الفدية الرقميّة… حرب عالمية غير معلنة!

لطالما روجت أفلام هوليوود لصورة نمطية عن قراصنة الإنترنت (الهاكرز)، إذ تصوّرهم في غرف مظلمة مرتدين أقنعة ونوعا معينا من السترات، محاولين تنفيذ هجماتهم في الهزيع الأخير من الليل.
بغض النظر عن هذه الصورة النمطية فإنّ الثابت اليوم أن هذه الهجمات نمت بشكل مضطرد بدءا من عام 2012 إلى مستويات خطرة، وتفاقمت المشكلة عاما بعد عام وأجبر قراصنة دولا ومؤسسات وأفرادا على دفع ملايين الدولارات سنويا، حتى باتت تمثل هذه القضية تحديا جدّيا للأمن القومي للدول المختلفة، المتقدمة منها والنامية.

حجم الأزمة الحادة

الأرقام في هذا المجال تعكس حجم الأزمة الحادة التي يعاني منها العالم اليوم، والتي باتت تعرف باسم أزمة برمجيات الفدية الخبيثة، ومازالت تتزايد نتيجة تركيز القراصنة لجهودهم في عمليات الابتزاز التي تعتبر من الأساليب المربحة جدا بالنسبة لهم.
من بين عشرات الحالات التي أُعلن عنها خلال النصف الأول من العام 2021 ، تم تسجيل متوسط فدية مطلوبة بقيمته 5.3 مليون دولار، وهذا يمثل ارتفاعا بنسبة 518 في المائة عن المتوسط الذي سُجّل في العام 2020، الذي بلغت الفدية حينها 847,000 دولار.
وكانت أعلى قيمة لفدية رقمية تم طلبها من ضحية واحدة حسب التقارير المتخصصة بلغت 50 مليون دولار، خلال النصف الأول من العام 2021، مرتفعة بذلك عن فدية بقيمة 30 مليون دولار سجلت العام الماضي.

المنظمات الإجرامية

الحاصل أن هذه العمليات قد لا تتطلب ميزانيات ضخمة ولا إمكانيات مادية، عسكرية ولوجستية، للقيام بها، مقارنة بالأدوات التقليدية الأخرى، بينما يشارك فيها عدد كبير من المخترقين المنظمين، وتشرف على هذه الهجمات أحيانا حكومات دول لاستهداف حكومات أخرى، بالمقابل هناك قراصنة أقل تنظيما، غير أن أهدافهم محدودة للغاية، فهناك المنتقمون، والمرتزقة، والنشطاء، والدول والمنظمات الإجرامية والإرهابية؛ وكل هؤلاء هدفهم تعطيل الأنظمة الحاسوبية التي تتحكم في منشآت حيوية، ويرفضون فك التشفير إلا بعد الحصول على فدية، وعادة ما تكون بعملة البتكوين الرقمية أو أي عملة مشفرة غير مركزية أخرى يصعب تتبعها.
هجمات برامج الفدية حققت مؤخرا أهدافا بارزة بما في ذلك أكبر شركة لحوم وأكبر خط لتوزيع الطاقة في العالم، وطالت في الأشهر القليلة الماضية قطاعات رائدة في الأنظمة الصحية، والمصانع العملاقة، وكبريات الشركات التكنولوجية، وخطوط النفط، وسلاسل الإمداد العالمية. وفيها جميعا طالب القراصنة بدفع فدية مالية مقابل فك تشفير المعلومات والبيانات المخترقة.
بالعودة إلى لغة الأرقام نجد أن هجمات الفدية ضربت العام الماضي أكثر من 100 وكالة فيدرالية وحكومية وبلدية، وما يزيد عن 500 مركز رعاية صحية، و1680 مؤسسة تعليمية، وأعداد لا حصر لها من الشركات، وإذا كانت هذه الأرقام التي يعلن عنها غير دقيقة أو محددة تجنبا من الضحايا الإبلاغ حفاظا على سمعتهم؛ فإنها تشير إلى استمرار زخم أزمة برمجيات الفدية الخبيثة بشكل متسارع ، وأن عصابات الجريمة الإلكترونية يعملون على صقل أساليبهم من أجل إجبار الضحايا على الدفع من خلال تطوير طرق جديدة لتعزيز قدرة الهجمات على التخريب.

ساحة قتال جديدة

قلنا في مقال سابق أن الفضاء الافتراضي أضحى بمنزلة ساحة قتال جديدة تشكل تهديدا يضاف إلى قائمة التهديدات التقليدية التي تواجه العالم، وتتجاوز في أبعادها وآثارها الحدود الجغرافية والسياسية، وتلقي في تداعياتها على مستقبل الأمن القومي والحيوي للدول.
وأصبحت عمليات الاختراق -التي يقوم بها “الهاكرز” كمجموعات محترفة ومتخصصة تظهر ويتسع نشاطها بصورة متزايدة خلال العقد الأخير، وباتت تعدّ جزءا لا يتجزأ من هذا العالم، الذي فرض نفسه مع الشبكة العنكبوتية قادرة وبعملية واحدة على إغراق أجهزة خوادم الحاسوب برسائل من أنظمة متعددة، تشل سير عملها، وتوقف نظم الإنتاج.
ففي عالم الإنترنت اليوم، بتنا أمام حرب غير معلنة خارجة عن سيطرة الدول وأجهزتها، حرب لا تعترف باتفاقيات ولا معاهدات ولا مواثيق، أبطالها الافتراضيون -بالإضافة إلى الدول- هم أفراد وجماعات أقرب لـ “الخلايا النائمة” التي تصحو وقتما تشاء، وتعود لسباتها متى أرادت ذلك، أدواتها برامج فدية باتت تشكل لهذه المجموعات نموذجا تجاريا مربحا إلى حد كبير.
تأسيسا على ذلك، أصبحت هجمات الفدية الرقيمة كمسألة “أمن إلكتروني” تتربع اليوم على هرم أجندة الدول بوصفها تمثل جانبا من جوانب الأمن القومي لها في ظل التهديد المتزايد الذي تمثله عمليات القرصنة والتهديد الذي يستهدف مراكز مؤثرة، ويفضي إلى خسائر مادية هائلة ما يستلزم حشد التعاون في المجال السيبراني كضرورة ملحة تتطلب إيلاء المزيد من الاهتمام بها في ظل التطور الهائل في طبيعة هذه الهجمات،ابتداءً من تعزيز الاستثمار في الأمن الإلكتروني وحماية البنية التحتية الرقميه بها، وتدريب الكوادر الوطنية في مختلف المؤسسات على كيفية التعامل مع هجمات القراصنة الخبيثة ومواجهتها والحد من تداعياتها، وليس انتهاءً بنشر الوعي السيبراني في المجتمع، وضخ المزيد من الاستثمارات في حماية الأنظمة المعلوماتية وسد الثغرات في الشبكات الحاسوبية تجنبا لابتزاز هجمات القراصنة التي تزداد يوما بعد يوم، وحفاظا على السمعة أو العلامة التجارية وحتى المصالح الأمنية والحيوية.

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية