أكّدت جائحةُ كورونا حقيقةَ أنّ الغرافيتي ليس فنّا نخبويًّا تحتضنه المتاحف وترعاه دُور المزادات الكبرى وتُقامُ له المعارِضُ بالأحياء الراقية وتُشدَّد حوله الحراسة، وإنّما هو فنّ العامّةِ، وتتركّز غايتُه على مراقبة معيش الناسِ حتى إذا وجد فيه سَوْءةً حشد كلّ جهده وراح يُواجهها بخطاب جماهيريّ مُخالِف لخطاب المؤسّسات الرسمية المسؤولة عن تدبير الشأن العامّ. ويفعل الغرافيتي ذلك عبر سبيل احتلاله واجهات الشوارع وجدران البيوت بالأحياء الشعبية وتحويلها إلى منصّات عمومية للتنبيه والتوجيه، وربّما بسبب ذلك قيل إنّه فنّ الساحاتِ الذي يعلو خطابُه الاجتماعي والسياسي على خطابِه الفنيِّ.
فنّ الغرافيتي
ولأنّ هذه الجائحة لم تترك شيئًا في الدنيا إلاّ وأثّرت في حاله وأفعاله، فإنّ تأثيرها في فنّ الغرافيتي قد تجلّى في تحوّل وظيفته من حيّز النّقد الاجتماعي إلى حيّز الإرشاد الاجتماعي، ذلك أنه بعد أن هزّ هذا الفيروس الكوكب بأكمله، وتسبّب في إغلاق المتاحف، وإلغاء الحفلات الموسيقية، وأغرق العديد من المؤسسات الثقافية في عطالة فنية، هبّ فنانو الغرافيتي في جميع أنحاء العالم إلى رسم جداريات رائعة للتوقّي من انتشار عدوى هذا الفيروس عبر ما فيها من إشارات وكتابات ترفع من مستوى الوعي العامّ بالتدابير الصحيّة الواجب احترامها في السلوك اليومي. وفي هذا الشأن، ظهرت جداريات في الأحياء الفقيرة من عواصم كثيرة على غرار عواصم روسيا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا والهند وإنجلترا وكينيا والسينغال والمغرب وتونس وسوريا واليونان، تدعو جميعها إلى المواظبة على غسل اليدين، واحترام الحجر المنزليّ، وضرورة الالتزام بالتباعد الاجتماعي، هذا وإن كنّا لا نعدم وجود جداريات أخرى قليلة حاملة لمضمون نقدي صريح لبعض القادة مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والرئيس الفرنسي ماكرون بسبب سوء إدارتهم لأزمة كورونا في بلدانهم.
ومن طرائف الغرافيتي زمن الكورونا أنّ سجينا بسجن «بلبهيت» بمقاطعة أوتار براديش الهندية يدعى «أنوبام تريفيدي»، وهو خرّيج كلية التجارة، ويبلغ عمره حاليا 41 عاما، قد استغلّ موهبته الفنية داخل السجن ورسم لوحات على جدران السجن الداخلية حمّلها دعوة للسجناء إلى اعتماد تدابير السلامة والاحتياط من فيروس كورونا. ويُقضّي هذا السجين حكما بالسجن لمدة 10 سنوات بسبب قتله زوجته «سانديا» بعد خصومة بينهما لعدم إيفائه بمهرها.
وكان مسؤولو السجن قد انتبهوا لمهارة أنوبام الفنية لأول مرة عندما لاحظوا صورة لأحد سجّانيه رسمها على جدار عنبره بقلم رصاص ، فانبهروا بها ووفّروا له كلّ الأصباغ والفرش ليرسم لوحاته على جدران للسجن وتكون منصّات لتثمين الأطبّاء والإطار الصحّي بالسجن على القيام بواجبهم الأخلاقي، وتواجدهم بالخطوط الأولى لمواجهة فيروس كورونا رغم مخاطر الإصابة به، هذا إضافة إلى دعوة السجناء إلى الالتزام بالتراتيب الصحية.
ويبدو أنّ أغلب فناني الغرافيتي الذين خصّصوا لوحاتهم الإرشادية لدعم حملة الحَجر المنزليّ قد خالفوا ما دعوا إليه وخرجوا إلى الشوارع ليرسموا جدارياتهم عدا قليل منهم احترموا الحجر، وعملوا من داخل منازلهم على غرار الفنان البريطاني الخفيّ والمراوغ «بانكسي»، الذي نشر على الأنستغرام لوحة له رسمها من منزله وفيها ظهرت الفئران في حمّام البيت وهي تعبث بالورق الصحّي وبمعجون الأسنان، وقد ذيّل بانكسي لوحته بالقول: «زوجتي تكرهني عندما أعمل من المنزل».
لحظتنا الكورونية
أمّا الفنّان الغرافيتي الشهير جورجيو جاجوشفيلي، البالغ من العمر 34 سنة، والقابع داخل منزله في تبليسي، فقد قال إنّ بلوغ الإلهام الفني في لحظتنا الكورونية أمرٌ صعب جدّا. وأضاف بأنه قد رسم جداريات بواسطة حاسوبه ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحاول فيها التخفيف من التوتّر العام الذي يعيشه الناس، ودعاهم إلى التحلّي بالإيجابية في مواجهة هذا الفيروس.
وفي السينغال قال الفنان الغرافيتي «ألفايْ سي» وهو طالب بأكاديمية الفن بداكار: «على الناس أن يصيروا مبدعين في زمن الأزمات، لأنّ الفنّ يلعب دورًا أساسيًا في توحيد الناس وتمتين الروابط بينهم لمجابهة المواقف الطارئة».
وأضاف قوله إنّ الناس يعتقدون أن الفيروس منتشر فقط في أوروبا وأنه لن ينتشر في الســـنغال.
كما أنّ جهل نصف الشعب السينغالي القراءة والكتابة أمرٌ يحتاج إلى الفنّ لتوضيح ممارسات النظافة المناسبة ولتشجيع الناس على البقاء في المنزل واحترام التباعد الاجتماعي. ولذلك فقد ركّز في جدارياته على الصورة بدلاً من الكتابة. وبهذه الطريقة، إذا لم يتمكن الناس من قراءة الكتابة، فيمكنهم على الأقل قراءة الصورة.