العودة إلى ساحة التاريخ الكلاسيكية والتنافس بين الدول العظمى

المجتمع العالمي يزداد انغماسا في المرحلة الثانية من العولمة، التي حدّد ملامحها الكاتب الأمريكي روبرت كابلان. تمظهراتها الكبرى تشكّلت فعلا من خلال فصل العالم إلى كتل عظمى، مع جيوش قوية وسلاسل توريد منفصلة. وما زلنا نشهد صعود الأنظمة الاستبدادية، وما يسود من انقسامات اجتماعية وطبقية تولّدت عنها الشعبوية المعاصرة، إلى جانب انزعاج الطبقة الوسطى حتى في الديمقراطيات الغربية. باختصار هناك تعبير واضح عن الانقسامات العالمية الجديدة والمتجددة.
نعيش في عصر تعمل فيه السوق الفوضوية والموارد الطبيعية المتناقصة على الزج بالدول ذات السيادة في تنافسات تزداد خطورة يوما بعد يوم. والرهان على التسلّح الذي كان سائدا في ظل شروط تكافؤ القوى التقليدية، حُوّل إلى رهان على الابتكارات التكنولوجية أوّلا، والإبداعات الاستراتيجية ثانيا. والمخاطر التي تحفّ بالدول ذات البنى الامبراطورية، لم تعد تكمن في خطر ضرب أراضيها، بل صارت تكمن في الأعباء المالية لتدخلاتها الخارجية. وبالنظر إلى طبيعة العلاقات الدولية، تتحوّل النزاعات التجارية إلى حروب عقابية. والسلطة المحلية صارت مرتبطة بالسلطة الاقتصادية، ضمن تركيب الحكم في الدولة في العقود الأخيرة. وحقيقة التنافس المؤلمة بين أمريكا والصين، تحوّلت إلى حرب تجارية متواصلة، تلقي بظلالها على العالم.

نعيش في عصر تعمل فيه السوق الفوضوية والموارد الطبيعية المتناقصة على الزج بالدول ذات السيادة في تنافسات تزداد خطورة يوما بعد يوم

ومع واقع التنافس الاقتصادي والعسكري والتجاري بين الدول العظمى، لا يظهر على أي من جداول الأعمال الدبلوماسية، أو السياسية موضوع أممي لإعداد إطار تنظيمي يكفل التعايش والتعاون بين اقتصاديات العالم المتنوعة. وهي المعضلة الحقيقية التي تفصح عن ثقافة سياسية مرتبكة، تتنافس في ما بينها بواسطة تحديداتها للواقع حول ما سمّاه أنطونيو غرامشي هيمنة حضارية. والجائحة العالمية كشفت بشكل واضح، أنّ مقولة التشابك العالمي، مجرّد سردية فاقدة للأثر في الواقع. فالجميع يراقب غياب التضامن الدولي في أروقة مجلس الأمن وغيره، حول أشد الأزمات خطورة على البشرية، بما فيها خطر المناخ وتداعياته المحتملة، رغم المبادرات التي قُدّمت من أجل التوصل إلى مقاربة أممية لمواجهة التهديدات الوجودية على مستوى كوني. وهي مسارات مخيّبة لآمال الشعوب، فعلت ضِمنها المنظمة التكنوقراطية الدولية ما تريد، ورفضت خلالها أمريكا، على وجه التحديد، إبقاء العلاقات الأممية منصفة، على قاعدة التشارك في حفظ السلم والأمن الدوليين. وتزايد التعارض في المصالح المشتركة الحاصلة اليوم بين القوى الكبرى، وبحث قادتها عن الأسباب التي تجعل كل منهم يتبع سياسة الهروب إلى الأمام، ويلقي اللوم على الآخر في زعزعة الاستقرار، هي بمثابة الديناميكية التي تنهل من منطق الشغف بالصعود ومقاومة التراجع أو السقوط، وتتمّ على حساب المصلحة المشتركة للإنسانية. المفاهيم الأخلاقية للمجتمع الدولي، تختفي حين يتعلّق الأمر بالدّول النّامية والفقيرة. ورابطة القوميات المشتتة في المنطقة، ما زالت تتنافس على الاندماج في محاور دولية أو إقليمية، لا علاقة لها بالذاتية العربية، في نوع من التبعية المذلة خارج مظلة الأمن القومي والمصالح المشتركة. وهي واقعية تفضح الأداء الاستراتيجي الهزيل، الذي لا يتجاوب بشكل وازن مع القضايا الدولية، ولا يبحث عن الندية والتعامل المجزي، في عالم ما زال يسوده منطق القوة. ويعكس التوظيف غير الموضوعي للمرجعية الدولية، والرغبة في الإبقاء على التفوق الغربي، والتحكم في الآخر وتركه في حالة الاعتماد على الإحسان الدّولي. فحلف شمال الأطلسي، الذي أنشئ لحماية أوروبا الغربية من تمدّد الاتحاد السوفييتي، لم يتم حلّه، ولم يقلل وجوده حتى بعد انهيار اتحاد الجمهوريات الشرقية، بل توسع ناحية الشرق، وأصبح قوّة تدخّلٍ عالمية تحت قيادة أمريكية، ومهمّته الرسمية هي السيطرة على نظام الطاقة في العالم، عبر الممرات البحرية وخطوط الأنابيب، وتنفيذ ما تحدده قوى الهيمنة العالمية. في مرحلة يزداد فيها الصراع على المقدرات، ليشكل ديناميكية تنافسية بين الدول، وهي حصيلة جيوستراتيجية تساهم في اضطراب السياسة العالمية وتزايد مخاطر حدوث الحروب. ومثل هذه الظروف الدولية دفعت باتّجاه فقدان الدول النامية لشخصيتها السياسية والاقتصادية.
مؤسّس حركة التجارة الحرة ريتشارد كوبدين، رأى عام 1846 أنّ مبدأ التجارة الحرة في ما سمّاه العالم الأخلاقي، سيعمل عمل مبدأ الجاذبية في الكون. سيقرّب بين بني البشر، وسيتغلّب على الصراعات العرقية والدينية واللغوية، وسيوحّد صفوفنا من خلال رابطة السلام الأبدي. يبدو أنّ الأمور اتّخذت منحى آخر غير المنحى المقرّر في نظريات التجارة الخارجية الحرة، التي سلّط عليها الكاتب السياسي الألماني هيرفريد مونكلر سهام نقده. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى الآن، لم تؤدّ الاتفاقيات التجارية التي تمّ فرضها على البلدان المستقلة ما كان متوقعا منها، أي تعزيز النظام السياسي وتطعيمه بالأسس الليبرالية، بل أدّت تدريجيّا إلى إضعافه، ومن ثمّ إلى انهياره تماما. واتّسعت حركات التمرّد، وكانت ثورة الهند عام 1857 أولى هذه الحركات، إضافة إلى ما واجهته الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الكاريبي، وفي أمريكا الوسطى، وانتهجت فيه سياسة التدخل العسكري. والأمور تنذر اليوم بموجات احتجاجية ذات منسوب عال حتى في الدول الديمقراطية الليبرالية. ما بالك بالدول العربية التي تتخاذل بعض أنظمتها، وتصرّ على التلاقي مع المشروعين الصهيوني والاستعماري الغربي، متناسية أنّ إحدى السمات الأساسية الموروثة عن الهيمنة الغربية على المنطقة هي الحدود التي تم فرضها بالقوة، وأصبحت بذلك مصدرا للشقاق وعدم الاستقرار، وتولّدت عنها المشاكل الإقليمية المختلفة. وما زالت الدعوة لإعادة تأصيل مفهوم المكاسب التي يجنيها النهّابون تنتظر اللحظة لمزيد من الانطلاق. ولن تكون هناك خيرية استعمارية يقدّمها ما يسمّى العالم المتحضر إلى الشعوب المغلوبة على أمرها في شكل مهمة مقدسة، مهما ادّعوا، أو زيّنوا الخطابات وارتدوا الأقنعة. فالدول الكبرى سارعت إلى الاستحواذ على اللقاحات منذ اللحظات الأولى لاكتشاف التطعيم. ومن ثمّ هي تقدّم حماية لشركاتها أمام تقلّبات السوق وتداعيات الجائحة، غير عابئة بدول العالم الثالث، التي تلقّت تأثيرا بالغا من خلال السياسات الاقتصادية العالمية منذ ثلاثة عقود على الأقلّ. وازداد وضعها تدهورا خلال العامين الأخيرين.
مثل هذه الرؤية للعالم، وإن حقّقت مصالح مادية للدول الإمبريالية، فإنها تهدّد بالعجز عن النهوض بأكثر المهام صعوبة في هذا العصر، وهي مهمّة توفير شروط التعايش السلمي والإنتاجي بين الشعوب، وتطوير المشترك الإنساني، وإذابة التمييزات العرقية والحقد الأيديولوجي بين النُّظم التي ستكون دائما مختلفة باختلاف الثقافات وتنوّع الهويات الحضارية.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جميلة:

    لقد لخص رود لوبرز أثار العولمة خاصة على ادوار الدولة في اربع مستويات أولا المستوى الامني من حيث زيادة معدلات الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية و عجز الحكومات عن الرد على العنف المدني في المجتمعات الاخرى،هذا العنف الذي اصبح مروجا له بفضل تكنولوجيا الاتصال اما على المستوى الاجتماعي فقد عرف العالم زيادة معدلات اللامساواة داخل الدول و بين الدول في مجال الدخل الفردي و كذا فرص استعمال التكنولوجيات الحديثة.المستوى البيئي من حيث اضحى من المتعذر على الدول أن تواجه منفردة مخاطر التلوث و الاوزون و هي الان عاجزة في الاقدام على أي عمل جريء. اما على المستوى الديمقراطي فقد اصبح زعماء الدول يجدون صعوبات كبيرة في جلب و تاييد الشعوب من اجل التعاون في قضايا عالمية معقدة إضافة الى انعدام وجود برلمان عالمي يمثل سيادة هذه الشعوب. للعلم رود لوبرز سياسي هولندي شغل منصب المفوض السامي لشؤون و تشغيل اللاجئين التابعه للأمم المتحدة . شكرا استاذ العبيدي على هذا المقال الرائع.

    1. يقول العبيدي:

      و كل الشكر لك جميلة على الإضافات المميزة.
      دام حضورك

اشترك في قائمتنا البريدية