الغربة في قصص «من أعماق رحلة أخيرة» للمصري أيمن عبد السميع

تتكون المجموعة القصصية «من أعماق رحلة أخيرة» للقاص المصري أيمن عبد السميع حسن، من ست قصص قصيرة، وعشرين قصة قصيرة جدا، وستين ومضة قصصية. تناولت موضوعات اجتماعية مختلفة. وكان لافتا في بعض قصص المجموعة موضوعة الغربة بمختلف صورها وأشكالها، ولا يكتب الكاتب عن الغربة إلا عن معاناة شخصية، أو معايشة من عاناها واكتوى بنارها، أو سمع عن قصص وحكايات حقيقية حدثت لأناس من حوله. وما الغربة إلا سرطان ينهش الروح والقلب والجسد، تورث المرء مرارات وخسارات بعضها في ثوب مكاسب، لن يكتشفها إلا بعد فوات الأوان. وهذا ما ستتناوله هذه المقالة.

غربة في الوطن

في قصة «ماكينة الصرّاف الآلي»، يسعى نوح لشراء مدفن له، مع أنه لم يبلغ الأربعين بعد، وإزاء ارتفاع ثمن القبر، يحتار في أمره، ويشعر بالمرارة كونه سيدفن في «مدافن الصدقة»، وسُيعيَّرُ أولادَه بذلك مدى العمر، فنام ليلته مكتئبا مهموما. وعندما ذهب صباح اليوم التالي لسحب راتبه من ماكينة الصراف الآلي، وبسبب خلل في النظام، يحصل على مبلغ أكبر من راتبه، ومع علمه أنه ليس من حقه، لكنه يُسارع لشراء مدفن وتسجيله في «الشهر العقاري»، وهو يشعر بالبهجة والتأثر. أي حياة يعيشها نوح، عندما يفكر في هذا السن المبكر بشراء قبر؟ ولم يخف على أطفاله أن يلحقهم العار إذا دفن في «مدافن الصدقة»؟ وكيف رضي على نفسه أن يستولي على مال حرام؟ ولم البهجة العارمة عندما اشترى المدفن؟
لا يُمكن الإجابة عن هذه الأسئلة ما لم ندرك واقع نوح وغربته وعذابه، وحياته المزرية، وصراعه من أجل حياة، أي حياة، وخوفه من الآتي الذي لا يبشر بخير، وحرصه على أن يدفن في قبر يملكه، مع أنه -على الأغلب- يعيش في شقة مستأجرة. وما أصعب الشعور بالضياع وفقدان الأمل والغربة داخل الوطن، والغربة عن زوجته التي تنام بجواره أيضا.
في قصة «الذاكرة»، تضيق عليه الدنيا، ويتحلّب ريقه غصّة ومرارة، فقرر الهروب إلى الذاكرة، في محاولة لاستعادة لحظات السعادة التي مرّ بها ذات يوم، وبقي «يعود للوراء خطوة خطوة، حتى طابت نفسه، وانفرجت أساريره، لكنه توجع كثيرا عندما اصطدم بالحائط الخلفي!»، وهي مفارقة صادمة، أن العودة للوراء لن تغير من واقع الحال، ولن تدثر الروح التي عرتها الغربة داخل الوطن، وأسقمتها أمراض الحياة، وأذلتها الحاجة. نعم تذكر لحظات السعادة جميل، ويبهج النفس، لكن جدار الواقع أقسى وأصلب، والاصطدام به سيُذْهِبُ كل سعادة، ولن تبقى إلا الحسرات وأنين الروح وتوجعها.
تقول قصة «عودة»، إنه عندما يعيش المرء ضياعا وغربة وبؤسا، يبحث حوله عما يعيد إليه التوازن، يبحث عن أيامه الضائعة والهاربة بلا جدوى، علّه يحظى ببصيص أمل، بارقة من نور، ولكنه لا يجني من بحثه الحثيث إلا الكدر ومزيدا من الغم والإحباط، وسيجد أحزانه ودموعه في دروبه أنّى توجه أو بحث، تمد له لسانها ساخرة متشفية.

غربة الأب والابن

تتلخص قصة «قبل أن تنتهي الذاكرة» أنه بعد خمسة عشر عاما غيابا وغربة، يعود إلى زوجته وابنه الذي تركه في عمر الخامسة، بعد أن تقاذفته أرض الله الواسعة بحثا عن فرص حياة أفضل، خاصة بعد أن أكل إخوته حقه في الميراث. عاد بطقم أسنان، وزوجته أنهكتها السنوات تتوكأ على وحيدها، وعندما طلبت من ابنها أن يسلم على أبيه، فاقترب واحتضنه، ولكنه سمع همهمة أمه ورجفة الرجل الآخر المرافق لأبيه، الذي قال له: «معذرة يا بني، أنا والدك، هذا عمك مهران سائق السيارة».
إنه موقف مؤلم مرّ، يعبر عن قساوة الغربة وآثارها المدمرة، وأيهما أكثر قسوة؛ غربة الأب في الخارج، أم غربته عن ابنه الذي لا يعرفه؟ وأي عودة هذه وقد خسر شباب زوجته وصحتها، وخسر طفولة ابنه الوحيد ومتعة رعايته ورفقته وتلبيه طلباته واصطحابه هنا وهناك، وخسر ميراثه وبالتالي إخوته، وخسر نفسه بالتأكيد. إن الغربة مرة مهما جلبت من أموال ورفاهيات؛ لأن البعد عن الزوجة والأولاد والأهل والوطن موت بطيء، وسنوات ضائعة، وعلاقات مقطوعة، وتجارة خاسرة أيا كانت أرباحها المادية.
في قصة «محمول معطل»، يلجأ عجوز إلى محل أجهزة محمول؛ لإصلاح عدة جهازه القديم المعطل منذ شهور، وبعد فحصه بدقه، يخبره الفني أن الجهاز لا مشكلة فيه، فيستغرب العجوز، ويتحجر بصره، ويتمتم كأنه يخاطب صاحب المحل: «ما دامت عدة التليفون شغالة تمام التمام.. فلماذا لا يتصل بي أولادي؟ عندك إجابة يا بني؟ وترك المحل.. دون أن يعير اهتماما لكلمات صاحب المحل، وأخذ يقلب عدة المحمول في يده، ويردد كلمات.. بصوت دفين: لا حول ولا قوة إلا بالله..». إنه موقف صادم ومؤثر وجارح، وما أعمق الألم الذي يحز في قلب العجوز، وقد أدرك أن العطل في أولاده وليس في الجهاز، وقد أهملوه شهورا طوالا دون اتصال بوالدهم العجوز، وأي غربة ممضة تداهم هذا العجوز الذي سيزيده هذا الاكتشاف الجارح شيخوخة وهرما وخذلانا ودموعا تنزف من القلب؟!

غربة الأم والابن

في قصة «باقة ورد»، عندما ودعها ابنها بعد حفلة زفافه، عادت وحيدة إلى شقتها «كانت غرفة نومها مفعمة بالهدوء المُطبق، المُميت. جلست منفطرة على فِراق وحيدها، الحزن يشع من عينيها، ويكسو وجهها، ضاقت المسافة بين خطواتها، أجفلت، ووقفت متقطعة الأنفاس، سكنتها هشاشة الأوقات، لكنها عادت وجففت دموعها وابتسمت، عندما وجدت باقة ورد جميلة على سريرها، مرفقا بها بطاقة ملونة، مطرَّزة ببعض الكلمات: «أمي العزيزة، ستظلين الأنثى الأجمل في حياتي، حتى نهاية عمري!». شعرت العجوز بالغربة والوحدة بعد أن طار ابنها من عشه، وأصابها الضعف والترهل والهشاشة، وجاءت كلمات ابنها بلسما وجبرا لخاطرها. الغربة، أي غربة، تقضم العمر، وتشيخ الروح، وتوهن الجسد، ولكن الكلمة الطيبة تمسح على القلب برقة ونداوة، فيعود مرفرفا إلى الحياة من جديد.
في ظني؛ أن البعد عن الأبوين غربة، حتى لو كان الابن في حي مجاور، بل في شقة مجاورة، فما بالك بمن كان في دولة أخرى بعيدة، وليس من السهل العودة إلا بعد مشقة وانتظار. في قصة «رسالة هاتف جوال»، يشعر الابن المغترب وهو ينظر في المرآة «وجدت النور الذي كان بالأمس يشع من وجهي، النابع من ضيائها وبهجتها قد انطفأ». ولم يطل استغرابه، عندما جاءته رسالة أن يسرع بالعودة؛ فقد ماتت أمه.
إن العلاقة الطيبة مع الأم، المبنية على البر والحب، تنير حياة الابن، وتعبّد دربه، وتجنبه العثرات ومواطن الزلل، ورفقة السوء، وعندما تموت، تظلم الحياة، وتختفي البهجة، ويحلّ الضياع، فيشعر الابن أنه غريب وحيد في هذه الحياة، لا صدر يحضنه، ولا وطن يحتويه.
وبعد؛ فإن «من أعماق رحلة أخيرة» للقاص المصري أيمن عبدالسميع حسن، مجموعة قصصية تميزت بمشهديتها، وتصويرها لمواقف وظروف حياتية قاسية، ومشاعر إنسانية مؤلمة في غالبها، ولم يخل كثير من قصصها من المفارقة. بينما غلبت الطرافة والرشاقة على الومضات القصصية، التي جاءت بعدة كلمات فقط، لكنها بليغة ومكثفة وتقول الكثير، وتتيح للقارئ، بل تستحثه ليحلق عاليا في خياله وتحليلاته وتأويلاته.

٭ كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    الاستاذ ابو رياش المحترم..ارجو الحصول على
    عنوان بريدك الالكتروني.

    1. يقول موسى إبراهيم أبو رياش:

      حياك الله أستاذ علي
      يمكنك التواصل معي عبر ماسنجر الفيسبوك من خلال الاسم نفسه.

  2. يقول عيسى:

    حياكم الله جميعا بكل خير وبركة،
    هل الكتاب موجود بصيغة pdf. محتواه يعني الكثير من المهجربن والمغتربين ،لأنه يتحرك في مواجع إنسانية لا بد من الاطلاع أكثر وأكثر عليها من خلال قراءته…أتمنى ذلك…بالتوفيق.

اشترك في قائمتنا البريدية