نيويورك – «القدس العربي»: بدعوة من مجموعة «منتدى الشعب» ذات التوجهات اليسارية في مدينة نيويورك عرضت الفنانة الغزية ملك مطر مجموعة من لوحاتها التي رسمتها بعد طوفان الأقصى وحرب الإبادة على أهلها وشعبها في غزة. ومن بينها لوحة جدارية ضخمة تجسد حرب الإبادة في غزة، والتي أثار عرضها إمكانية تأثير لوحة غورنيكا لبيكاسو على تفكير وإبداع ملك عندما بدأت ترسم هذه اللوحة الكبيرة، والتي صنعت منها عدة مقاسات إلا أنها نفت ذلك «فلكل شعب خصوصيته وهويته وتجلياته الثقافية».
لقد أثرت أحداث غزة على ملك منذ فتحت عينيها عام 2000 لتشاهد مآسي القطاع عام 2008-2009، و2012 و2014 و 2018. بدأت تتعامل مع الريشة والأوراق نوعا من التكيف والتعبير عن الذات وانعتاقا للنفس من ضغط منع التجول والمجازفة بالمشي في الشوارع أو خطر سقوط صاروخ في ساحة المدرسة.
الانعتاق والحرية
خوف وقلق وضياع تصطدم كلها مع الأمل في الانعتاق والحرية والانطلاق نحو الذرى نتج عن هذا التصادم إبداعات منذ الصغر. ومنذ غادرت غزة لتدرس في تركيا عام 2018 وهي تلملم ذكرياتها في غزة وتحولها إلى لوحات جميلة تطوف بها الآفاق من تركيا إلى الهند ومن الولايات المتحدة إلى اسبانيا ومن إيطاليا إلى كوستا ريكا.
التقيت ملك مطر مرة أول مرة في معرضها في نيويورك في أغسطس/آب 2019 وكتبت عنها وعن نساء غزة اللواتي يظهرن في لوحاتها وأسئلة عديدة تقرأها بين الجفون، وعنونت المقال آنذاك «من غزة مع الحب – حكاية العيون الحائرة».
وهذه زيارتها الثالثة لنيويورك، وكان لا بد أن نلتقي في المعرض وأن نستمع إلى حوارها مع الجمهور الذي كان يملأ القاعة تماما حتى أن عددا من الحضور اضطر أن يبقى واقفا. كيف أصبح الفن مصدرًا للعلاج النفسي ونوعا من المقاومة ونقلا لصور المذابح التي ما فتئت ترتكب ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة هو موضوع الحوار الذي أجري في مقر «ملتقى الشعب» في وسط منهاتن. الفضل يعود في تعلقي بالرسم لسيدة فلسطينية فنانة اسمها هالة صالح، استشهدت في حرب الإبادة في غزة. تلك الفتاة ذات الروح الإيجابية التي لا تفارق الابتسامة محياها، لن أنسى دورها ولا كلماتها ولا تشجيعها لي. ليست معنا اليوم، ولكني أحملها في قلبي أينما أذهب. لقد جعلت مني فنانة. الفضل الثاني يرجع إلى عائلتي التي شجعتني أن أتابع طريق الفن. ولدت في عائلة تقدر الفن. والدي شاعر. أما عمي محمد مسلم فهو معلم وفنان وكان يدفعنا هو الآخر إلى السير في طريق الفن.
في عام 2006 ذهبت إلى المدرسة في غزة. الغالبية الساحقة من التلاميذ من أبناء وبنات اللاجئين. كل الطلاب يتحدثون عن سير آبائهم ومن أي بقعة من فلسطين ولدوا ثم كيف هجروا إلى القطاع. وفي عام 2008 كنت ذاهبا إلى المدرسة، كان عندنا امتحان في اللغة العربية. وبعد دقائق من بدء الدروس قال لنا المعلم احملوا حقائبكم وعودوا إلى بيوتكم. لقد بدأت الحرب.
كان الوقت في نهاية ديسمبر/كانون الأول والطقس بارد. بدأت الحرب واستمرت ثلاثة أسابيع. كنا ننام على صوت المدافع والقصف والطائرات. ونسمع عن ضحايا الانفجارات وأعداد القتلى ومدى الدمار. في هذا العمر الصغير تعرفنا على الحرب وقصص الأجساد المقطعة والبنايات المهدمة فوق رؤوس أصحابها. وعدنا إلى المدارس. ولم تتوقف الحروب. تعودنا على الحرب. مواجهات أخرى حدثت عام 2012. لكن الحرب التي كنت واعيا تماما أثناء حدوثها هي حرب 2014. كنت ابنة 14 سنة وكانت العائلة محشورة في البيت ومعنا عمي. بدأت أعمل سكتشيات لرسومات وكأنها خربشات فنية تعكس ما في داخلي خلال حرب طالت نحو 52 يوما.
