من روسيا وأوكرانيا إلى مصر وسوريا، ومن الهند إلى فرنسا وعموم أوروبا، ثمّة حديثٌ أخذ يفيض عن سياقاته الوطنية، ويتواترُ حيناً بهمسٍ وحيناً آخر بصخب، عاكساً رغبة في تجاوز حدّ النعت، دون أن يلتقط مع ذلك من المفهوم غير مجازه، ومن تاريخية الظاهرة غير تشوّشات الذاكرة. انه الحديث الذي نشب هنا وهناك عن رَجْعة الفاشية، بشكل متزامن في أقاليم متعدّدة من العالم وبأردية مختلفة.
وقد يأخذ حديث الرجعة شكل تقاذف بين بلدين، كالحال بين موسكو وكييف، أو بين أبناء المجتمع الواحد، كحال المصريين بين البونابرتي عبد الفتاح السيسي والإخوان المسلمين، أو قد تعصف احالات الرجعة على مجتمع مفقود، كحال سوريا بين شبيحة النظام الدموي وميليشياته الصديقة وبين عصابات النصرة وداعش، أو تتخذ هذه الرجعة شكل أممية أليفة من التشكيلات اليمينية المتطرفة المتفاوتة الشأن بعد انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، ليس فقط من ناحية النتائج، بل أيضاً من حيث التنصّل أو التواشج مع الفاشيات في زمانها. وفي الهند، يتهم يساريوها وليبراليوها حزب القوميين الدينيين الهندوس المكتسح للانتخابات بانتهاج الفاشية ورعاية تشكيلات قتالية شبه نظامية، لكن التهمة أخذت توجّه أيضاً في تركيا، ليس للقوميين المتشدّدين كما درجت العادة في أيام التصادم بين أقصى اليمين وأقصى اليسار التركيين، وانما للزعامة الاسلامية الشعبوية التي يشكّلها رجب طيب أردوغان.
ليس ما ينبغي التوقّف عنده هو مدى انطباق توصيف الفاشية على هذا التشكيل دون ذاك، وعلى هذه الزعامة وليس تلك، ولا هو عن المعايير المعتمدة بقصد التصنيف. فاللافت بالدرجة الأولى، ان معظم من يُتّهم بالفاشية في عالم اليوم اما يهزأ بما يوجّه له من اتهام، واما ينكر ذلك، وفي كل الحالات يستخدم حيلة بلاغية ما لتمييز الذات عن ماضي الفاشية. وهذا كليّ الاختلاف سواء بسواء، عن الحركات التي انتشرت في اوروبا ومستعمراتها في فترة ما بين الحربين، وكانت تسمّي نفسها فاشية، من دون أن ينجح المؤتمر الفاشي الأممي الذي عقد في مونترو بسويسرا اواخر العام 1934 في انشاء تلك الأممية المنشودة، نظراً للافتراق الكبير بين من يعطي الأولوية لشعار الدولة العضوية، كالفاشيين الايطاليين، وبين من يعطي الأولوية لشعار الأمة العضوية، كالقوميين الاشتراكيين الألمان، وبالترابط مع الصراع الألماني – الايطالي آنذاك حول النمسا، والذي كان سيؤدي الى اشعال حرب بين ادولف هتلر وبنيتو موسوليني، لو أن الأخير لم يفضّل هدّ النظام العالمي من بوابة أخرى حينذاك، بغزوه للحبشة. فالفاشية لم تكن كلاً واحداً في أيّامها، والمانيا النازية نفسها لم تكن ممثلة في مؤتمر مونترو. لكن هذه الحركات لم تكن تخفي سماتها المشتركة كمعادية في الوقت نفسه للديمقراطية الليبرالية وللشيوعية السوفياتية، مع أنّ هذا العداء كان يتخذ شكل معاداة جذرية للسامية في حال المانيا، فيما ظلّ الحزب الفاشي الايطالي يضمّ يهوداً حتى نهاية الثمانينيات، وظلّ ملهماً بتجربته لليمين الصهيوني في فلسطين الانتدابية.
الحركات الرئيسية التي يشار اليها اليوم عند الحديث عن رجعة الفاشية في أوروبا أو العالم تنفي هذه الصفة عن نفسها، وان كانت لا تنفيها بحزم، وتتنبه الى انها تخسر اذا تماهت مع الاحالة الى الفاشية، لكنها تخسر كذلك اذا دفعت بالتنصل من الفاشية الى حدود قصوى، قد تؤدي الى اعادة ادراجها في معترك اليمين التقليدي والمؤسساتي المتثائب. الى أي حدّ تسمح أزمة النظام الاقتصادي والمالي العالمي وأزمة الديمقراطيات الليبرالية وانكماش عملية توسّع نطاقها شرقاً وجنوباً بشيء من قبيل رجعة الفاشية؟ هذا السؤال بحدّ ذاته يتضمّن مفارقة. المفارقة هي أنه سؤال يسلّم سلفاً برجعة ظاهرة في غير زمانها، وبرجعتها ليس فقط من باب توصيف ظواهر أخرى بها، بل من حيث تذكيرنا بالتحديات السابقة التي فرضتها الحركات الفاشية.
