لا يعد فيلم الفطور في تيفاني Breakfast at Tiffany’s (1961) أحد أبرز رموز السينما الأمريكية فحسب، بل إنه من الأفلام القليلة التي ما يزال الإعلام العالمي يتطرق إليها حتى الآن بشكل متكرر، نظرا لأهميته في عدة مجالات من الثقافة الأمريكية. وما يزال المرء يشاهد صور ممثليه بملابس التمثيل في الإعلام وعلى جدران المقاهي والمطاعم في الغرب. وهو كذلك الفيلم الذي ثبت نجومية الممثلة أودري هيبرن Audrey Hepburn والمخرج بليك أدوردز، كما كان نقطة انطلاق الممثل جورج ببرد George Peppard بالإضافة إلى أنه جعل مؤلف الرواية ترومان كابوت أحد أشهر الكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هل يستحق هذا الفيلم كل هذا التقدير؟
أحداث الفيلم
هولي غولايتلي شابة لا تملك قسطا من التعليم أو أي مهارة وتعود أصولها إلى منطقة ريفية في تكساس، إلا أنها تحاول الاختلاط بالمجتمع الراقي في نيويورك، ولذلك تقضي وقتها في إعطاء الرجال الأغنياء وقتا ممتعا، مقابل سخائهم المالي. ولذلك، فإنها تعاني دائما من ملاحقة الرجال لها. وتحلم بالزواج من أحد الأثرياء، أو أن تصبح ممثلة سينمائية، حتى إنها اتفقت مع وكيل ممثلين شهير في هوليوود. ولا تريد هولي الارتباط بأي شيء وصديقها الوحيد قط تعتني به في شقتها الصغيرة في نيويورك. أما عائلتها، فليس لها سوى شقيقها الفاشل الذي يخدم في الجيش الأمريكي، وتحلم بالسكن معه بعد انتهاء فترة خدمته، ومتعتها الوحيدة الذهاب إلى متجر تيفاني الشهير للمجوهرات والتفرج على معروضاته، دون شراء أي شيء، لأنها دائما مفلسة، وإحدى وسائلها لكسب المال، زيارة زعيم عصابة شهير في السجن حيث تدعي امام موظفي السجن إنها قريبة له وتعطيه رسالة من أحد زملائه على شكل تقرير للأنواء الجوية، ويعطيها السجين رسالة مشابهة لإيصالها إلى زميله وتأخذ مئة دولار مقابل هذه الخدمة. وتحاول هولي ألا تؤذي أحدا، فهي ليست سوى فتاة تحاول تجاوز صعوبات الحياة.
تعود هولي إلى شقتها في ساعات الصباح الأولى بعد سهرة طويلة، إلا أنها لا تجد مفاتيحها فتوقظ صاحب المبنى الياباني (ميكي روني) الذي يسكن فيها، ويفتح لها الباب غاضبا، لكنها ما أن تخلد إلى النوم حتى يوقظها «بول فارجاك» (جورج ببرد) الساكن جديد الذي يأتي لاستلام شقته، حيث لم يستلم مفتاحه. ويتعارف الاثنان حيث تقص عليه الكثير من تفاصيل حياتها.
تأتي امرأة ثرية وكبيرة في السن نسبيا (باترشيا نيل) لزيارة بول الذي يدعي أنها مهندسة الديكور لشقته، إلا أن هولي تلاحظ انها تعامله كعشيق. وفي تلك الليلة يزور هولي رجل تعرفه، إلا أنه يسكر ويضايقها فتخرج من شقتها من الشباك الخلفي وتتجسس على بول من خلال شباك غرفة نومه، حيث تشاهد المرأة الثرية ترتدي ملابسها وتترك مبلغا من المال على المنضدة، أثناء نوم بول، فتفهم هولي أن بول في الحقيقة يقدم للمرأة خدمات جنسية مقابل المال. ويستيقظ بول وتدخل هولي غرفته، حيث يتبادلان الحديث وتبين هولي له أنها اكتشفت مهنته. ويخبرها بول أنه كاتب إلا أنه لم ينشر له أي كتاب منذ خمس سنوات، على الرغم من أنه يكتب كل يوم، فتبتسم هولي وتخبره أن آلة الطابعة التي لديه لا تحوي شريطا، أي أنه يكذب، وتنام هولي في غرفته، دون أن يحدث شيء بينهما، ويكتشف بول أن هولي تعاني من كوابيس حول شقيقها. وعندما يخبرها بذلك تنهره.
تقوم هولي بشراء شريط لآلته الطابعة كاعتذار له وتدعوه لحضور حفلة في شقتها. ويلبي بول الدعوة، حيث يتعرف على وكيل هولي في هوليوود
(مارتن بلسم). ويخبره الوكيل أن هولي تتظاهر بأنها راقية في لهجتها وتصرفاتها، إلا أنها في الحقيقية من أصول ريفية فقيرة. ويلاحظ بول أن الحفلة مليئة بالرجال، لاسيما الأغنياء منهم، والجميلات. وكان من بين الحضور أحد الأثرياء البرازيليين، وكذلك أحد أغنى الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية كانت هولي تطمع في الزواج منه. وينزعج بول من جو الحفلة ويخرج مع الثري البرازيلي قبل أن تأتي الشرطة بسبب انزعاج الجيران من ضوضاء الحفلة.
تأتي المرأة الثرية بعد فترة إلى شقة بول في حالة من الهلع بسبب ملاحظتها رجلا يراقب المبنى، لأنها تخشى أن يكون زوجها قد أرسله لتتبعها، لكن بول يكتشف أن الرجل، وهو في الخمسينيات من عمره، كان يراقب هولي حيث يخبر الرجل بول أنه تزوجها قبيل بلوغها الرابعة عشرة من عمرها، وأنه قدم من تكساس لأخذها إلى منزله. لكن هولي تخبر بول أن الزواج قد ألغي وتأخذ الرجل مع بول إلى محطة الحافلة ليعود إلى تكساس حزينا، بعد أن طلب من بول أن يساعدها بقدر الإمكان ويعطيه مبلغا من المال. وتشرب هولي إلى حد الثمالة وتهين بول حول علاقته بالمرأة الثرية. وفي اليوم التالي ينجح بول في بيع قصة إلى إحدى الصحف، ما يشعره الفخر والرغبة في الاستقلال وتحسين حياته، ويعيد المياه إلى مجاريها مع هولي. وبعد ذلك يذهب الاثنان إلى محل تيفاني الشهير للمجوهرات، حيث يقوم بول بالطلب من المحل بنقش خاتم رخيص جدا ليهديه إلى هولي، حيث توطدت علاقتهما تلك الليلة، ويكتشف بول إنه يحبها، فيقطع علاقته مع المرأة الثرية، لاسيما أنه بدأ ينجح ككاتب. وقرر إهداء الخاتم المنقوش إلى هولي، لكنه يكتشف أنها قررت الزواج من الثري البرازيلي.
تعود هولي إلى مسكنها مع الثري البرازيلي وكانت قد استلمت رسالة تبلغها بوفاة شقيقها، فيجن جنونها وتأخذ بتحيطم الأثاث، مما يرعب الثري البرازيلي إلا أن بول يتدخل لتهدئتها.
تلقي الشرطة القبض على هولي بتهمة الاشتراك في عصابة تتاجر في المخدرات، حيث كان تقرير الأنواء الجوية الذي تسلمه هولي إلى زعيم العصابات في السجن في الحقيقة رسالة مشفرة من عصابته، وكان ذلك الزعيم يعطيها تقريرا آخر لتسليمه إلى زميله. ويقوم وكيلها بدفع كفالتها ثم يخرجها بول من السجن متوجها إلى شقتها في سيارة أجرة. وتبلغه هولي إنها ستهرب من البلاد متوجهة إلى البرازيل، على الرغم من أن الثري البرازيلي أبلغها بقطع علاقتهما. لكن بول يخبرها بحبه لها فتحتج، لأن الحب بالنسبة لها سجن، إلا أنه يبلغها أن حياتها الحالية سجن أينما ذهبت، لاسيما أن السلطات الأمريكية ستلاحقها إذا هربت. لكنها غضبت وقالت إنها لا تريد الارتباط بأي أحد، فهي لا تنتمي إلى أي أحد مثل قطها، بل إنها والقط لا ينتمان إلى كل منهما. وتوقف سيارة الأجرة حيث ترمي قطها في الجو الممطر. ويغضب بول ويخرج باحثا عن القط. وتندم هولي، فتنضم إليه باحثة عن القط المسكين وتعثر عليه أخيرا. وتأخذ هولي القط وترتمي في أحضان بول وتقبله والقط بينهما وعلامات الضيق بادية عليه. وينتهي الفيلم هنا.
تحليل الفيلم
بغض النظر عن كون الفيلم دعاية غير عادية لمحل تيفاني الشهير، وإن القصة خيالية فإنه عن نماذج من الناس موجودين في العالم السفلي من المجتمع الأمريكي. وكانت فكرة الفيلم الرئيسية أن الحياة قد تكون شديدة القسوة، إلا أن الإنسان يجد السعادة في نهاية المطاف حتى بالنسبة إلى أكثر الناس سوءا وبؤسا. ويبين الفيلم كذلك أنه ليس كل من يظهر سعيدا في حياته صادقا في ما يبينه، إذ قد يكون إنسانا بائسا.
كان طاقم الفيلم ناجحا للغاية في صناعة فيلم مثير وممتع جدا، مع إضافة عامل الرومانسية ببراعة. ونجح الفيلم كذلك في جعل المشاهد يعجب بجميع شخصيات الفيلم، لاسيما رقة وجمال أودري هيبرن ووسامة جورج ببرد وخفة ظلهما. لكن هذا جعل المشاهد لا يلاحظ تفاصيل مهمة في الفيلم، فهولي في الحقيقة عاهرة في الثامنة عشرة من عمرها وعضو في عصابة خطيرة للمخدرات، إذ من المستحيل أن لا تعرف حقيقة تقارير الأنواء الجوية التي كانت تنقلها، كما أنها لا تجد أي صعوبة في الكذب على مسؤولي السجن عندما تعلل لهم سبب زيارتها لزعيم العصابات. أما بول فكان يقدم خدمات جنسية لامرأة ثرية مقابل مبلغ مالي، أي انه ليس مختلفا عنها. ويكشف الفيلم عن ظاهرة كانت موجودة في المجتمع الأمريكي، وهي الشابات اللواتي كن يتركن قراهن في اتجاه المدن الكبيرة، لاسيما نيويورك ولوس أنجلس، ظنا منهن أن الدخول إلى عالم التمثيل أمر سهل. ومن الممكن الاستنتاج أن أودري هيبرن وجدت تمثيل هذا الدور سهلا، لأنها بالتأكيد عرفت الكثير من هؤلاء الفتيات، بل إنها ربما كانت واحدة منهن في بداية حياتها الفنية. وفي الواقع أن نهاية أغلبهن عادة حزينة. وكان من الممكن أن يجد المرء الجميلات منهن في حفلات المجتمع، لاسيما الراقي منه. ومن المثير للاهتمام أن الإحصائيات الحالية تبين أن نسبة الممثلين الذين ينجحون في مهنة التمثيل بأي شكل كان، لا تتجاوز الاثنين في المئة. أما بالنسبة لشخصية الكاتب بول، فإن الموقف أكثر سوءا من موقف الممثلين، حيث ينجح ما بين واحد واثنين من المئة من الكتاب فقط في نشر كتبهم، بغض النظر عن كونها ناجحة تجاريا أم لا، ولذلك، فإن كون هولي وبول في حالة مادية سيئة، لا يناقض الواقع، لكن نهايتهما السعيدة تناقض الواقع بشكل عام.
كانت أودري هيبرن الشخصية الرئيسية في الفيلم، حيث كان دور جورج ببرد ثانويا، إذ طغت الممثلة على كل مشهد ظهرت فيه، كما أنها ظهرت في الفيلم أكثر منه. ويمثل هذا البطولة المطلقة الثانية للممثلة الكبيرة بعد فيلم «عطلة في روما». لكن أودري هيبرن فشلت في أن تبدو أمريكية وتقليد اللكنة الأمريكية، كما كان واضحا أن سنها كان أكبر من الشخصية بكثير، حيث كانت في الثانية والثلاثين من عمرها. وعانى جورج ببيرد من المشكلة نفسها، أي أنه كان أكبر سنا بوضوح من الشخصية التي مثلها.
كانت فكرة وجود القط في الفيلم حيلة ذكية، فلم ينخدع بها محبو الحيوانات فحسب، بل إن القط كان يمثل من الناحية الرمزية هولي نفسها، فقد كان عديم الاسم والارتباط بأي شيء أو شخص. ولم يكن ذلك الرمز الوحيد في الفيلم، فمثلا في مشهد الحفلة في شقة هولي، نجد المرأة التي تشاهد نفسها في المرآة تبكي، وكذلك الطائر المحنط في القفص ما يشير إلى زيف الحاضرين، وأن هذا المظهر الجذاب يخفي حقيقة مرة.
خلفية الفيلم
قصة الفيلم مأخوذة من رواية قصيرة نشرها الكاتب الأمريكي الشهير ترومان كبوت Truman Capote الذي كتب الرواية لتمثل صداقته القوية مع مارلين مونرو، دون أن تكون عشيقته. وركزت الرواية في الأصل على فتاة في الثامنة عشرة من عمرها في أربعينات القرن العشرين وتتمتع بشخصية انانية وقاسية بشكل مرضي حيث تحاول تحقيق ماربها غير الاخلاقية مهما كانت الوسائل وعلى حساب مشاعر الاخرين. وقد يعطي هذا انطباعا عن شخصية مارلين مونرو الحقيقية. وحاول المؤلف جاهدا أن يقنع الشركة المنتجة بالاستعانة بمارلين مونرو، لأداء دور هولي دون جدوى، وانزعج بوضوح عندما تم الاتفاق مع أودري هيبرن. وقد ذكرت المصادر عدة أسباب حول عدم قدرة مارلين مونرو على الفوز بالدور، خاصة أنها سبق أن مثلت أدوارا مشابهة لهذا الدور في الماضي، وحتى أودري هيبرن كانت ربما تقلد مارلين مونرو في أدائها لهذا الدور. ولم يفسر الكاتب لماذا دعم قيام مارلين مونرو بأداء الدور، لاسيما وأنها كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها.
وقام القائمون على الفيلم بالكثير من التغييرات على الفيلم، حيث جعلوا الأحداث تدور في بداية ستينيات القرن العشرين وجعلوا الشخصيتين الرئيسيتين طيبتين ومحبوبتين، على الرغم من أنهما في الحقيقة شخصان سيئان جدا. وقاموا بتغيير النهاية، ففي الرواية الأصلية تهرب هولي من الولايات المتحدة وتختفي. وبسبب هذه التغييرات قد يجد هواة الأفلام السينمائية هذا الفيلم مألوفا. وهم على حق لأنه يشابه الفيلم الشهير «الشقة» الذي مثله جاك ليمون وشيرلي مكلين وعرض عام 1960.
الأغنية
من أهم ميزات الفيلم أغنية نهر القمر Moon River التي لحنها الموسيقار الشهير هنري مانسيني من أجل أودري هيبرن بالذات، بحيث تتناسب مع قدرتها المحدودة على الغناء. وأراد المنتجون حذف الأغنية إلا أن البعض اعترض على ذلك، لاسيما أودري هيبرن التي أثارت ضجة واستشاطت غضبا، إذ لم تكن الممثلة في الواقع بالرقة التي تبدو عليها في الأفلام. وقرر المنتجون في نهاية المطاف إبقاء الأغنية. وكان ذلك القرار الصحيح حيث أصبحت إحدى أشهر الأغاني في تاريخ السينما الأمريكية.
الفستان الأسود
ظهرت أودري هيبرن في بداية الفيلم رائعة في فستان سهرة أسود، وكأنها عارضة أزياء. وأصبح هذا الطراز بسبب الممثلة رمزا للأزياء الراقية لدى أجيال من النساء، على مختلف طبقاتهم الاقتصادية، فمثلا ارتدت جاكلين كينيدي فستانا مشابها عندما رسم الفنان رتشارد أفيدون لوحة لها مع زوجها الرئيس الأمريكي جون كينيدي. وارتدت كذلك الأميرة ديانا فستانا من هذا النوع في حفلتها الشهيرة في البيت الأبيض، عندما رقصت مع الممثل جون ترافولتا عام 1985.
كان هذا الفستان الشهير من تصميم وصناعة المصمم الفرنسي البارز هوبرت دي جيفانجي، الذي كان مقربا من الممثلة الشهيرة، خصيصا لها. واستلمت الممثلة ثلاث نسخ من الفستان، وقامت أشهر خبيرة أزياء في السينما الأمريكية بتعديلها لجعلها اكثر حشمة وإخفاء ساقي أودري هيبرن. وقد بيعت إحدى هذه النسخ الثلاث عن طريق دار المزاد الشهير كريستي بمبلغ تسعمئة واثنين وعشرين ألفا ومئة وسبعة وثمانين دولارا أمريكيا عام 2006. وبسبب أودري هيبرن أصبح لهذا الطراز من الفساتين رمز LBD الذي يشير إلى الفستان الأسود الصغير. ومما هو جدير بالذكر أن هذا الطراز كان أصلا قد صمم للمرة الأولى من قبل المصممة الفرنسية الشهيرة كوكو شانيل عام 1926.
باحث ومؤرخ من العراق
امريكا تبيع العالم اوهاماً واحلاماً والعالم يتقبل ذلك