في لحظة ضبابية بين زمنين، وتحديداً في شهر مايو/أيار من سنة 1946 تدور أحداث الفيلم الإيطالي «غداً يوم آخر» حيث البلاد على عتبة الخروج من الفاشية، والانتخابات الديمقراطية على الأبواب مع C›è ancora domani انتشار للقوات الأمريكية في كل مكان. ستتعاقب مشاهد الفيلم بالأسود والأبيض، في إحالة إلى سينما الواقعية الجديدة، التي كانت سائدة في أربعينيات القرن الماضي عبر مخرجين كروسليني ودي سيكا. وكما كانت الوجوه حقيقية في تلك الأفلام بعيداً عن بروباغندا الفاشية، كذلك هي ديليا، البطلة الرئيسية في الفيلم، فهي من نوعية أبطال الحياة الصغار المنسيين، حيث تتفانى في دورها كربة بيت وأم لثلاثة أطفال، وتسعى جاهدة إلى السعادة، رغم الفقر المدقع والعنف المنزلي الممارس عليها من قبل زوجها أيفانو.
في المشاهد الأولى ستتبع الكاميرا ديليا، خلال رحلتها اليومية للقيام بالأشغال الصغيرة من أجل تحسين ظروف العائلة الفقيرة، تارة من خلال حقن الإبر للمرضى وتصليح المظلات، وتارة أخرى عبر رتق الثياب ونشر شراشف الأثرياء على السطوح. كل ذلك بعد أن تكون قد أتمت جميع واجباتها الصباحية المنزلية، وتلقت تحية الصباح على شكل صفعة، كطقس عائلي ورثه زوجها عن والده الذكوري المخضرم، الذي يطالب أيفانو بتخفيف وتيرة الضرب وليس شدته، كي لا تعتاد زوجته عليه. ومع أن ديليا تقوم يومياً برعاية الجد المريض، لكنها لا تسلم من عدوانيته وسلاطة لسانه، وبينما يحتل الجد الغرفة الأكبر في البيت، يتقاسم الأولاد الثلاثة غرفة واحدة. وفي الوقت الذي يغلق الأولاد الذكور الباب عندما تضرب الأم، وكأنهم يتحضرون لدورهم المقبل، في المجتمع الذكوري، تنتقد الابنة مارسيلا سلبية الأم، وتلومها على استسلامها للعنف كقدر لا مفر منه. وفي حين ترى الابنة في الزواج من خطيبها الثري السبيل الوحيد للهروب من جحيم البيت، تحلم ديليا لابنتها بمستقبل تنال فيه القسط الكافي من التعليم، وتحقق الاستقلال المادي من خلال عمل، يكفل لها المساواة مع الرجل بالأجور والحقوق. وستسعى ديليا طوال الفيلم إلى تحقيق حلمها في غد أجمل لابنتها، لا يشبه حاضرها.
المتمردة الصغيرة
كما يقال المظاهر خادعة، فخلف صورة الزوجة الخانعة لديليا، هناك متمردة صغيرة، تحاول دائماً أن تعثر على ممرات هروب سرية، للخروج عن الطريق الوعر والمحدد لها بدقة. حيث نشاهدها تتوقف طويلاً في السوق عند بائعة الخضار، صديقتها ماريسا، وتسخران معاً من كل المنغصات، وهما تنفثان معاً دخان السجائر على كل المشاكل، في زمن كانت السيجارة فيه رمزاً للتمرد والاستقلال. ونراها تتبادل حديث الإشارات مع الجندي الأمريكي الأسمر، ولا تمانع في أخذ ألواح الشوكولاته منه، كرد جميل على مساعدتها له في العثور على صورة عائلته المفقودة. ولأن الشوكولاته كانت تعتبر سلعة فاخرة ونادرة في زمن الحرب، ستتقاسمها ديليا حصرياً مع من تحب، بداية مع الأولاد، ثم مع العاشق السابق، صاحب ورشة تصليح السيارات، ولن تتجاوز مشاركتها للميكانيكي قطعة الشوكولاته، التي تحلي للحظة مرارة الأيام، أو لعلها ستذهب أبعد من هذا، وتهرب معه إلى الشمال، حيث فرص النجاح مضمونة. سيتركنا الفيلم حتى النهاية برسم السؤال، خصوصاً مع وصول ظرف غامض، تخبئه ديليا في أعماقها الدفينة، ولن نعرف محتواه حتى النهاية، لكننا نشعر بالأثر الكبير للمكتوب الذي يمنح ديليا الشجاعة كي ترمي كل شيء وراءها وتدافع عن غد أفضل، ليس بالضرورة لها وحدها.
