الفلسطينيون ليسوا المشكلة

وراء الصورة الواثقة والمتعالية التي تقدمها القارة الأوروبية عن نفسها، ثمة طبقات من اللاوعي الجمعي، تحتشد بصور يمكن أن تظهر بصورة طفيفة، أو عميقة من وقت إلى آخر، ومع الأزمات يمكن أن توضع على حافة الانفجار، لتعبّر عن نفسها بأكثر الصور عنفا وابتعادا عن نموذج التحضر، الذي جعلته يتخذ صورتها، وحاولت أن تفرضه على العالم بأدواتها الناعمة والخشنة على السواء. في اللاوعي الأوروبي تكمن أصوات حمحمة الخيل، التي وصلت إلى قلب فرنسا في معركة بواتييه (بلاط الشهداء) في القرن الثامن، ورائحة بارود المدافع العثمانية التي حاصرت فيينا في القرن السادس عشر، وبطبيعة الحال، طرق التجارة المغلقة والمكلفة، التي سيطر عليها المماليك في مصر وسلطنة عمان في المحيط الهندي، وجميعها جعلت من المشرق العربي المنافس القريب للحضارة الأوروبية، وحتى العصور الوسطى، لم تكن ثمة فوارق تقنية حاسمة لأي من الجانبين، بما جعل الأوروبيين يعتادون لسنوات طويلة على تصور ذلك المكان من العالم بوصفه تهديدا دائما ومقيما، لا يمكن لأوروبا أن تلوذ بيقينها الحضاري والأخلاقي، من غير أن تضمن نوعا من السيطرة التي تضمن تفوقا مستمرا ومستداما.
تماهت الحركة الصهيونية مع الطموحات الأوروبية في تحييد المشرق، ووجدت مكانا في المعادلة السياسية بعد الحملة الفرنسية على مصر، وكان اليهود وقتها يشكلون أزمة أوروبية، نظرا لأن الثورة الفرنسية نادت بشكل أو بآخر إلى المواطنة وحقوقها، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور اليهود واندماجهم بصورة حادة في الأوساط الأوروبية، وبطريقة أو بأخرى، وخلال عقود من الزمن نشأت فكرة الوطن القومي، وبدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في القرن التاسع عشر.
القيمة التي رآها اليهود لأرض فلسطين، داخل النص التوراتي، كانت مختلفة في الحسابات الأوروبية، التي لم تكن معنية كثيرا بفلسطين إلا في موقعها، الذي يحول وبناء دولة مشرقية منافسة، فسوريا الطبيعية ومصر كانتا كيانا واحدا في جميع الأزمنة، التي شهدت مراحل التهديد العسكري والاقتصادي لأوروبا، وهو كيان يمتلك خزانا بشريا هائلا، ولديه بنى فكرية وحضارية منافسة ومزاحمة للأوروبيين، وهو ما يختلف عن التراكيب الدينية والثقافية السائدة في افريقيا وآسيا، حتى إن الحضارة الأوروبية ذاتها وفي أكثر من مرحلة كانت في وضعية التأثر بالمنتج الفكري للمنطقة، ومنه الديانة المسيحية التي هيمنت على أوروبا منذ القرن الخامس الميلادي.
لم تكن فلسطين في حد ذاتها هدفا، ولكن مصر وسوريا الطبيعية كانتا الهدف الواضح لتأسيس دولة يهودية في الشرق، والفلسطينيون هم الضحايا الذين أنتجتهم عملية الاستبدال السكاني لتحل مكانهم جماعة وظيفية معادية، تحتاج بصورة دائمة لشيء من التوكيد والمساندة الأوروبية، وإذا كانت عملية طرد الفلسطينيين من أرضهم هي التي احتلت مركز الصورة، نظرا للمدى التراجيدي الذي وصلته، فإن الصورة الكاملة تُظهر أن هذه الدولة أتت أساسا لتهدد القاهرة ودمشق بصورة رئيسية، ووراءها مناطق واسعة يمكن لدولة وظيفية متعطشة لإثبات ذاتها، وتعتقد بتفوقها الحضاري/ التقني، أن تتمدد لتسيطر عليها.

