«الغسل الفلسطيني»: هل يمكن وقف استغلال القضية؟

شاعت مفردة «الغسل» washing، بوصفها مصطلحاً سياسياً وثقافياً، للتعبير عن استغلال بعض الجهات والقوى لقضايا عادلة، بالنسبة لبعض الفئات، بغرض تبييض ممارساتها، التي تتنافى كلياً مع مضمون تلك القضايا وغاياتها. ولعل «الغسل الوردي» Pinkwashing، أي ادّعاء مناصرة المثليين، لتسويق منتجات أو أشخاص، أو ممارسات دول، في المجتمع الغربي «التقدمي» المعاصر، هو أشهر أنواع «الغسل» وتعتبر دولة الاحتلال الإسرائيلي من أهم الجهات المتهمة به، إذ تتلازم ممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين، بتسويق نفسها واحةً للمثليين في الشرق الأوسط. هناك أيضاً «الغسل الأخضر» Greenwashing، أي استغلال الشعارات البيئية لطرح منتجات «خضراء» من طرف شركات مساهمة في تدمير البيئة، واستغلال عمّال العالم الثالث؛ وللدعاية لسياسات حكومات، تحاول التنصّل من مسؤولياتها، عبر إبداء بعض رموز «الاستدامة» وتحميل فاتورة الانتقال البيئي للفئات الأفقر.
لا يؤثّر الغسل الوردي والأخضر إلا على فئات محدودة جداً في العالم العربي، إذ لم تترسّخ مناصرة هاتين القضيتين في التيار الرئيسي للثقافة الجماهيرية في المنطقة، إلا أن مفهوم «الغسل» السياسي، عبر تسويق الرموز، قد يكون صالحاً جداً للتعبير عن الارتباك، الذي يشعر به كثيرون تجاه الجهات المتداخلة في حرب غزة الحالية. نشهد اليوم، من البوابة الفلسطينية، عودة جماعات مسلّحة وحكومات وشخصيات، فقدت شعبيتها لسنوات طويلة في العالم العربي، خاصة بعد ممارساتها الدموية في الحربين السورية واليمنية. أكثر ما يثير الارتباك أن هذه الجهات لا تدّعي فقط دعم فلسطين، بل تقاتل فعلياً على أكثر من جبهة، تحت شعار تخفيف الضغط عن غزة، وبالتالي فإن معارضتها ستعني الوقوف بوجه فعل مساند للفلسطينيين، في وقت هم بحاجة فيه لأي حليف؛ لكنّ تأييدها سيعني، في الوقت نفسه، تناسي ممارساتها الوحشية ضد شعوبها، والإقرار بتصاعد هيمنتها في بلدانها، وفي المنطقة عموماً. يمكن لهذه المعضلة أن تؤدي إلى انقسامات حادة في الرأي العام في مختلف الدول، وكأن الموقف المؤيد لفلسطين يعني دعماً، مباشراً أو غير مباشر، لأسوأ الأنظمة والجماعات؛ فيما تصير مناهضة الممارسات القمعية والميليشياوية موقفاً متواطئاً مع إسرائيل.
قد يكون السؤال الأفضل والأبسط أمام هذا المأزق هو كيف وصلنا إلى هنا؟ هل في واقعنا ما يجبرنا على الاختيار بين نمطين من الوحشية، فيصبح التفكير السياسي منحصراً في إثبات أيهما أقل ضرراً أو أكثر شرّاً؟ أم أن المشكلة في ثقافتنا السياسية نفسها؟ ثم عن أي «واقع» قاهر نتحدث حقاً؟
ما الذي يُغسل؟

إذا وافقنا على وصف ممارسات الجماعات والأنظمة القمعية بـ«الغسل الفلسطيني» فهذا يعني أنها غير معنيّة بالقضية فعلاً، وتستغلّها فقط للتغطية على ممارسات أخرى، لكنّ هذا ليس دقيقاً، إلا ضمن منظور عدائي كامل لتلك الجماعات والأنظمة، يشيطنها تماماً، ويتجاوز الجانب العقائدي الذي يحرّك قاعدتها الجماهيرية، الواسعة في كثير من الأحيان. استفادة قوى ما من مناصرتها لقضية، سواء كانت استفادة سلطوية أو حتى مالية، لا تعني بالضرورة أنها تكذب، بل ربما تستثمر بقضيتها، لبناء جماعة سياسية وهيمنة أيديولوجية وبنية تحتية ملائمة. كما أثبتت تطورات حرب غزة أن تلك الجماعات مستعدة لخوض معارك إقليمية كبرى عند الضرورة، والتعرّض لتهديدات جديّة، وبالتالي فلا يمكن التشكيك بتبنيها للقضية، والأجدى التساؤل: ما الذي يجعل القضية مناسبة لذلك النوع من الجماعات والأنظمة؟ المفكرون والناشطون الأكثر نقدية، طرحوا أسئلة مشابهة حول الغسل الوردي والأخضر: هل في بنية القضايا، التي تُستخدم للغسل، ما يجعلها مفضّلة للسلطات الغربية والشركات الكبرى؟ أليس اعتبار أن كل الإجراءات السلطوية، بخصوص البيئة والمثليين، مجرد نفاق، هو تبسيط شديد للمسألة، أقرب لنظرية المؤامرة؟

ربما يجب إنتاج شبكة رمزية جديدة، وعالم مفاهيمي مختلف، إذا أردنا أن لا نبقى دوماً في خانة ضحايا الواقع المرير، أو لعب دور المتواطئ مع جهات، مثل دولة الاحتلال أو الأنظمة العربية أو الميليشيات الموالية لطهران. وهذا لا يعني فقط تعييناً جديداً للحق الذي نسعى إليه، والغايات التي نريد تحقيقها، وإنما أيضاً نظرة جديدة لحضورنا التاريخي والاجتماعي، وتجاوزاً لتصوّراتنا عن شعوبنا ودولنا وأمتنا، وإعادة التفكير بلغتنا نفسها.

يقود هذا لسؤال آخر، ربما يكون أكثر صعوبة: ما الذي يُغسل فعلاً بواسطة القضايا؟ في حالة الغسل الوردي والأخضر الإجابات متنوّعة، لكن أهمها أن الدور الذي يلعبه الغسل ليس مجرد تغطية منافقة على ممارسات سيئة، بل هو فعل عضوي وضروي ضمن نظام متكامل، يقوم على أساس الإنتاج العالمي الموسّع للسلع والخدمات والبيانات والرموز الثقافية، وتداولها عبر بنية تحتية ضخمة، من خطوط التوريد الطويلة ووسائل الاتصال الفائقة، ما يؤدي إلى نمط جديد من الذاتية: مؤسسات وأفراد لديهم القدرة على المشاركة في ذلك الإنتاج الموسّع والاستفادة منه، ويتمتعون بقدرة الوصول إلى كم كبير من المعلومات، وحد أدنى من إمكانيات التعبير والحركة، ما يجعلهم يدركون مشاكل ومظالم النظام، الذي «ينتجهم» اجتماعياً بشكل من الأشكال؛ ويخلّف لديهم شعوراً عميقاً بالذنب، وكأن وجودهم نفسه نتيجة خطيئة، الخلاص منها يعني تدميراً شاملاً لكل أنماط حياتهم، بل زوال هويتهم الذاتية، إذ لا يمكن أن تكون ناشطاً أخضر أو مثلياً إلا في إطار النظام نفسه، الذي يدمّر البيئة ويُنتج التمييز المنهجي. وبالتالي فإن نقد «الغسل» هو نوع من الإزاحة الأيديولوجية، التي تمكّنك من المشاركة الفاعلة في النظام، والاستفادة منه، دون أن تلوّث نفسك بالموافقة الواعية على ممارساته، وإنما تزيح المسؤولية عنك، لتضعها على عاتق جهات سلطوية منافقة. هكذا يستطيع معظم الناس في الدول الغربية السلوك، وفق ما تقتضيه القوانين والأيديولوجيا السائدة، وهم يعبّرون، في الوقت نفسه، عن إدراكهم لمساوئها، وعدم اقتناعهم بها. ما يُغسل إذن ليس المظالم والشرور، وإنما النظام القائم نفسه، والوجود الاجتماعي ضمنه، الذي ليس هناك مخرج منه، أو بديل جديّ عنه؛ ونقد «الغسل» هو بحد ذاته نوع من الغسل.
هل يمكن تطبيق هذا التحليل على «الغسل الفلسطيني»؟ أي اعتبار أن نقد القوى والأنظمة القمعية، التي تستغلّ القضية، لا يفيد إلا بتبرئة ذمة جماعات وأفراد، مندرجين عضوياً ضمن نظام اجتماعي وسياسي وأيديولوجي، يقوم على الأحادية، والاستهانة بحياة البشر وحقوقهم الأساسية، لحساب تصورّ متعالٍ عن الحق؟ ربما نعم، وهذا قد يفسّر السبب، الذي يجعل نخباً ومثقفين عرباً، تغنّوا طويلاً بالديمقراطية، عاجزين عن تقديم أي تصوّر جديد عن مقاومة الاحتلال، ويكتفون بإدانة الميليشيات والسلطات التي «تستغلّ» القضية. إنهم يدافعون عن ذاتياتهم، دون أن يحملوا وزر النظام الذي أنتجها.

انبثاق الواقع

تثير هذه النتيجة، إن صحّت، كثيراً من الارتباك، إذ يبدو أن الواقع نفسه يدفعنا لتأييد جهات دموية، تدمّر أسس حياتنا، أو حياة الشعوب المجاورة لنا. هل يوجد خلاص من هذا الواقع؟ في قراءته لنظريات عالم النفس الفرنسي جاك لاكان، وتمييزه بين «رمزي» و«خيالي» و«واقعي» يؤكد المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك أن «الواقعي» لا يعني «الشيء بذاته» بالمفهوم الكانطي، أي القلب الصلب للعالم المادي، الموجود باستقلال عن وعينا والمفاهيم التي تشكّله، وإنما ينبثق نتيجة اختلال و«انحناء» الشبكة المفاهيمية التي نعي بها عالمنا، فكل ما لا يمكن الإحاطة به، وإعطائه المعنى الصحيح ضمن نظامنا الرمزي، وأساليبنا الاجتماعية المترسّخة في التواصل، يصدمنا بوصفه «الواقع» المربك والقاهر والمخيف. وبالتالي فإن ما يرعبنا ويبلبل وعينا ليس ظرفاً حتمياً أو قاهراً، بقدر ما هو إشكاليات وتناقضات عالمنا المفاهيمي، وأيديولوجيتنا السائدة، المترسّخة في لا وعينا. قد يعني هذا أن الخيار بين تأييد الميليشيات والأنظمة القمعية، أو السكوت عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ليس واقعياً إلا بقدر تمسّكنا بالأيديولوجيا السائدة، والخطابات المؤسسة لمجتمعاتنا وشعوبنا وأنظمتنا؛ وبقدر فشلنا في نقدها وتفكيكها. أي، بعبارة أخرى، بقدر عجزنا عن تجاوز ذواتنا، وتأقلمنا مع نمط من الوجود الاجتماعي والسياسي، يصدمنا دوماً بواقع مرعب عن أنفسنا والعالم.

ضد الغسل ونقده

ربما يجب إنتاج شبكة رمزية جديدة، وعالم مفاهيمي مختلف، إذا أردنا أن لا نبقى دوماً في خانة ضحايا الواقع المرير، أو لعب دور المتواطئ مع جهات، مثل دولة الاحتلال أو الأنظمة العربية أو الميليشيات الموالية لطهران. وهذا لا يعني فقط تعييناً جديداً للحق الذي نسعى إليه، والغايات التي نريد تحقيقها، وإنما أيضاً نظرة جديدة لحضورنا التاريخي والاجتماعي، وتجاوزاً لتصوّراتنا عن شعوبنا ودولنا وأمتنا، وإعادة التفكير بلغتنا نفسها. وعندها قد تعجز أي قوة متوحّشة عن استغلال فلسطين وقضيتها، ونريح أنفسنا من تكرار النقد نفسه لـ«الغسل الفلسطيني».
لا يعني هذا على الإطلاق إنه بمجرّد تغيير أفكارنا وأيديولوجيتنا سنتجاوز جميع الكوارث التي نعاني منها، فوجود الاحتلال، والأنظمة القمعية، ودمار المدنيّة المؤدي لصعود الميليشيات، والإفقار والاستغلال الشامل، لا يتعلّق فقط بوعينا ولا وعينا، وإنما له أسبابه وعوامله البنيوية، لكن النقد الجذري قد يغيّر «الواقع» الذي يصدم وعينا دائماً، ويجبرنا على مواقف لا ترضينا، تزيد تورّطنا في بنى القمع والاستغلال. قد يضعنا النقد أمام مشاكل وأسئلة مختلفة، تدفعنا لابتكار حلول، بل تنظيمات وبنى جديدة، تحسّن من عالمنا، وتمكّننا من انتزاع بعض الحقوق. لقد جرّبنا «الواقع» الحالي كثيراً، وهو بالفعل قاسٍ ومرعب، ولا يُحتمل.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية