تُشكِّل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي السوداني الطيب صالح، تحوّلا مهما على مستوى الكتابة الروائية العربية، نظرا لما أحدثته من رجّات في بنية النص الروائي القائم على نسقية تقليدية، فاتحة إمكانات جديدة لكتابة سردية؛ خارجة من رحم الفهم العميق لإبداعية سردية تجدّد كيانها السردي، وتُبدِع أفقا لكتابة لا تستنسخ الواقع، وإنما تخلُق متخيّلا روائيا منسجما مع الطروحات الثقافية والفكرية، ومتساوقا مع التحولات الاجتماعية والسياسية التي عاشها مصطفى سعيد البطل الرئيس للرواية.
فمصطفى سعيد ما هو إلا لسان حال علاقة الأنا بالآخر، هذه العلاقة التي اتسمت بالتّوتّر والصّراع الخفي بين أنا خارجة من مرحلة الاستعمار، وآخر متسلط ومُسْتَغِّل، ومن ثم يستحيل أن تكون هذه العلاقة متكافئة، بل هي علاقة صراع تُبرز مواجهة بين نسقين ثقافيين وحضاريين مختلفين ومتناقضين، وبالتالي فالأنا تحاول قدر الإمكان تحقيق ذاتها عبْر الانتقام الذي مارسته شخصية مصطفى سعيد ضد الآخر بوساطة ثيمة الجنس.
ولا شك في أن الرواية العربية تحاول كتابة سيرة الجماعة؛ بصيغة أسلوبية تعتمد على السرد باعتباره آلية من آليات الحكي، وتؤرخ للتاريخ الجماعي للمجتمع العربي، عبْر تقنيات كتابية تروم التعبير عن التحولات المجتمعية، ورصد التأثيرات المصاحبة لها على مستوى النظام العام للبنى الفوقية (الفكرية) والبنى التحتية (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)؛ ما خلق نسقا اجتماعيا تسوده المفارقات الغريبة، نظرا لما يعتور البنية المجتمعية من هشاشة على مستوى القيم، إضافة إلى تشكيل وعي جديد بالآخر كمستعمِر متطور ومتقدم، مقابل الأنا المستعمَرة المتخلفة والرازحة تحت نير الجهل والأمية، هذا الصراع الأبدي دفع العديد من الروائيين العرب إلى تناوله روائيا، بغية إدراك الذات في مواجهة الآخر ذلك «أن الأنا ليس موجودا دائما مع نفسه، بل يحاول أن يجدّد هويته عند كل نقطة يلتقي فيها بالأغيار» بعبارة أخرى أن الغير مرآة الأنا الباحثة عن كينونتها في صورة الآخر.
هذا النوع من الكتابات يصنفها النقد الروائي ضمن الروايات الحضارية التي تعالج علاقة الصراع بين قطبين حضاريين مختلفين. ويعتبر الطيب صالح من الأوائل الذين تطرقوا لهذه الإشكالية، التي ما زالت تؤرق الأنا المغلوبة في علاقتها بتجربة الغيرية، إلا أننا لن نسلك هذا المسلك أي الكشف عن أوجه الصراع بين الأنا والآخر؛ وإنما سنعالج قضية جوهرية يتعلق الأمر بالفحولة السردية كدلالة نسقية، من خلالها، سنقف عند خطاب روائي حاول تكريس نسق ثقافي ساد ويسود منظومة القيم المهيمنة داخل المجتمع العربي، انطلاقا من رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي – في اعتقادنا- تشكل عالما حافلا بهذا المعطى.
إن النسق السردي في الرواية يكرس فحولة زائفة للإنسان العربي؛ ذلك أن السارد النسقي يبرز أن الأنا السردية تحقق وجودها الفعلي، عبْر امتطاء الجنس كثيمة مهيمنة داخل الخطاب الروائي للرواية، وكمرادف للتعبير عن قدرة هذه الأنا على اغتصاب الآخر في عقر داره، ودليل أيضا على أن النسق السردي يضمر خطابا دونيا لهذا الفرد الذي يمثله مصطفى سعيد، الذي قُدِّم كمثال يجب على الذوات انتهاج السبيل الذي اجترحه للانتقام من الآخر المغتصِب يقول «حتى إذا ضاجعت امرأة، بدا كأنني أضاجع حريما كاملا في آن واحد» هذه الجملة السردية النسقية تعرّي حقيقة الجنس الهلامي الخرافي الوهمي، الذي ترسّخه المؤسسة السردية، اعتبارا لكون الرواية ديوان العرب، فهو الذي يسجل انتصاراتهم جنسيا على الآخر، ويعبّر عن ثقافة لذَّوية (من اللذة) بمعنى انتفاء الجانب الفعلي والانغراس في ما هو شهواني زائل بزوال الحوافز الحيوانية، كما تكشف الجملة النسقية عن التهويل الهُلامي للأنا السردية المتبجحة بفتوحاتها الجنسية. هنا تبرز الأنانية الذاتية المرضية التي لا تحقق وجودها إلا في طلب اللذة. هذا التملّك الجنسي ـ إن صح القول- يبرز حقيقة الشعور بالدونية للذات البطلة أمام سطوة الغير، وبالتالي اختارت الجنس كوسيلة انتقامية، أو كما قال الناقد عبد إبراهيم «ليمارس فيه عنفا مطمورا في نفسه بسبب تلك التجربة، فكأنّه يثأر بطريقته الخاصة بحثا عن توازن مفقود، فالمكافئ السردي للعنف الاستعماري العنف الفردي» هذه الممارسة التي تجسدت، من خلال أفعال سردية، قام بها مصطفى سعيد متنكّرا في صورة الطالب والأستاذ الجامعي، تؤكد الرغبة الجموح لإطفاء جذوة الاغتصاب الذي تعرضت له الذات الجماعية (الشعب السوداني) بغية محو الآثار النفسية، وتجاوز معضلة الخراب الذي شمل البطل، ما أفضى بالحبكة السردية إلى أن تتميّز بالتوتر والاحتدام، وتكسير بنية السرد المنمّط فاتحا لسردية تنسجم مع رغبة البطل في تشويه صورة الغير، من خلال ما وسم الحبكة السردية من توتّر كان له تأثير واضح على نسيج الحكاية التي غرقت في الاحتفاء بالغزوة الجنسية التي خاضها مصطفى سعيد مع الآخر يقول «لبثت أطاردها ثلاثة أعوام، كل يوم يزداد وتر القوس توتّرا، قِرَبِي مملوءة هواء، وقوافلي ظمأى، والسراب يلمع أمامي في متاهة الشوق، وقد تحدّد مرمى السهم، ولا مفرّ من وقوع المأساة، وذات يوم قالت لي: (أنت ثور همجي لا يكلّ من الطراد، إنّني تعبت من مطاردتك لي، ومن جري أمامك ، تزوّجني) وتزوّجتها. غرفة نومي صارت ساحة حرب، فراشي كان قطعة من الجحيم.
رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» رواية لم تقل غير خطاب روائي ينتصر لفحولة سردية واهمة ومتوهمة للانتصار على الآخر، لكن في عمقها توجّه رسالة مفادها أن الشرقي هاجسه جنوب الجسد/ اللذة؛ مبتعدا عن شمال الجسد/ العقل، وفي هذا إجحاف للعقل المشرقي المنتج والفعّال، وحطّ من قيمة الدور الحضاري والفكري للإنسان العربي عبْر تاريخ البشرية، وتغييب لما قدّمه العقل العربي للفكر الإنساني.
أمسكها فكأنني أمسك سحابا، كأنني أضاجع شهابا، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسيّ… أقضي الليل ساهرا أخوض المعركة بالقوس والسيف والرمح والنشّاب» فالملفوظ السردي يعرّي حقيقة البطل المهووس بهذا الفتح المبين عبْر الجنس، فهو يصوّر الأمر معركة وجودية بين عدُوّين، ما يكشف عن حدّة العقد الباطنية التي يخفيها تجاه الآخر، فمنطق الغزوة حاضر بقوة في اللاشعور الباطني لمصطفى سعيد؛ ما يكرّس منطق العداء للغير المختلف يقول: «إنني جئتكم غازيا في عقر داركم. قطرة السم التي حقنتم بها شرايين التاريخ. أنا لست عُطيْلا ، عُطيْل كان أكذوبة» ويقول أيضا كاشفا عن ردود فعل في مجابهة الغير، الذي كان سببا في اغتصاب الذات الجماعية، بوساطة الاحتلال الغاصب للهوية والزارع لقيم منافية لتاريخها، مقوّضا أركان الذات: «أنا الغازي الذي جاء من الجنوب، وهذا هو ميدان المعركة الجليدي الذي لن أعود منه ناجيا» والذي يزكّي هذا الطرح حتى المكان كان تعبيرا وتجسيدا لهذه الفحولة السردية، إذ يقدّمه بملامح شرقية؛ ما يضفي عليه هالة تثير الدهشة والاستغراب لدى الغربيات، فالنكهة الشرقية حاضرة بسحرها يقول: «غرفة نومي مقبرة تطلّ على حديقة، ستائرها وردية منتقاة بعناية، وسجاد سندسيّ دافئ، والسرير رحب، مخدّاته من ريش النعام، وأضواء كهربائية صغيرة حمراء وزرقاء بنفسجية، موضوعة في زوايا معيّنة، وعلى الجدران مرايا كبيرة، حتى إذا ضاجعت امرأة، بدا كأنني أضاجع حريما في آن واحد، تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والنّدّ، وفي الحمّام عطور شرقيّة نفّاذة، وعقاقير كيمياوية، ودهون ومساحيق وحبوب، غرفة نومي كانت مثل غرفة العمليات في المستشفى، ثمّة بركة ساكنة في أعماق كلّ امرأة، كنتُ أعرف كيف أحرّكها».
هكذا يحيل المكان إلى خلفية تلعب دورا أساسا لإبراز هذه الفحولة السردية لذات تحمل بين طيّاتها تاريخ الجروح والندوب والاغتصاب، التي يسعى إلى تذويبها عبْر الجنس كسلاح يملكه الشرقي. ومن ثمّ ألا يمكن اعتبار مصطفى سعيد نموذج الشرقي الذي يحتفي بالرغبات والشهوات بدل السعي إلى إبراز قدراته وملكاته وعبقريته الثقافية والحضارية، رغم أن الرواية أبرزت ذلك بوساطة التفوق الدراسي واقتحام الغرب في عقر داره ثقافيا؟ ثم أليس من الأجدر على هذه الأنا أن تؤسس لخطاب ثقافي ينتصر للعقل بدل السقوط في شرك فحولة سردية، لم تجن منها غير انحطاط القيم؟ وتروم إلى ترسيخ نظرة قدحية للأنا في مقابل الآخر؟
يبدو ـ في ما أعتقد ـ أن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» رواية لم تقل غير خطاب روائي ينتصر لفحولة سردية واهمة ومتوهمة للانتصار على الآخر، لكن في عمقها توجّه رسالة مفادها أن الشرقي هاجسه جنوب الجسد/ اللذة؛ مبتعدا عن شمال الجسد/ العقل، وفي هذا إجحاف للعقل المشرقي المنتج والفعّال، وحطّ من قيمة الدور الحضاري والفكري للإنسان العربي عبْر تاريخ البشرية، وتغييب لما قدّمه العقل العربي للفكر الإنساني. ومع ذلك فالرواية تمكّنت من التعبير والانتصار للذات في مواجهة الغير، وتحدّي النظرة الدونية والاستعلائية له، إنها رواية مشاكسة ومتمرّدة ومخصّبة للغة الروائية، لخلق خطاب روائي سمته الأساس تحطيم قيود المحرمات، وتجاوز ثقافة الاحتذاء والتقليد، وتلك لعمري أهمّ إضافة حملتها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي الطيب صالح، والكامنة في تخطي المنجز السردي العربي شكلا ومضمونا.
كاتب مغربي