد نسب التدخين. والأمر لا يتعلق بالتكلفة المادية الأقل، بل لأن الإنسان البسيط لا يهتم بالتحذيرات التي تقول إن التدخين له تأثير سلبي على الرئتين ومختلف وظائف البدن على المدى الطويل. فهو بالكاد يكسب قوة يومه، فكيف ننتظر منه أن يفكر في المستقبل وأن يخضع لهذه التحذيرات؟ محافظا على ممارساته في التدخين، ومكرسا الصور النمطية، في التفرقة الاجتماعية بينه وبين الطبقة العليا، بسبب سيجارة.

توارث التفرقة

ينفي الناس تهمة العنصرية عن أنفسهم، لكن لا يمكن أن ننفي أن العنصرية من الثوابت، في الجزائر. عنصرية تجاه البشرة، عنصرية تجاه المعتقد، وعنصرية أخرى تجاه لكنة الفرد، تختلف من مدينة إلى أخرى. فسكان المدن يبادلون سكان الأرياف عنصرية، والعكس صحيح. أحيانا لا يصرحون بها، لكننا نعثر عليها – مثلاً – في الأمثال الشعبية التي يتداولونها في ما بينهم، في علاقات التجارة أو الزواج التي تجمع بينهم. هذه أصناف من العنصرية التي نعرفها، ومهما حاول الفرد إضمارها، فسوف تظهر، في لحظة من اللحظات. لكن العنصرية المسكوت عنها، فهي عنصرية تجاه الآخر نظير ما يشرب أو ما يدخن. صحيح أن محال بيع الخمور باتت قليلة، في السنين الأخيرة، ليس بسبب القانون، بل بسبب ضغط اجتماعي وديني، فالجزائري يشرب لكنه يحرم الشرب على غيره، يود أن يثمل لكنه يتيح لنفسه الحق في إطلاق الفتاوى بأن بيع الخمور من المكروهات، هذا الجزائري الذي يود أن يعيش عيشة رجل غربي، وأن يموت موتة صحابي مبشر بالجنة. مع ذلك فإن التدخين لا يعرف تضييقا، محال بيع السجائر أو أكشاك البيع في كل مكان، بل من الممكن أن نعثر على محل بيع سجائر ولا نعثر على مخبز، فالمهم أن يبدأ هذا المواطن يومه بسيجارة، والخبزة تأتي متى شاءت. كما أن الجزائري يدرك، ضمنياً، أن تصنيفه الاجتماعي سوف يتحدد بناء على السيجارة التي يغرسها بين شفتيه، يعلم أن مظهره في لحظة التدخين سوف يصير عاملاً حاسماً يحدد من خلاله الآخر طريقة التعامل معه، لكنه غير مبالٍ بهذه العنصرية. قد ينزعج أن تعرض لتمييز نظير لون بشرته، أو لكنته أو مكان قدومه، لكنه لا يعترض عن تمييز بناء على نوع سيجارته، متقبلا التصنيف الذي سوف يزجه فيه الآخر. إنها عنصرية ناعمة، تآلف معها الجميع، والتدخين في تزايد، وهذه العنصرية يبدو أنه لا يزال أمامها مستقبل منعش في المستقبل القريب.

روائي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول قلم حر في زمن مر:

    فرنسا الاستعمارية هي من زرعت هذه العنصرية بين الجزائريين خلال مئة واثنين وثلاثين سنة كاملة غير منقوصة ☹️🥺

  2. يقول مؤيد العلي:

    مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ زومبريطوا لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ

اشترك في قائمتنا البريدية