واذا ما استعدنا الكتاب العمدة للمؤرخ اليميني الألماني ارنست نولته عن «الفاشية في زمانها» يتكشف سؤال الراهن عن «الفاشية خارج زمانها».
لقد اقترنت الفاشية «ضمن حقبتها» بسياسات الهندسة الاجتماعية الشمولية لمجتمعات في مواجهة الهندسة الاجتماعية الشمولية المضادة التي كانت تطرحها الشيوعية، وفي مواجهة منطق عدم حاجة المجتمعات الى أي هندسة اجتماعية وضرورة اكتفائها بتسليم أمرها لاقتصاد السوق كما لو انه حكم الطبيعة عينها، كما كانت تبشّر الليبرالية.
اليوم، تواقيع الفاشية من خارج حقبتها، ليست تدعو الى أي هندسة اجتماعية شمولية من أي نوع، لا لبناء الأمة العضوية ولا لبناء الدولة العضوية. بعض من يتهم بالفاشية في عالم اليوم يقرن نفسه بسياسات اقتصادية ليبرالية، وبعضه الآخر يقتبس من رطانة اليسار الاجتماعية. صحيح ان الزعامات الشعبوية التسلطية هي المدخل الاساسي لكثرة توصيف هذه الحركة او تلك في عالم اليوم بالفاشية، لكن هنا أيضاً لا شيء يقارن بتبجيل الزعيم في الزمن الماضي.
صحيح ان معادلة «لا يسار ولا يمين» رفعتها الحركات الفاشية في الماضي، ويرفعها من يتهم بالفاشية اليوم. لكن المضمون تبدّل. فسواء أخذنا بكل نظرية ارنست نولته او ببعضها، يبقى ان جهده التأريخي والفكري كشف محورية العداء للبلشفية كمحرك اساسي للفاشيين والنازيين، محرّك جعل نولته نفسه لاحقاً ينسب الى النازيين جذوة تحررية، ولو بالمقلوب، الأمر الذي فجّر «منازعة المؤرخين» الشهيرة في المانيا.
اليوم، الأمر مختلف. ومن أسباب الاختلاف ان ايديولوجيات القرن الماضي لم تفارق قرننا هذا لكنها لا تتسلل اليه الا في أنماط من «الرجعة». تماماً مثلما تكثر مظاهر استرجاع شخصيات «الميثولوجيا السينمائية» للقرن العشرين في كثير من الأعمال السينمائية ثلاثية الأبعاد مؤخراً، كذلك حال الفاشية، وأيضاً الشيوعية: رجعة كل منهما، تتم بالشروط نفسها، وبالأبعاد اياها. فالفاشية من خارج زمانها، تنفي نفسها عن نفسها، لكن في حدود عدم زوال التهمة، فهي ايضاً تعتاش من هذه التهمة التي توجه ضدها، وهي في حال اوروبا، او حتى الهند، لا تعمل على فرط النظام الديمقراطي الليبرالي، بقدر ما تعمل على اشتراط محوريتها فيه. في الماضي، قالت الفاشية: «انا البديل عن الشيوعية والليبرالية، بل انا الليبرالية الفولاذية في وجه الشيوعية وانا الشيوعية الحميدة في وجه الاحتكارات والمظالم الاجتماعية». عند هذا الحد كان الزمن زمانها، فلما انطوت صفحتها انطوى ذلك الزمان.
في الراهن، ثمة حركات شعبوية كثيرة تتهم بالفاشية، وثمة يمين متطرف منتعش، ومسيرة توسع للديموقراطية الليبرالية على مستوى العالم تتعثّر. لكن شبح الفاشية لا يقدّم نفسه كبديل عن ثنائية استبداد شيوعي أو عربدة رأسمالية. ما تسوّقه الحركات الشعبوية التي تتهم بالفاشية وتخوض الانتخابات اليوم هو انها حيويتها ضرورية للنظام السياسي والاقتصادي نفسه، ليس بسبب من تعاظم الاستقطاب بين يسار ويمين، وانما بسبب تعاظم انتفائه. في الماضي كانت الفاشية تسوق لنفسها تحت شعار «لا يسار ولا يمين». أشباحها اليوم تحقق حيثيتها بذريعة أنه لم يعد هناك يسار ويمين من الأساس. بالتوازي، فاشية الماضي، كانت متفاوتة الأخذ بالعداء للسامية، الى ان جعلها النازيون بمثابة المركز لعقيدتهم وبرنامجهم فتأثر الفاشيون الآخرون بذلك لاحقاً. اليوم، العداء للسامية لا يزال حيوياً لدى كثير من الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة، لكن «رُهاب الاسلام» هو سمة غالبة اكثر، من حزب بهاراتيا جاناتا في الهند وحتى الجبهة الوطنية في فرنسا، مروراً بـ «رُهاب الاسلام» محلي الصنع في ديار المسلمين.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة