«الفسيفسائي» رواية المغربي عيسى ناصري: رصفُ الرواية بفسيفساء فنون الكتابة

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

لا تتخلّى «الكتابة» بطبيعتها وفنونها ولغتها، في الكثير من روايات ما بعد الحداثة، عن طموحِها في أن تكون أحد أبطال الرواية، بإدراك توحي به، ويجري في شرايين الكاتب، أنها بهذا التكوين تثري الرواية وتمنحُها ألقَ الغنى، وعمقَ الارتباطات المجسِّد لوحدة الكائنات، ومتانةَ الجسر الذي يشدّها مع القارئ، بأسلاك ذلك.
وفي هذا السياق تخاطر الروايات في تحقيق طموحها هذا، إمّا بشدّها إلى قاع الفشل حين تفقدُ أجنحةَ الربط، الأهم في التحليق فوق سطحٍ ينفر منه حصىً أُقحمَ في غير مكانه على لوحة فسيفساء الرواية؛ أو بتحليقها فوق حصوات فسيفسائها التي تشابكتْ كما لو كانت قَدَرَ الجمال الذي وُلدت به، ولم تعد تملكُ غير أن تنمو وتتطوّر شخصياتُها وأحداثُها محلّقةً، تشدّ أجزاؤها بعضَها إلى بعضها كبنيان فسيفسائي مرصوص بيد صانع قدير.
ومثلما يبدو، ويُعاش باستمتاعٍ من قبل القارئ، تفعل هذا في تحليقها روايةُ كاتب القصة المغربي عيسى ناصري، الأولى التي خاض بها تجربةَ مشابكة الكتابة في عناصر روايته تحت عنوان «الفسيفسائي»، وأبرَزَ من خلالها رؤيته لفنّ الرواية، سواء بنسج البنية وإطلاق منظومة السّرد، أو شبْك الأحداث، وتطوير الشخصيات، أو ربط الأزمنة، ووضع الواقعي والمتخيَّل على ميزان الذهب، أو قيادة التشويق على الطرق والمنعطفات، أو غير ذلك من العناصر الفنية التي تجعل الرواية تنبض حيّة تسعى. والأهمّ في هذا إقامتُه للجسر بين روايته والقارئ، وتمتينه إلى درجة تماهي القارئ بالشخصيات كما لو كانَ واحداً منها، وبكاتب الرواية كما لو كان هو من يكتبْ، مستعيناً بالتحليل النفسي العميق لشخصياته في حركتها وردود أفعالها، وبحسن حظّه القدري الذي وضع بين يديه ثيمةً متوافقة الجينات مع دم روايته هي «الفسيفساء»، فجرى بها ساقيةً تُغَنّي، وتتنقل مختالةً بشاعرية اللغة وغنى المعرفة الإنسانية الممتدة عبر تاريخ الشعوب وصراعاتها.
ثيمةٌ جاريةٌ بأحداثٍ وشخصيّات:
بجمع روايتين لكاتبٍ وكاتبةٍ متوافقين، ومذكّراتِ طبيبةٍ نفسيةٍ، في بنيةٍ روائيةٍ تجسّد عالماً روائياً يتداخل فيه الخيال بالواقع، والماضي بالحاضر إلى حدود عدم التمييز؛ ينسجُ ناصري روايةً تتشابك أجزاؤها كما لو كانت أجزاء لوحةِ فسيفساء بديعة. وهي تتكامل بالتشويق البوليسي الذي يقطع سطحيةَ البوليسية فيه، بعدَ بدئه باستهلالٍ تحقيقي ونهايته به، تشويقُ علاقات الكاتب بكتابته إلى حدّ الجريمة، وعلاقات الحبّ والجنس إلى حدّ الإخصاء، وعلاقات الماضي بالحاضر إلى حدّ التماهي وتبادل الأدوار.
ويُقَوّي ناصري تشابك هذه العلاقات في روايته بثيمة الفسيفساء التي تسير بلوحةٍ أثرية من عصر الاحتلال الروماني لموريتانيا الطنجية، مكوَّنةٍ من ثلاثة قطعٍ ضمَّ الأولى منها متحفُ اللوفر، ورأتها كاتبةٌ أمريكيةٌ شغفتْ بها واندفعتْ للبحث عن أصولها في منطقة وَلِيلي الأثرية المغربية التي تضم تمثال إله الخمر الروماني باخوس الأكثر أصالة بين تماثيله المقلّدة.
وتدفع هذه الثيمة بقوّة حضورها المتشابك في الأحداث والشخصيات ناصري إلى رفعها بطلاً من أبطال الرواية، ويحقّق هذا فعلاً من خلال تجسيدها في أبطالها الفسيفسائيين، من الفنانين الممتهنين لها صنعةً، وكتّابها الممثّلين لشخصيات الرواية، المتداخلين ببعضهم في حكاياتها، السّاردين لها بصيغة الراوي المتكلّم في منظومة السرد:
ــ أيدمون، بطل رواية جواد الأطلسي «الفتى الموريّ» صانع هذه اللوحة برمزية مقاومة الاحتلال الروماني، وأمل انتصار الموريين؛ معشوقُ الفتاة الرومانية سيلينا التي يقوده عشقها له إلى إخصائه من قبل حسّاده الرومان.
ـــ جواد الأطلسي، بطل رواية «ليالي وَلِيلي»/ الروائيّ ناصر العيسى ــ كاتب رواية «الفتى الموريّ»، الذي يكتب رواية الفسيفسائي أيدمون كما لو كانه، أولاً بالحلم الذي يحلمانه نفسه على تباعد زمننا الحاضر وزمن الاحتلال الروماني، وثانياً في علاقات حبّه لسعاد وأريادنا.
ـــ أريادنا نويل/ أليس وايلر ــ الكاتبة الأمريكية القتيلة بجريمة غامضة في مدينة زرهونة بالمغرب، ومؤلفة رواية «ليالي وَلِيلي» التي تكشف أصول وملابسات وتكامل لوحة اللوفر، وتصل إلى حدّ كشف سرقة الكاتب الفاشل عاصم (تُهامي، المجسَّد فسيفسيائياً وسارداً أعلى في الرواية، وقاتلاً للكاتبة الأمريكية التي كشفته في روايتها).
ـــ تُهامي الإسماعيلي/ عاصم الشّبيهي ــ الذي يريد إرضاء عشيقته الأمريكية لينا صاحبة بيت وَلِيلي الذي تحتوي غرفة النوم فيه على القطعة الثانية من لوحة الفسيفساء البديعة «الموريّون ينتصرون على الرومان»)، سارق روايتيْ جواد وأريادنا ومذكرات طبيبته النفسية نوال لصنع رواية تعوض نقص فشله.
ــ نوال الهنّاوي/ الطبيبة النفسية كاتبة مذكرات «باخوس في العيادة» عن تهامي كمريض نفسيٍّ عشقتْه وأقامت معه علاقةً جنسية، بتبريرٍ فرويدي لعلاجه من ثقل ذنب قتله لابنه ذو السنتين، ومن غرقه بالكحول إلى حد تسميته باخوس. وكذلك عن المريض النفسي الآخر عيّاش الذي سُجن بريئاً مع سجناء الرأي لمدة عشر سنوات على اعترافه قسراً للخلاص من التعذيب، بالمشاركة في سرقة تمثال باخوس.
وفي مدّ أبعادِ ثيمته وتخليلها كاملَ جسد الرواية، يرفعُ ناصري درجة المشابكات بشخصيات الرواية الأخرى، وأفعالها، بغنى إبراز شخصيّات العشيقات الآسرات: سعادُ المغربية الشبيهة بتوسكان التاريخية الموريّة، والروميّة سيلينا حبيبة أيدمون الموري، مع الأمريكيتين أريادنا ولينا، كنساء حرّات يشابكهن ناصري مع رجال الرواية في لوحات حبٍّ مثيرةٍ أخاذة تمشي على صراط الإيروتيكية دون أن تقع في جحيم الإباحية. وتتداخلُ بلوحات فسيفساء الرواية، مثل لوحات اغتصاب تُهامي للمراهقة سعاد بالتداخل مع لوحة فسيفساء الفتاة المورية السمراء الثرية في غرفة نوم بيت عشيقته لينا ومثل لوحة خطف إله العالم السفلي هاديس لبرسيفوني، وفعل حبّ أيدمون مع سيلينا متداخلاً بهذه اللوحة، حيث:
«شردتْ عيناي وهما تشملان بنظرتهما حبيبي الواقف في عنفوانه العاشق عند العتبة. تطأُ قدماي الإطارَ وتتقدّمان إلى عمق الفسيفساء، إلى حيث ترسو عربة هاديس الذهبية، بقدمين حافيتين أتوغّلُ في مجال الفسيفساء. وأقول بدلالٍ: ــ أريدُ أن أكون برسيفوني. اخطفني! خذني إلى موتي المشتهى. إلى العالم السفليّ! واجعلني ملكةً على عالم الموتى!».
ويرتقي ناصري بثيمة فسيفسائه وسط جميع حالات الرواية إلى رحابة جمال الحب في كونه: «الحب الذي تدفّقَ بيننا كقدر. إنه الجمال الذي تزيّا بكمالٍ فريدٍ نَسَجت الطبيعةُ مصادفاته العجيبة بين آدميين ولدتهما تربتان تنأى بهما المسافة وتمتدّ بينهما فراسخ من البراري والبحار والثقافة.»… «حب نتأ كفسيفساء رومانية شرعنا نتهجّى كطفلين صغيرين ألوان حُصَيَّاتها المرصوفة على بهجة قلبينا الكبيرين. حبٌّ تبرعم على شفير المتناقضات، فكبُر بتلك الوداعة الشرسة، في عامٍ، في أشهرٍ طويلةٍ كأبديةٍ واعدة.»
فعل الكتابة بما لاصقت:
في إدخاله «الكتابة» بطلةً في الرواية مثلما أدخل ثيمة «الفسيفساء»؛ يبلورُ ناصري علاقة الكاتب بكتابته وتخليلها عظام الرواية في كونها جزءاً من الحكاية، حيث الأبطالُ روائيون موهوبون يتحرّكون ككشافين ومبتكرين وسط تعقد عالم الرواية، بجانب روائيٍ قليل الموهبة يتحوّل إلى قاتل لسدّ نقصه. مع إدخال ناصري شعلات نارٍ مقتبسةً من كتّابٍ وفلاسفةٍ يعكسون أجزاء من رؤيته لما يفعل في كهف روايته، سواءً في وضعها كمقدّمات للفصول، مثلما يفعل في فصل «ليالي وَلِيلي»، باقتباساتٍ من ثلاثة كُتّاب: أورهان باموق: «الأدب هو موهبةُ أن نحكي حكاياتِ الآخرين كما لو كانت حكاياتنا الخاصة»؛ وجول فيرن: «إن كل عمل إبداعي يكمن في حلم»؛ وجون بوين: «الأدب مكمّل للتاريخ وليس نقيضه».
وسواءً في مداخلتها بالأحداث مثلما تفعل الطبيبة النفسية نوال في الموافقة وتوضيح أهمية الكتابة لتُهامي كعلاجٍ نفسي حين أخبرها بأنه يكتب رواية، ضاربةً له مثلاً عن ستيفن كينغ الذي: «أكد في إحدى مقابلاته أن الكتابة أسلوبٌ علاجيٌّ يتيح لك تقديم شياطينك من خلال القصة. الكتابة تسمح لك بتقيُّؤ كل غضبك وحزنك ويأسك على الورق».
