في عالم الكتابة عموما، سواء كانت كتابة القصة أو الرواية أو المسرح، نجد دائما أن المبدع المخضرم، أي الذي قضى زمنا طويلا في الإبداع، يواجه عشرات المبدعين الجدد، الذين كتبوا للمرة الأولى أو الثانية، ويبحثون عن دعم يمسكون به ليسيروا في سكة الكتابة، وقد نجدهم ممتلئين بالحماس، ويشاركون في كل الندوات التي يستطيعون أن يصلوا إليها في مناطقهم، ومع ظهور وسائط التواصل الاجتماعي، أصبحت الكتابة اليومية، والنشر غير المشروط، أمراً سهلاً، كذلك أصبح الوصول للمبدع المخضرم، الذي من المفترض أن يصبح تلك الأداة المساعدة للمشي الإبداعي، سهلا للغاية، ويمكن الوصول إليه افتراضياً، حتى لو كان يسكن في قاع الأرض.
المسألة هنا ليست تجاوزا من الكاتب الجديد بلا شك، ولا تمثل في نظره أي إزعاج أو تشتيت لبرنامج المبدع المخضرم، الذي في الغالب لا يكون خالي الوفاض، أو متفرغا، وإنما على عاتقه وظيفة يعمل فيها، أو مهمة كتابية أو تحريرية، أو تحكيماً ما في مسابقة، عليه إنجازه، وبالتالي قد يتأخر قراره في قراءة كاتب ما، والكتابة له تلك السطور التي يبحث عنها، ليضعها على غلاف كتابه الذي سيصدر.
ولو قرأنا تاريخ المبدعين العرب خصوصا، لوجدنا أن معظمهم كان موظفا في بلده، يتبع كل الروتين الوظيفي، من توقيع حضور وانصراف على دفتر يحرسه موظف قاس، وإنفاق تلك الساعات المحددة في مهام وظيفته، والعودة إلى بيته مكدودا في نهاية الأمر، ليمارس رعاية أسرته، وإن وجد حيزا ضيقا في اليوم، ولج منه إلى مشروع كتابته.
ما ذكرته ليس تنصلا من مهمة رعاية المبدعين الجدد، وتقديم العون لهم إن احتاجوا له، وهذا مطلوب بشدة ليأخذ كل جيل، راية الإبداع من سابقه، ويواصل الدرب، وإنما سردا موجزا للمعاناة المتمثلة في محاولة الإجابة على سؤال بسيط، وهو: كيف تبدع وتساعد المبدعين، في البلاد العربية؟ أو سؤال آخر: كيف تعيش مبدعا في بلاد العرب؟
ولأن بلادنا لا تعترف كثيرا بالإبداع، وغالبا تنظر للمبدعين بعين ملوثة بالصدأ، باعتبارهم غير منتجين، لن يعطي أحد مبدعا وظيفة إسمية، من أجل أن يعيش ويواصل إبداعه، إلا نادرا، وهذا النادر نفسه، يخضع للمزاج المسؤول، أي التقييم الشخصي لمن في يده منح وظيفة كهذه.
مؤكد لن تعيش مبدعا فقط، والذين حاولوا أن يفعلوا ذلك انسياقا وراء وهم الإبداع، وأن المبدع ينبغي أن لا يوقع على دفتر حضور وانصراف، وينبغي أن لا يجلس خلف صندوق الرواتب في وزارة ما، يصرف الرواتب للموظفين، وينبغي أن لا يحال إلى التقاعد في سن معينة، ويجلس في المقاهي، يلعب النرد، ويدخل الشيشة، هؤلاء لم يعيشوا جيدا، وانتهى بهم المطاف، ضائعين، أو مشاريع ضائعين في آلام عظيمة، وقد يمرض أحدهم ولا يجد حتى علاجا لصداع الرأس.
ولأن بلادنا لا تعترف كثيرا بالإبداع، وغالبا تنظر للمبدعين بعين ملوثة بالصدأ، باعتبارهم غير منتجين، لن يعطي أحد مبدعا وظيفة إسمية، من أجل أن يعيش ويواصل إبداعه، إلا نادرا، وهذا النادر نفسه، يخضع للمزاج المسؤول، أي التقييم الشخصي لمن في يده منح وظيفة كهذه.
أعود لمسألة الأجيال التي ينبغي أن يتبع بعضها بعضاً، وأسأل: هل صداقة كاتب مخضرم في موقع اجتماعي، تأتي بغرض الاستفادة من تجربته، واعتبار ما يكتبه هناك بمثابة اليد التي من الممكن أن يمسك بها المبدع الجديد، ويسير في طريقه؟
في الغالب لا، وقد لاحظت بكل صراحة أن الكثيرين يصادقون المخضرمين بغرض الحصول على آرائهم مباشرة، وصولا لتلك الكلمات التي ستكتب على الغلاف الأخير، لرواية أو مجموعة قصصية، ستصدر للكاتب الجديد، ولا بد أن يوضع شيء على غلافها. المبدع المبتدئ هنا لا يعنيه ما يكتبه المبدع المخضرم، وربما لم يقرأ له أصلا، ولن أبالغ إن قلت إنه قد لا يعترف به ويظنه أقل شأنا منه، وحصل على اسمه هكذا مصادفة. هو هنا يتابع الكاتب فترة مؤقتة، حتى إذا ما حصل على ما يريد اختفى، ولم يعد لصفحة الكاتب مرة أخرى.
أذكر مرة أن أرسل لي كاتب من الشباب مخطوطا لأقرأه، وأكتب كلمات الغلاف الأخير، طالعت الاسم، وبدا لي مألوفا، ثم تذكرت أنني قرأت له رأيا في أعمالي كتبه في أحد مواقع القراء، التي أتحاوم فيها من حين لآخر، وهو رأي سيئ للغاية، خلاصته أنني لا أعرف كيف أكتب، وكل ما نشرته لا يساوي الحبر الذي أريق فيه، تلك اللحظة، رددت عليه بسؤالي المنطقي: كيف يكتب لك من لا يعرف الكتابة أصلا حسب رأيك؟ ولم يرد واختفى.
وكنت مرة في الخرطوم، مستمتعا بالجلوس والحوار مع كتاب شباب مستنيرين ومستعدين للتطور وإغناء تجاربهم، ويوجد معنا شاب جلس منعزلا قليلا، يستمع للحوار ولا يشارك أو يدلي برأي، التفت إليه، سألته عن اسمه وإن كان يتعاطى الكتابة، وكان رده صادما للغاية، وضحه في كلمات قليلة، وهو أنه كاتب روائي رفيع المستوى، سيظهر قريبا ويقضي على العروش التي نحتلها. وعلى الرغم من أنني صدمت من تلك اللغة، لكن وضحت له أن لا أحد يحتل عرشا في مسألة كهذه، وإن صادف وجلس أحدهم على عرش، فهو من طين لأن الكتابة لا تأتي بالذهب، ولا تجلس أحداً على الذهب، فقام وذهب ويردد: حتى ماركيز، لديّ رأي فيه.
وقد مضى زمن طويل، لم يظهر فيه ذلك الشاب، ولا قرأت له أو سمعت باسمه مرة أخرى.
على الكتاب الجدد إذن أن لا يعتمدوا على كلمات موجزة توضع على الغلاف الأخير لما ينتجونه، عليهم الاستفادة من وجود من سبقوهم بالمتابعة الجادة، والقراءة المكثفة لمختلف التجارب، دون اعتبار أي تجربة تافهة ولا تستحق، وهكذا تنضح تجاربهم بعيدا عن الحماس التجاري، الذي لن يقدم شيئا.
كاتب سوداني
على الرّغم من أنّ الثقافة والإبداع الفنّي والأدبي كانا دائماً ذلك الحصن المتين الذي يحمي المجتمعات من السقوط في فخّ الغلوّ والتشدّد، فإنّ الحاكمين في البلدان العربية، ظلّوا ينظرون إلى الثقافة والفكر والإبداع كمصدرٍ للقلق والفتنة، الأمرُ الذي أفرز تاريخاً من سوء الفهم الكبير، كان من نتائجه محاولة تدجين المثقفين والمفكّرين والمبدعين، والعمل على تكريس تقاليد ثقافية تسعى للتدجين أكثر من إشاعة قيم الحداثة والتنوير والحق في الاختلاف،لا يمكن تقديرُ قيمة المبدع دون إيمان الدولة بأنّه لبنةٌ أساسية في عملية تنوير وعي الأفراد وتقدّم المجتمع. يتطلّب هذا التقدير أحياناً تشجيع الأدباء والفنّانين على المزيد من الإبداع، من خلال منحهم فرصاً أكثر لنشر أعمالهم ومساحاتٍ أكبر للاحتفاء بها،و أخيرا في إعتقادي أن أفضل جائزة يمكن أن تقدّمها هذه البلدان لشبابها هي أن تنجح في ضمان مقاعد دراسية لهم، وأن توفّر لهم شغلاً يحفظ كرامتهم، وأيضاً سريراً نظيفاً في مستشفى عمومي يحترم إنسانيتهم
قال مارتن لوثر.. اذا ارت أن تحكم العالم امسك ريشتك واكتب.. ويمكننا اضافه جمله.. وارسم التصضعات البشريه المزمن..
برأيي كل كاتب مخضرم بدأ مسيرتة ككاتب هاو او في بداية الطريق. ولا شك بمثابرته وتتبعه لنتاجات من سبقوه من الكتاب والادباء وقراءته لهم . فإن موهبته ستزداد وضوحا . ولا ضير اذا لجأ الكاتب المبتدىء الى المخضرم لطلب المساعدة ليس فقط في كلمة على الغلاف بل في استمزاج رأيه فيما كتب. شريطة ان يكون هذا المبتدىء على اطلاع كاف بانتاج الكاتب المخضرم . وليس فقط ان يكون لاهثا وراء توقيع او كلمة منه ليتباهى بها ويستعملها كنوع من الإيحاء ان كتابه مهم لدرجة ان هذا الكاتب المخضرم كتب له الغلاف الاخير.
من وجهة نظري أن الميديا وملحقاتها أصابتهم بداء الشهرة،مما جعل البعض يلتف حول المظهر ويترك الجوهر، أما من أدركوا الجوهر فهم في المنتصف بين سندان السطحية وأصحاب الأقلام المستهلكة، والتي لها حظها من الشراء.
الوعي والثقافة لدى الكاتب والقارئ هما من يحددان أي نوع يكون الكاتب.
الكاتب الجيّد هو قارئ جيّد.
تحياتي♡