العنف وسلطات الشرق الهرميّة

لم يكن أحد يتوقع طول أمد الربيع العربي بهذه الصورة الكارثية. فموجات الشباب العربي التي تمكنت من إثبات قدرتها على ملء الساحات والمدن، باحثة عن مستقبل مختلف عما كان مرسوما لها من قِبل سلطات الشرق، شكلت بيئة واسعة وخصبة للتغيير السياسي العام؛ والتغيير في بنى المجتمع وأيديولوجياته المتكررة لزمن وعقود. ومع هذا لم يحدث التغيير المنشود سوى بضع جزئياته في مواقع، فيما تحول في مواقع أخرى لكوارث ونكبات، باتت كلفتها باهظة تهدد مستقبل الدول ذاتها.

معضلة الوقت الراهن

في عالم الشرق، لم يزل سؤال “ديفيد ايستون” حول السياسة على أنها “التخصيص السلطوي للقيم” سؤالا يشكل معضلة الوقت الراهن، بل جذر نكباته! فبينما تشكل السلطة النموذج العامودي في إدارة السياسة الممهورة بالسيطرة والإخضاع والهيمنة، يبرز العنف على أنه الأداة الرئيسية في انتاجها؛ حيث تبدي سلطات الشرق لليوم، عنادها الصلف لحركة التغيير الممكنة في نموذج ونظم العلاقات السياسية، وما دونها المجتمعية أيضًا، كونها البيئة التي تعيش وتتغذى منها في استمرارها في مواقعها السلطوية. فإذا ما تحولت طبيعة هذه العلاقات السياسية والحقوق العامة إلى حقوق أفقية متساوية، فإنها ستفقد مكتسباتها السياسية والاقتصادية المتفردة فيها كحيازة مطلقة غير قابلة للتنازل عنها.
سؤال السلطة والعنف، سؤال السياسة والحقوق، سؤال العصر الحالي، لم يعد تكفيه الإجابات النظرية على أهميتها، خاصة وإن إطار المقارنة المعاش اليوم في نكبات الشرق، إطار قلق تعصف به الهزات العنيفة المتتالية دون أن يستقر بها الحال بعد. سؤال السلطة والعنف هو سؤال الإجابة والممكن والتغيير السياسي، سؤال ضرورات التحول والتغيير الديمقراطي، حيث يمكن للسلطة أن تصبح أداة إدارة في مستويات السياسة المجتمعية ذات التوزع الأفقي والحقوق المتساوية، وبالضرورة الحد من العنف المرتبط بها. وإلا قد نصحو على كوارث سياسية أكبر تطال غالبية دول الشرق، كالتقسيم واستحداث الدويلات هنا وهناك.

عمليات التحول

في خضم عمليات التحول والتغيير السياسي الديمقراطي تاريخياً، وما تشهده المنطقة العربية برمتها في الوقت الراهن، مثلت السياسة بطابعها المركزي والسلطة ذات الامتداد العامودي محطة النزاع الأكبر فيها وحولها، وكسب السلطة والاستفراد بحيازتها المطلقة هو عنوانها الأبرز. ما يحيل إلى حجم الكارثة التي نعيشها في معظم دول وعواصم الشرق. العالم الذي تتداخل فيه السلطة السياسية الحاكمة مع جملة من السلطات دونها ذات النماذج الأيديولوجية المغلقة مركزية الطابع، مبدية كل أنماط العنف بدرجاته القصوى للدفاع عن مكتسباتها تلك، والتخلي الطوعي عن قيم الدولة ودستورها والحياة السياسية بوصفها عملا في شؤون الناس.
هذه السلطات هرمية النموذج تبدأ من: سلطة الأب المركزية، سلطة الذكورة على الأنوثة، سلطة المرجع الديني المركزي باتجاه وحيد، سلطة الأيديولوجيات الماركسوية والقوموية التي لا ترى سواها قائدًا وملهمًا للشعوب وصورة وحيدة للحاكم الأبدي…
سلطات تهب وتمنع حسبما تتحقق مصالحها واستمراريتها. وليس فقط، بل تتحالف بينياً مع السلطات السياسية في البقاء على نموذجها المتحقق في أحكام الهيمنة على شتى أنماط البنى المجتمعية ملحقة وتابعة لها. فكانت النتائج اليوم لا تخطئها عين: فاليمن وليبيا والعراق تغرق في المزيد من التشظي العام، وسوريا في أعلى درجات الكارثة كعقدة دولية جيوبوليتيكية مستعصية الحل، فيما لازالت تونس ومصر والسودان تحبو وتتعثر!

ثورات الربيع العربي

ضربت ثورات الربيع العربي، لا بنى الاستبداد السياسي فقط، بل بنى المجتمع بكافة جوانبه، وتردد صداها في اتساع العالم أجمع، لدرجة باتت أحداث المنطقة شاغلة العالم برمته، تقام لها المؤتمرات والمنصات من “جنيفات” و”أستانات” وغيرهما واحدة تلو الأخرى.
وتحولت مناطق الشرق لمناطق جيوبوليتيكية الطابع في شكل إدارتها وتقاسم النفوذ الإقليمي والدولي فيها، وسوريا مثالًا فاقع المشهد. فـ”الطغاة يجلبون الغزاة” وليس هذا وحسب، بل يقيمون كل نماذج التحلل الوطني من كوارث وعنف متراكم، وكأنها مجزرة عالمية ثالثة لا تختلف عن الحرب العالمية الثانية سوى أنها تتركز في مدن دولة واحدة. فيما تتابع أيديولوجيات الشرق المستعصي الدفاع عن نفسها بكل ضراوة، ما يفسر حجم العنف المقام، حتى أنه لم يعد هناك مبرر سياسي لعنفها سوى التدمير، بغرض التدمير ذاته وفرض سياسية الأمر الواقع، حسبما حاورته ذات يوم “حنّة أرندت” في كتابها “في العنف”.
بنيوية سلطات الشرق هذه ذات الطابع الشمولي باتت اليوم مختبرا فاضحا لارتباط ظاهرة العنف والعنف السياسي، بنموذج السلطة بنيويًا. والذي نادراً ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصة شرقيًا، مع أنه ذو دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية لتاريخ البشر، فالعنف المرتبط بالأيديولوجيات الشمولية الاستبدادية “التوتاليتارية” ذات البناء الهرمي والعامودي، لا يمكنها أبدًا تخيل غيرها مساويًا لها في القيمة والموقع! ما يجعل سؤال التوزيع القيمي للسلطات، سؤال الراهن واجابته إجابة التغيير الذي لا بد منه.
لقد دٌكت اصنام الأيديولوجيا وسلطاتها المطلقة، وترنحها سيعني بالضبط المزيد من العنف لدفاعها عن تقوقعها ووجودها المهدد بالسقوط. فإن كان ثمة ما يجري في مدن الشرق وعواصمه اليوم، وسوريا خاصة، من إيجابية رغم هول الكوارث السياسية والمجتمعية الحادثة، فإنه زمن انكشاف تلك النماذج الهَرمة والهرمية بآن. وانكشافها لا يعني فقط تعرية جوانبها الاجتماعية كعادات وتقاليد وموروث، بل تحالفاتها العميقة مع بنى الاستبداد السياسي ذاته.
استمرار سلطات الشرق لليوم، هو موقعة تاريخية سبق ومرت بها شعوب العالم، قبل أن تتوجه بإرادتها الجمعية، لنبذ العنف وصيغ الحرب، وبالضرورة لمولداته من الجذر. لتقف شعوب المنطقة برمتها أمام سؤال السلطة نفسه، والسياسات التي ولدتها. فعصر الحريات الذي يسعى لتحويل السياسة من أداة هدم وسيطرة، لأداة إدارة وحقوق متساوية أفقيًا حسب “تشارلز تايلور” هو ما يتقلب بموجاته المتعاقبة على المنطقة منذ عقد ونيف لليوم. ويبدو أن إجابته الفعلية مرتبطة بقدرة البنى المجتمعية المحلية على إدراك ضرورات التحول من بناها العامودية تلك، إلى الامتداد الأفقي في الحياة بحيث تتحقق مصالحها بتحقق مصالح الكل المجتمعي.
وهو ما يعني بناء مجتمعات الانفتاح والازدهار وقابلية النمو، بعدما أصابته كل نماذج العطب الذاتي والموت الجماعي، بمن فيها أصحاب السلطات ذاتها وفي قمة هرمها السلطة السياسية؛ التي باتت تدرك أن استمرارها لليوم ما هو سوى مجرد مرحلة من مراحل التوازن العالمي، سيتغير بتغير محاوره القريب.
فإن كان ثمة عنوان للعشرية المقبلة من عمر ثورات الربيع العربي، فهو البحث في طرق الانتقال إلى موضوعة السلطة كحالة إدارة مهنية على أرضية الفعل السياسي كمهنة واحتراف حسب “ماكس فيبر”، والتوزع الأفقي للحقوق السياسية وأشكال الإدارة السياسية والمجتمعية، كمقدمات أولى لاستعادة التعاقد المجتمعي، وهو ما قد يعيد تعريف السياسة والسلطة وارتباطهما بالقيم المجتمعية كشأن عام، لا بالعنف واحتكار السلطات وحسب…

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية