الغازي مصطفى كمال أتاتورك… لماريشال الأخير

صدر حديثاً في بيروت عن الدار العربية للعلوم ناشرون، كتاب «الغازي مصطفى كمال أتاتورك» للمؤرخ التركي إيلبير أورتايلي، الطبعة الأولى، فبراير/شباط 2019.
ترجمة مجد الدين صالح. يقول الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر: «لا يوجد شيء اسمه حقيقة تاريخية، بل هناك قراءات وأوجه بشرية لها»، وهذه الأوجه لا تستطيع الرؤية بحياد مهما حاولت، من هنا قد تختلف القراءات بشأن مصطفى كمال، خصوصاً من الرأي العام العربي… بعد سيطرة تركية/عثمانية دامت من (1516- 1918) تباينت الرؤى حولها بين الاحتلال والفتح. لم يكن المؤرخ التركي إيلبير أورتايلي الوحيد الذي كتب عن أتاتورك فقد سبقه كثيرون ومنهم الفرنسي ألكسندر جيفاخوف بكتابه الموسوم بـ»أتاتورك». فعندما نكتب التَّاريخ يجب أن نتحدث عن انهيار الإمبراطورية العثمانية بالتوازي مع الحديث عن تأسيس الجمهورية التركية.

من الخليفة إلى الماريشال

يُشير الكاتب إلى أنَّ كلمة الغازي تُطلق عادة على السلاطين وكبار رجال الدولة، ويُمنح هذا اللقب تحديداً للقادة الذين قادوا الجيش في ساحة القتال وعادوا إمّا منتصرين أو انسحبوا في نهاية الحرب للحفاظ على شرفهم العسكري، لقد حصل مصطفى كمال بصفته قائداً على لقبِ الزعيم، فدخل العالم الحديث برتبة الماريشال ولقب الغازي. مصطفى كمال أتاتورك، وُلِد عام 1881، وترعرع في سيلانيك ومقدونيا، حيث كانت سيلانيك إحدى أكثر أوساط الإمبراطورية العثمانية تعدداً في الأعراق والأجناس، وحيث تنتشر الميول القومية أيضاً، وقد بقي ودرس في المدرسة العسكرية إلى حين التحاقه بالكلية الحربية في إسطنبول.
وقد كانت سيلانيك أكبر مدن الدولة العثمانية في أوربا، حاضرة لجميع يهود البحر الأبيض المتوسط، نظراً لوفرة اليهود الأرثوذكس فيها، تأثر أتاتورك بصعود الفكر القومي في بداية القرن العشرين، خصوصاً في البلقان، حيث تشكّل عالم أتاتورك، ولا شكَّ أنَّ أتاتورك قد تأثر بذلك المحيط القومي المتفرِّد والمتوتر، وكان الشَّاب مصطفى كمال أحد ضبَّاط الإمبراطورية العثمانية، وكما يرد في الكتاب فقد أسس «جمعية الوطن» عام 1906 في سوريا، حيث ضمت ضباط إصلاحيين مناهضين لحكم السلطان عبد الحميد الثاني، وبعد ذلك توجّه إلى مقدونيا، ومنها إلى طرابلس الغرب للدفاع عنها كمتطوع، وفي هذه الأثناء انفجرت حرب البلقان فعاد إلى هناك، وهذا التَّجوال ترك أثراً عليه بالتأكيد. ومن الأسماء التي عاشت فترة أتاتورك، عدنان مندريس أحد الضُّباط الاحتياط الشَّباب في ذلك الوقت، وقد شغل منصب رئيس الوزراء وأُعدِمَ إثر انقلاب عسكري عام 1960. ومن الأسماء الأخرى عصمت باشا (إينونو) ثاني رئيس جمهورية في تركيا (1884- 1973)، وجلال بايار(1883- 1986) الرئيس الثالث للجمهورية التركية، حُكم عليه بالإعدام في انقلاب 1960.
كان أتاتورك قد بدأ حياته العسكرية بممارسة السياسة وإخماد حركات التمرد، فقد كانت أفكار الحريَّة المتأثرة بالثَّورة الفرنسية مستوطنة في أذهان أتاتورك ورفاقه.. وكانت القومية السّلافية المقدونية والنزعة الفرنسية هي المسيطرة على مدينة ماناستر، حيث تعلم أتاتورك في مدارسها العسكرية، حيث كانت القومية المؤثرة في انقسام الإمبراطورية العثمانية من إنتاج شعوب البلقان منذ القرن الخامس عشر. فقد كانت الثورة الفرنسية ضد الملكية والكنيسة، أَمَّا قومية البلقان فكانت الكنيسة سبباً في اندلاعها، وكان مصطفى كمال قدِم إلى اسطنبول من سيلانيك بالسَّفينة عام 1899، ليبدأ رحلته مع تصفية الإمبراطورية العثمانية.