أن تكون فنانا في غزة يعني أنك تقاوم. الفن شكل من أشكال المقاومة. كان نوعا من النضال للحصول على قماش «الكانفاس» وعلب الألوان والريشة. في غزة الحصول على أي شيء من هذا القبيل يحتاج إلى جهد واتصالات وعلاقات. فالمواد الأولية للفن معظمها غير مسموح لها بالدخول إلى غزة. وخاصة الكانفاس.
وفي عام 2021 انقطع الكانفاس تماما من غزة ومنع من دخولها. ولولا شخص استرالي يعمل في إحدى المنظمات الدولية استطاع تهريب الكانفاس من القدس إلى غزة لما استطعت انجاز عدد من رسوماتي. فغزة ليست كبقية الأماكن، الحصول على المواد أمر صعب، حتى التواصل مع العالم الخارجي أمر صعب. عام 2015 كنت أريد شحن لوحة من غزة إلى الولايات المتحدة عبر البريد وقال لي الموظف أنا لست مسؤولا عن وصول اللوحة، وإذا كانت اللوحة سياسية فسيتم مصادرتها. وأنا استغربت عندئذ «ما معنى لوحة سياسية». قيل لي لو أن اللوحة تتضمن صورة الكوفية أو ألوان العالم الفلسطيني فستخضع للرقابة. بدأت أفهم ما معنى الرقابة. عام 2016 كان هناك معرض مشترك مع فناني الضفة الغربية. سمح للوحات أن تمر لكن لم يسمح لي الانضمام إلى المعرض في الضفة الغربية. غزة كانت تحت الحصار. وكان من يأتي ويقول لنا لماذا لا تلجأون إلى المقاومة السلمية؟ فماذا نسمي الفن؟ وهل الرسم إلا مقاومة سلمية؟ كان من الصعب علينا أن نتواصل مع الفن في الخارج ومع الفنانين في الضفة الغربية.
في أحد الأحاديث مع عمي، قال لي إن ستوديو الرسم قد تعرض مرة للاقتحام من قبل القوات الإسرائيلية وكان يضم عددا كبيرا من اللوحات التي رسمها هو بالإضافة إلى عدد كبير من اللوحات لفنانين فلسطينيين وغير فلسطينيين، من بينهم لوحات لسليمان منصور، الفنان الأشهر في فلسطين.
فما كان من القوات الإسرائيلية إلا أن ألقت قنبلة داخل الاستوديو أدت إلى تدميره وكان من بين اللوحات واحدة لسيدة حامل، تعرضت لشرخ في بطنها بسبب القنبلة.
الوضع الفلسطيني
كم كانت تلك اللوحة معبرة عن الوضع الفلسطيني إثر الهجمات الإسرائيلية المتكررة. وقد أصبحت أكثر تصميما على إنتاج مزيد من الفن لأعاند الاحتلال وأقهره، لأن الاحتلال يريد أن يحطمنا جسميا ومعنويا، وكنت أرسم في بيتي والبيت يتعرض لهزات وأحيانا يتحطم زجاج النوافذ. وكنت مصممة على الإنتاج لأثبت أنني ما زلت حية وأقاوم الانهيار.
لقد نضجت ضمن ثقافة المقاومة، رأيتها بأم عيني: رسما وشعرا وكتابة ورواية. كنت لا أستطيع أن أهرب من عواطفي. النشيد الوطني كان يشحذ همتي، ورؤية العلم الفلسطيني يرفرف يدفعني للعمل أكثر وقراءة شعر محمود درويش تثير في نفسي سيلا من المشاعر. لو لم أطلع على لوحات تمام الأكحل وسليمان منصور ونبيل عناني واسماعيل شموط لكان هناك انقطاع بيني وبين رواد الفن الفلسطيني، لكن هؤلاء الفنانين ربطوا بيني وبين الواقع الفلسطيني من خلال الفن. وهذا هو الفن المقاوم الذي تعمل قوات الاحتلال على تدميره ومسح الهوية وقتل الفنان. ومؤخرا اعتقلت قوات الاحتلال الفنان أحمد طوباسي رئيس المسرح الوطني في جنين بدون أي سبب إلا لأنه فنان يريد أن يثبت هوية فنية لشعب تحت الاستعمار.
أسأل نفسي ما هو دور الفن خلال حرب الإبادة الحالية؟ الحقيقة أن الفن لا يستطيع وقف إطلاق النار ولا إنهاء معاناة الناس، لكنه يوثق الجرائم. كفنانة فلسطينية من حقي أن أتشبث بالرواية الفلسطينية وأحميها وأنشرها وأدافع عنها. فهذه اللوحة التي أمامكم عن مجازر غزة تقول كل هذا. إنها صرخة للتوثيق.