وفي هذه الإدخالات والتشابكات، مع تجارب الكُتّاب، بما تعالجه روايته، يبلور ناصري قيماً مهمة في شغل وفنّية الرواية، مثل معالجات الأزمنة بالتداخل السحري ودفع الأحداث خارج التوقعات، كما يفعل في تشابكات أحلام أيدمون ابن العصر الروماني وجواد ابن العصر الحاضر.
ومثل الإغناء العميق المتأتّي من التداخل بين الواقعي والمتخيّل، وتداخل الشخصية الحقيقية بالورقية، في إثارةٍ للتساؤل من يكتب الرواية، بما يحدث لبطله جواد الذي ينتابه شعور غامض في «أنه ليس هو وإنما نسخته الورقية»، وأنه «دميةٌ في يد كاتب».
ومثل تصوير الكتابة كرحلةٍ عمل لدى بطلته أريادنا التي تصل في كتابة روايتها إلى أنه: «لم تعد الكتابة عندي وقتاً للتسلية، بل صارتْ طريقةً خاصّة في العيش كما قال فلوبير».
ومثل تكوين بنية الرواية وكشف أسرار عمل مداخلات التكوين، في فعل بطله السارق القاتل تُهامي، الذي يجمع قطع فسيفساء الرواية الثلاث كروائي قدير، مرتاحاً لفعل القتل وتبريره نفسياً؛
مع كشف ناصري الخفي لكون رواية تُهامي التي يربط قطعها تُماثل روايتَه نفسَها كما يُسِرّ تُهامي لنفسه: «القطع الثلاث الآن بين يديّ. وكل ما ينبغي لي عمله هو أن أؤلف بينها وأرتّب فصولَها. قرأتُها قطعةً قطعةً، ولوحةً لوحةً، فأربكتْني التقاطعاتُ التي ألفيتُها بينها، وذاك التّجاسُر الرهيب الذي لا يخطُر على البال. ثم مزجتُ النصوصَ الثلاثةَ وأدخلتُ صوتي سارداً مُشاركاً، وسارداً أعلى وكاتباً في آن، محافظاً على خصوصيّة كلِّ رواية. ولم أغيّر فيها إلا ما ندر، باستثناء أسماء بعض الشخوص التي بدَّلتُها».
وفي تتويجِ هذه القيم يصل ناصري في معالجة الكتابة داخل الرواية إلى كشف ما تُسبّب أفعال الكتابة الروائية بأجرٍ، من توليد أحاسيس الذنب لدى من يقوم بها، وتبعات هذه الأفعال عندما يَخْلُصُ المتورّط إلى رفضها، كما فعل بطلُه جواد، مستنكفاً عن الردّ على هاتف من طلب منه كتابة الرواية. ولقد حاسب نفسه: «الكلمات قطراتُ دماءٍ دلقَتْها روحُك العطشى يا جواد. فكيفَ لك أن تُعطيها لهذا الذي لم يصنعْ شيئاً غيرَ مدِّكَ بحفنة دراهم؟ الكلمةُ لن تغفرْ لكَ الخيانة.»… «ليس كاتباً من يرتضي بيع بناتِ خياله لصوتٍ مجهولٍ قادمٍ من أثيرِ بلاد نائية».
ويوصل ناصري خلال مشابكاته قارئه إلى إدانة فعل سرقة الأدب سواء من قبل مرضى عُقَد الفشل أو مسوخ الكُتّاب الذين سحقتْ شخصياتِهم سلطات بلادهم، أو الأثرياء المتنفذين المصرّين، وهم كثرٌ في الواقع، على احتلالِ مواقعِ الآخرين، وسدِّ عقد نقصِهم بما يقترفون من أفعالٍ مخزيةٍ تصلُ حدّ ارتكاب الجريمة.
عيسى ناصري: «الفسيفسائي»
منشورات ميسكلياني، تونس 2023
377 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية