الغرب لا يتصدع… بل يتجدد

يعيش الغرب تصدعا بسبب سياسة الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، ومراجعة المظلة العسكرية الأمريكية لأوروبا في أفق سحبها. وعلى ضوء هذا التطور يبقى السؤال: هل نحن أمام تصدع تاريخي للغرب؟ أم مرحلي وظرفي فقط وسيظل الغرب موحدا، لاسيما في الأزمات الكبرى؟
ويهيمن على الأجندة الرسمية والسياسية والإعلامية والعسكرية في أوروبا الانشغال بكيفية الانتقال إلى إرساء نظام دفاع عسكري موحد لمجموع أوروبا بعدما قرر ترامب، وكما تعهد في حملته الانتخابية التي قادته إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية بدأت في يناير/كانون الثاني 2025، سحب المظلة العسكرية التي قد تشمل ربما حتى سحب السلاح النووي مستقبلا من أوروبا.
وعمليا، صادق الاتحاد الأوروبي في اجتماع هيئته “مجلس أوروبا” الخميس من الأسبوع الماضي على برنامج تصنيع حربي وتسلح حتى تؤّمن الدول الأوروبية الدفاع عن نفسها في وجه روسيا، من دون الحاجة إلى القوات الأمريكية. ويبقى الآن الانتقال الى التطبيق. تبقى المفارقة أن دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تتحدث عن انهيار الجيش الروسي في حرب أوكرانيا تتخوف الآن، ساعة الحقيقة، من قيام الجيش نفسه بغزو كلاسيكي (دون سلاح نووي) لبعض مناطق أوروبا. وهذه التطورات تجر إلى التساؤل عن مستقبل الغرب الذي تحكّم في مسار العالم في صيغ مختلفة، منذ النهضة الأوروبية تقريبا. وتذهب التحاليل إلى الحديث عن تصدع خطير في وحدة الغرب، أو بعبارة أخرى “تصدع العلاقات بين ضفتي الأطلسي”. ومن دون الغوص في القرون السابقة، ونكتفي بالقرن العشرين، فقد شهد الغرب حربين كبيرتين تسميان بالعالمية، رغم أنها لم تمتد إلى عدد من مناطق العالم، ومنها القارة الأمريكية، ولاسيما شطرها الجنوبي. وتواجهت دول الغرب في حرب خلفت عشرات الملايين من القتلى، خاصة الحرب العالمية الثانية، التي تواجهت فيها الجيوش الغربية أساسا باستثناء مشاركة الجيش الياباني. ورغم بشاعة هذه الحرب، نجح الغرب في إعادة بناء صفوفه بسرعة فائقة للغاية، فقد سطرت واشنطن برنامج مارشال لمساعدة أوروبا على النهوض الاقتصادي، وأرفقتها بحماية عسكرية، واتفقت فرنسا وألمانيا عشر سنوات بعد الحرب العالمية الثانية على بناء تحالف اقتصادي منتصف الخمسينات كان لبنة السوق الأوروبية المشتركة، ثم الاتحاد الأوروبي لاحقا.
والأزمة الحالية تعني أنه كما أوقفت واشنطن الدعم الاقتصادي عن أوروبا في الماضي (أي نهاية برنامج مارشال الاقتصادي، لأن اقتصاديات أوروبا خرجت من الأزمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وكان كل شيء تقريبا مدمرا)، تقوم حاليا بتجميد المارشال العسكري “الحماية العسكرية”، لأنها ترى أن أوروبا تتوفر على المال الكافي وصناعة حربية مقبولة لتضمن أمنها، من دون الاعتماد على الأمريكيين، أو التقليل بشكل كبير من الاعتماد على الأمريكيين. لا تفعل واشنطن هذا بدافع إنهاء تحالف الغرب، بل ربما ليصبح الغرب أكثر قوة مستقبلا. في هذا الصدد، يرى واضعو خطط مستقبل الولايات المتحدة أن هذه الأخيرة مكلفة بمواجهة ومحاصرة النفوذ الصيني وضمان أمن دول حليفة مثل، الفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان التي تريد بكين استعادتها كجزء من أراضيها، وترى أن الأوروبيين يجب أن يتولوا محاصرة النفوذ الروسي مستقبلا في حالة ما إذا لم تنجح عملية فصل موسكو عن بكين. عمليا، لا يمكن للولايات المتحدة تأمين الدفاع عن جبهتين، الأولى وهي حماية أوروبا في مواجهة روسيا، والثانية هي حماية دول جنوب شرق آسيا في مواجهة الصين، لاسيما في ظل اكتساب روسيا والصين مستوى أعلى في المجال الحربي، بفضل تطور الصناعة العسكرية بالاعتماد على الصواريخ فرط صوتية والطائرات المسيرة ومستقبلا على أسلحة الليزر.

قد يكون الغرب يعيش تصدعا، لكن التاريخ يؤكد أنه قادر على تجاوز خلافاته، إبان الأزمات الكبرى كما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية، وهو يتجدد عند كل أزمة لاسيما في وقت تتراجع هيمنته

ولا يعتبر القرار الأمريكي مفاجئا، فقد طلب الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما سنة 2011، عندما أعلن أهمية منطقة الهادي – الهندي لمستقبل الولايات المتحدة، من الأوروبيين الانتقال إلى التفكير في حماية أنفسهم. وخلال مارس/آذار 2014 كشف أوباما أن نسبة كبيرة من ميزانية الدفاع الأمريكي، هي مخصصة للدفاع عن الأوروبيين، في إشارة إلى مصاريف عشرات القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا، مشددا على أن الأمر يجب أن يتغير وأن يتحمل الأوروبيين الدفاع عن أنفسهم. وكان ترامب خلال ولايته الأولى قد هدد في مايو/أيار 2020 الأوروبيين بسحب القوات الأمريكية من القارة الأوروبية، والآن في ولايته الثانية قد ينتقل الى تطبيق هذا الأمر. وعليه، إعادة النظر في الوجود العسكري الأمريكي مطروح لدى مختلف رؤساء البيت الأبيض، ديمقراطيين أو جمهوريين. في الوقت ذاته، كان عدد من قادة البنتاغون يؤكدون لنظرائهم الأوروبيين، أنه يجب أن يتوقف الأوروبيون عن تفويض تفكيرهم الاستراتيجي إلى واشنطن، ويمكن لمجلس أمن أوروبي جديد، أن يساعدهم على الانخراط في حوار حول القضايا المهمة والصعبة، مثل كيف يمكنهم، من خلال تسخير القدرات النووية الفرنسية والبريطانية، التحرك نحو إنشاء قوة ردع أوروبية. عمليا، صادق الاتحاد الأوروبي سنة 2016 على “الاستراتيجية الأوروبية الشاملة” من أجل الرفع من المستوى العسكري لأوروبا، لكن الاتحاد الأوروبي كانت له رؤية ضبابية، إذ لم يحسم هل ينهج استراتيجية مزيد من التكامل العسكري مع الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، أو تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. والمفارقة أن مفوضية العلاقات الخارجية والدفاع وقتها التي كانت ترأسها فدريكا موغيريني عندما قدمت “الاستراتيجية الأوروبية الشاملة” من ضمن ما بررت به هذه الخطة خلال يونيو/حزيران 2016 احتمال فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، وهو ما حدث في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. وكان ترامب صريحا في حملته الانتخابية بخفض القوات الأمريكية في أوروبا.
قد يكون الغرب يعيش تصدعا، لكن التاريخ يؤكد أن هذا الغرب قادر على تجاوز خلافاته، إبان الأزمات الكبرى كما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية، وهو يتجدد عند كل أزمة لاسيما في وقت تتراجع هيمنته. وبعد هذه الأزمة، سيصبح أكثر قوة بجناحين عسكريين قويين، الأوروبي والأمريكي. في غضون ذلك، إن رفع الاتحاد الأوروبي من مستوى قواته العسكرية خطر آخر على الأمم المحيطة بحدوده خاصة الجنوبية وهي في الغالب عربية وإسلامية، وهذا إشكال آخر.
كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    هيهات هيهات هيهات فالوقت قد فات وما فات مات محال أن تتجدد القارة العجوز التي عليها الأحزان لا تجوز والأيام بيننا ستحكم لنا أو علينا 🤔😎☝️

  2. يقول عربي:

    قراءة استراتيجية لمستقبل الحلف الغربي الامبريالي ، لكن للتاريخ مفاجآته أيضا….صحيح ان للرأسمالية الامبريالية قدرة على التصحيح الذاتي و تجاوز الأزمات… لكن الأزمات لا تتكرر بنفس الشكل..

  3. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

    هذه قراءة في مسار واحد قد لا يقع أبدا، ولعل عواء الأوروبيين على فقدان المظلة الأمريكية دليل قوي على الخوف من المستقبل. العالم يتحول نحو تشكل جديد، القوة فيه هي الفيصل. وللدورة الحضارية كلمتها أيضا.

  4. يقول علوان:

    الغرب لا يتجدد بل يتشتت ولعل الخلافات السياسية والعسكرية والاقتصادية خير دليل على هدا التشتت

  5. يقول جسوس محمد:

    “تحليل” هامشي لايوخد في الاعتبار التغيرات الجذرية التي يعرفها العالم باكمله ومصطلح غرب تجاوزته الاحدات … أوروبا تعود رويدا رويدا الي حجمها الطبيعي وهي ذيمغرافيا عاجزة والبحت العلمي ، انتاجيته محتشمة. القوة الصاعدة هي دول متل الصين والهند والبرازيل الي حد ما وتكتلات قريبة في أفريقيا تحت قيادة المغرب هدا هو المستقبل الذي لايعرفه او تجاهله صديقنا الصحفي الاسباني

اشترك في قائمتنا البريدية