تخيم على المخيلة العربية الشعبوية حاليا فكرة الفلسطينيين بوصفهم عبئا، وشعبا يعيش المعاناة، مع تناسي التهديد الحضاري والوجودي، الذي تمثله إسرائيل على هذه الدول

إنتاج الشعب الفلسطيني بوصفه منعزلا عن الامتداد العربي، وبوصفه متمايزا عن المشرق، بالاستراتيجية نفسها التي أنتجت الشعب اللبناني والسوري والأردني، كانت تعزل الفلسطينيين وتجعلهم يمثلون كبش الفداء، وكأنهم من يتحملون الخطيئة الأصلية، ومع سيطرة الفكر الديني والغيبي على الطرفين، اليهود والعرب معا، أصبحت فكرة ملكية أرض الميعاد عاملا محركا للصراع، مع أن كل هذه الأرض لا تتمثل سوى في إحداثيات الطول والعرض والمواصلات والطبوغرافيا بالنسبة للأوروبيين، الذين جعلوا من دولة (إسرائيل) جبهة متقدمة داخل منطقة قلقة للغاية في التاريخ والجغرافيا معا بالنسبة لهم.
يتحمل الفلسطينيون شيئا من التمنن غير المنطقي، وغير المستند إلى أساس صحيح، فكثير من الدول أصبحت تتحرك تجاه إسرائيل على أساس أن الصراع هو تحسين ظروف العيش بالنسبة للفلسطينيين، وأن على الفلسطينيين أن يقبلوا بالتنازلات الممنوحة لتسوية قضيتهم، وهذه القضية هي جزئية في صراع طويل وممتد، وفي هذه اللحظة من التاريخ، كانت نظرية الأمن القومي لأكثر من بلد عربي تدخل في اضطراب حقيقي، وكأنها تقرأ خارج سياقها التاريخي لتتحول إلى مجرد ترتيبات إجرائية. في وسط تبرير البحث عن السلام كان يجب شيطنة الفلسطينيين، وبدأت بعض الشعوب العربية تتعامل معهم وكأنهم قضية مستقلة، مع أن سلب أراضيهم كان مجرد المبتدأ، أما الخبر الذي تكتمل به الجملة فهو السيطرة على المنطقة ككل، وعندما تولى بعض العسكريين من محدودي الثقافة الشأن في أكثر من دولة عربية، ومنها دولتان مهمتان في الطوق، سوريا ومصر، أصبح التعامل مع الفلسطينيين كورقة هو الأولوية، أما التفهم لمعضلة الوجود الإسرائيلي، فأصبح موضوعا مختلفا، وبدأت شعوب الدولتين، ومن خلال بعض الأصوات الإعلامية، تتحدث عن تضحيات بذلت من أجل الفلسطينيين، لا حروبا ضرورية وحتمية بدأت منذ التدخل الإسرائيلي في العدوان الثلاثي ضمن معادلة الاستعمار القديم داخل الدور الوظيفي المحدد لها.
تخيم على المخيلة العربية الشعبوية حاليا فكرة الفلسطينيين بوصفهم عبئا، وشعبا يعيش المعاناة، مع تناسي التهديد الحضاري والوجودي، الذي تمثله إسرائيل على هذه الدول، وضرورة العمل إما على تذويب إسرائيل كما ذهبت آراء بعض المفكرين العرب في بدايات القرن العشرين، ليصبحوا يهودا مشرقيين كما عاشوا لقرون من الزمن، أو دفعها للانهيار، سواء في صراع عسكري، أو نتيجة تناقضاتها الداخلية، أما استمرارها بعقيدة القلعة، فهو تهديد جذري يحول دون أي تكامل طبيعي بين دول المنطقة على الشاكلة التي مثلت حضورا ذا ثقل ومركزية في العصور الوسطى.
الخلاصة، أن التجني على الشعب الفلسطيني يجعله شريكا في الجريمة التي ارتكبت في حقه، ويحيل إلى طريقة من التفكير الدائري الذي لا يمكن أن يخرج بأي نتيجة، ولكنه يستنزف الشعوب المهددة التي تطارد كبش الفداء الفلسطيني وتترك الذئب الصهيوني يعيد إنتاج نفسه المرة بعد الأخرى.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    الفلسطينيون مظلمون منذ 1948 عندما تم سرقة أرض فلسطين وتشريد وتهجير الفلسطينيين العام 1948 بدعم أمريكي بريطاني وغربي غادر حاقد جبان سارق لأرض فلسطين لحساب الشرذمة الصهيو نازية الفاشية الحقيرة التي زرعوها غصبا في قلب فلسطين والشرق الأوسط التعيس يا بئيس إنه استعمار بريطاني أمريكي غربي حاقد غادر جبان سارق لأرض فلسطين ✌️🇵🇸☹️☝️🌪️🐂🐒🌪️

اشترك في قائمتنا البريدية