النزعة التُّركية

ويؤكد المؤلف بِأَنَّ النزعة التُّركية قد ظهرَت في الدولة العثمانية بدايةً في الآداب، إذ كتب مصطفى جلال البولندي الأصل، ومن لاجئي 1849 أول مُؤلَّفٍ ذي نزعةٍ قوميةٍ تركية بعنوان «الأتراك قديماً وحديثاً» بالفرنسية، ويعتبر هذا المُؤلَّف هو الأساس في القومية التُّركية الحديثة، من ناحية النَّظر للقومية التُّركية اعتماداً على العرق. وقد قام الألباني شمس الدين سامي بكتابة أول موسوعةٍ تركيةٍ بعنوان «قاموس العالم». بينما لا توجد حدود للقوميَّة بالنسبة لأحمد وفيق باشا من ناحية اللغة.
فمن المنظور القومي التركي فإنَّ أتاتورك هو في الحقيقة بطل قومي في أعين الأتراك، ولكن من المنظور الإسلامي الأممي هو وجه آخر للشيطان. فقد أنهى الخلافة، التي اتسمت في القرن التَّاسع عشر بالمظهر الأكثر إثارة عبر التَّاريخ، وكانت هناك آراء عدة تميل إلى حصر الخلافة في الأصول العربية وفي قريش في الجزيرة العربية تحديداً. وكانت الخلافة قد وردت رسمياً في دستور عام 1876، وإن كانت موجودة من قبل. وهناك من رأى أنّ أتاتورك مستبد وديكتاتور حكم تركيا بالحديد والنار، وأعدم الكثير من معارضي سياساته في الساحات العامة.

يؤشر الكتاب بِأَنَّ أتاتورك كان زعيم إدارة الحزب الواحد، مثل جميع الضباط الشَّباب اتحادياً، لكنه انفضَّ عنهم وتركهم مبكراً ليكتسب فكراً نقدياً تجاه الحركة.

الطَّريق إلى الجمهورية

ويتطرق الكاتب إلى تاريخ 23 إبريل/ نيسان عام 1920 حيث بدأ اسم «تركيا» يتداول رسمياً بدلاً من الإمبراطورية العثمانية. وقد كان لهذا التاريخ آثارٌ على عالم البلقان والشَّرق الأوسط الذي ظهر بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. أصبحت أنقرة مركز الثقل من خلال وجود أبرز شخصيات الجمهورية التركية: فوزي باشا وعصمت بيك (إينونو) ومصطفى كمال باشا مفتش الجيش وكاظم كارا بكر باشا قائد موقع الشَّرق، وعلي فؤاد باشا. وفي 1 نوفمبر/تشرين الثَّاني 1922 ألغى مجلس الأمة التُّركي الكبير (البرلمان) السَّلطنة. وتم إبلاغ هذا القرار المهم إلى آخر السَّلاطين السُّلطان وحيد الدين، الذي اضطر إلى اللجوء إلى بريطانيا بواسطة السَّفينة الإنكليزية مالايا بدون أن يأخذ أي شيء من الخزينة بالفعل. ويخلص المؤرخ إيلبير أورتايلي إلى أنَّ السُّلالة العثمانية استسلمت لقدرها، بدون ردود فعل هزليةٍ، وبدون تنظيمٍ معارضٍ واضحٍ. حيث لم يكن النظام السياسي التركي الجديد استثناءً حيث قام بنفي جميع أفراد صلة الدم بالسُّلالة العثمانية، وبتاريخ 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1923 تم إعلان الجمهورية التركية، وكما يؤكد المؤلف فقد كان أتاتورك قادراً على العودة إلى المقطورة القديمة حتى بعد إعلان الجمهورية، ولكنه لم يفعل ذلك. فقد كانت فترة حكم أتاتورك منذ إعلان الجمهورية حتى وفاته عام 1938 عسكرياً يستتر بثوب علماني.
الانحياز للغرب
عندما أراد مصطفى كمال أتاتورك أن يفصل جسد تركيا عن جلدها العثماني وثقافتهم وحضارتهم التي امتدت قرونًا، والسير في طريق أوروبا العلمانية، قاد في عام 1928 ما عرف بالانقلاب اللغوي، الذي تخلّت معه تركيا عن تسعة قرونٍ من استخدام الحروف العربية لصالح الحروف اللاتينية. وقررت الحكومة التركية الجديدة بزعامة كمال أتاتورك تحويل القرآن الكريم إلى اللغة التركية وقراءته بها بدلًا من العربية، على الرغم من اعتراض شيخ الإسلام موسى كاظم وأحمد جودت باشا. وقد خرجت مظاهرات ضخمة في مدينة بورصة ضد قراءة القرآن الكريم بالتركية، حيث اُعتقِل وأُعدِم الكثيرون، حيث سار التطور الثَّقافي التُّركي منذ استيلاء أتاتورك على السلطة في تركيا مع المفهوم الغربي، وقد قام أتاتورك منع المدارس الدينية وألغى المحاكم الشرعية، وكذلك إلغاء الحجاب، وإجبار المواطنين الأتراك على ارتداء القبعة الأوروبية بدل الطربوش التركي التقليدي الذي وصل للعثمانيين من تونس، فكان السير على خطا الثقافة الغربية من أهم سمات فترة حكم أتاتورك، وقد كان الشاعر التركي المعروف ناظم حكمت من مؤيدي حركة التتريك ومؤيد لحركة أتاتورك من بدايتها، ولكنه عارضها بعد ذلك وسجن من عام 1925 إلى عام 1950 بسبب ذلك. استطاع أتاتورك أن يصل بالشعب التركي إلى الثقافة العلمانية الأوروبية، حيث تبدل المجتمع التركي بالفعل مع الجمهورية التُّركية. وظلّ التفاعل مع الشرق الأوسط في الحد الأدنى. ويجادل خصوم أتاتورك بأنه لا يعتبر أبا العلمانية التركية، بل سبقه لذلك ضيا غوك ألب، الذي كان له تأثير كبير على الفكر العلماني في تركيا. وكذلك أاتهم أتاتورك بِأَنَّه شخصٌ غير متدين، ومعادٍ للدٍّين ويطبق الفلسفة الوضعية.

عثمانية القرن العشرين

يؤشر الكتاب بِأَنَّ أتاتورك كان زعيم إدارة الحزب الواحد، مثل جميع الضباط الشَّباب اتحادياً، لكنه انفضَّ عنهم وتركهم مبكراً ليكتسب فكراً نقدياً تجاه الحركة. وقد مارس عقليته المتسلطة في حزب الشعب في ما بعد تجاه أي معارض لأفكاره. ولكن لم يُكتب للمعارضة الاستمرار ببنيتها المختلطة والأساليب التي طبقها أتاتورك لإسكات خصومه… وبصدد ذلك يوصف أتاتورك بِأَنَّ لغته مع خصومه كانت تسمى «عثمانية القرن العشرين». لقد عرفت السٍّياسة الدَّاخلية التركية وتنظيم حياة المجتمع نوعاً من الاستبداد في تركيا الكمالية. أمَّا عن السِّياسة الخارجية التُّركية، فقد حاولت بقدر الإمكان الهروب من التَّبعية لإيطاليا الفاشية وألمانيا النَّازية، بحكم التحالف بين الأطراف الثلاثة في الحرب العالمية الأولى.
يبقى تاريخ تركيا القريب حافلاً بالتعقيدات التراجيدية، ومن بينها موضوع مصطفى كمال أتاتورك. فقد مات ابن مدينة سيلانيك بعد مرضه في نوفمبر عام 1938 ولم يبلغ السابعة والخمسين من عمره، لقد كُتب الكثير عن حقبة أتاتورك في التاريخ، وتم طرح الكثير من الآراء حولها، فكان هناك مريدون له يتبنون أفكاره، مقابل معارضون له. لقد نجح إيلبير أورتايلي عبر أسلوب تاريخي سلس في تقديم معلومات قيمة عن شخصية أتاتورك وكذلك الظروف التي أحاطت بنهاية الإمبراطورية العثمانية.

٭ صحافي وكاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أتاتورك كان أداة بيد الغرب لإنهاء الخلافة الإسلامية, وبالتالي الإسلام!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول الصفاقسي / تونس:

      لا تهتم يا شيخ …. شاء من شاء وأبى من أبى …ستعود الخلافة الإسلامية كما كانت في عز مجدها أيام الخلفاء الراشدين وستحكم كل أوروبا وآسيا واستراليا وأميركا وسيدخل جميع الناس في دين الله أفواجا.

اشترك في قائمتنا البريدية