بين الكوميديا والتراجيديا
رغم المواضيع الشائكة التي يعالجها الفيلم، من فقر وعنف منزلي وبلاد أنهكتها الحرب والفاشية، إلا أن الفيلم لا يقع في فخ الميلودراما، بل على العكس من ذلك يلجأ إلى الكوميديا، ربما لأن المخرجة بولا كورتيليزي، التي قامت بلعب دور ديليا أيضاً، قادمة من خلفية تمثيل كوميدية. فعلى سبيل المثال في مشهد الشوكولاته بين ديليا والميكانيكي، هناك تكسير لكليشيه المشاهد الرومانسية السينمائية، في الوقت الذي يبدو فيه العاشقان وكأنهما يحلقان بعيداً مع موسيقى حالمة، نراهما يبتسمان فجأة وتظهر آثار الشوكولاته السوداء على الأسنان البيضاء. وهي هكذا لذة الخطيئة، مرة وحلوة كما الشوكولاته. ولعل أكثر ما يميز الفيلم، هو الكيفية التي تم فيها تصوير مشاهد العنف بين الزوجين، حيث تتحول مشاهد الضرب إلى مشاهد راقصة. وبسبب هذه الخفة في تصوير العنف، تعرضت المخرجة إلى الكثير من الانتقادات، واتهمت بتجميل العنف المنزلي. لكن كورتيليزي دافعت عن رؤيتها الإخراجية، وبأنها لم تكن ترغب بإظهار العنف بصورته القاسية، التي يسهل على المشاهد تخيل ماهيتها، بل أرادت السخرية من المعتدي والاستهزاء به، في محاولة لتجريده من أسلحته ونزع أي سحر أو إبهار عن صورته. فعندما يرقص الزوجان ككناية عن الضرب، تدور في الخلفية كلمات أغنية رومانسية عن الحب الأبدي، وهل من سخرية أكثر من أن تعيش ديليا القبلة كصفعة، والضرب كرقصة مدى العمر.
بين الماضي والحاضر
يمكن اعتبار الفيلم توثيقا لحال المرأة الإيطالية في أربعينيات القرن الماضي، لم تستقه المخرجة وكاتبة السيناريو من المراجع فقط، بل من حكايا الجدات، اللواتي استطعن التحايل على ظروف الحرب القاسية، وجعل الحياة ممكنة. ورغم الفقد والجوع عشية الحرب العالمية الثانية، كن يكافحن بصمت داخل وخارج البيت، حيث لا صوت لهن في صناديق الاقتراع، ولا صوت لهن داخل جدران المنزل. ومن هنا يمكن اعتبار الفيلم بمثابة تحية واحتفاء بشجاعة الجدات ومقاومتهن للعنف الجسدي واللفظي، دون أن يمارسن عنفا مقابلا. ولعل شخصية ماريسا في الفيلم، صديقة ديليا، هي الاستثناء الوحيد في الفيلم، فهي تعيش علاقة سوية مع زوجها ويتشاركان العمل في سوق الخضار. وقد روت المخرجة كورتيليزي في أحد لقاءاتها عن سيدة مسنة، وقفت بعد عرض الفيلم، لتقول أمام الجميع: أنا كنت ديليا، ومثلي الكثيرات. ومعها وقف رجل آخر ليقول: أنا كنت الطفل، الذي كان يغلق الباب ويتظاهر بأنه لا يسمع صوت الصفعة على وجه أمه، ومثلي كثيرون. ولعل هذا يفسر الإقبال الكبير على الفيلم في إيطاليا، فالحكاية تشبه الكثير من حكايات العائلات الإيطالية، والقصة قديمة كقدم إيطاليا البطريركية، بالإضافة إلى أن الصدفة لعبت دوراً مهماً في زيادة شعبية الفيلم، فقبل العرض بأسابيع قليلة، تم قتل شابة إيطالية جامعية تبلغ من العمر 22 عاماً على يد خطيبها السابق. وكأن الفيلم جاء في اللحظة المناسبة، كي يحرض النقاش حول العنف ضد النساء داخل المجتمع الإيطالي، وتحت قبة البرلمان. ويحسب للفيلم المعالجة الحساسة لموضوع قاس وشائك كالعنف المنزلي، دون الوقوع في فخ المغالاة والوعظ الأخلاقي. وقد تمكنت المخرجة من خلال سيناريو مسبوك بذكاء، الانتقال بسلاسة بين الكوميديا والدراما حيناً، وبين الاستعراض والتشويق حيناً آخر. وفي مواجهة العنف الذكوري، الحاضر دوماً في إيطاليا، لم تتورع المخرجة عن استخدام كل أسلحة الفن كي تخلق فيلماً، يطرب كأغنية عذبة، تغنيها النساء وإن بلسان مقطوع.
تاريخ يصنع البداية
يمكن اعتبار الفيلم معاصراً، رغم أنه يتحدث عن فترة زمنية مهمة في إيطاليا، فرغم حصول النساء في إيطاليا على الكثير من حقوقهن، لكن العقلية الذكورية ما زالت حاضرة، وما زالت امرأة تقتل في إيطاليا كل 72 ساعة. ورغم خطورة الرقم، لكنه لا يقارن بعدد جرائم الشرف ووضع المرأة السيئ في بلادنا العربية.
المحزن في الأمر، أن المرأة السورية حصلت مثلاً على حق الانتخاب في سنة 1953، ليس بعيداً عن تاريخ حصول المرأة الإيطالية على حق التصويت في سنة 1946. لكن سيان اليوم بين وضع المرأة في سوريا ووضعها في إيطاليا، حيث وصلت سيدة إلى سدة الحكم، وأخرى إلى زعامة المعارضة أيضاً. وبالعودة تحديداً إلى تاريخ 2 مايو 1946، وهو التاريخ الذي منحت فيه المرأة حق التصويت في الاستفتاء على الجمهورية، أي منحت الحق في تغيير سياسة بلادها وأصبح صوتها لأول مرة مسموعاً في أروقة السياسة، هذا اليوم المهم سيحضر في الفيلم بداية بطريقة خجولة، لكن في النهاية سيكون حضوره مدوياً، ولن ندخل في التفاصيل، كي يبقى عنصر التشويق حاضراً. لكن لا مانع من الإشارة إلى مشهد ساحر في الفيلم، تمسح فيه النساء أحمر شفاههن قبل أن يغلقن مظروف الانتخاب، وكأنهن يطبعن قبلة عاشقة على الورقة، وهل يصح الحب إن لم يكن مصحوباً بحرية الاختيار.
بين الأم وابنتها
هذا الفيلم من نوعية الأفلام التي تهز المشاهد من الداخل، وغالباً لن يكتفي المرء بمشاهدته مرة واحدة، بل سيدعو الآخرين أيضاً لمشاهدته، من جهتي اصطحبت ابنتي لمشاهدته معي في المرة الثانية، ولمحتها بطرف عيني تمسح دمعتها في مشهد النهاية، دمعة اختلط الحزن فيها ربما بالفرح. كما يليق بفيلم درامي مصنوع بروح الفكاهة الإيطالية.
وفي النهاية أهدت المخرجة الفيلم لابنتها المراهقة، فقد ولدت فكرة الفيلم لديها، عندما كانت تقرأ لابنتها كتاباً عن تاريخ النسوية في إيطاليا، حينها لم تصدق الابنة الظروف السيئة التي كانت تعيشها المرأة الإيطالية في الماضي. لهذا يبدو الفيلم أشبه برسالة حب وتضامن بين الأم وابنتها، ولعلها رسالة خاصة تصلح لكل الأمهات وبناتهن. وأنا بدوري أهدي مقالي هذا إلى ابنتي، فالحكايات الأجمل هي التي تتناقلها الأجيال عبر الأزمنة، وهل السينما سوى خزان قصص وحكايات، وهل الأفلام سوى أحلام يقظة في صالة معتمة.
كاتبة سورية
شرح ووصف جميل.
عموما الطليان فيهم صفات جميلة كثيرة مثل العرب.
عاشرتهم في الغربة واعمل معهم.
نريد مزيدا من الكتابة عن أفلام جميلة دراما رومانسية من نوعية فيلم Goodbye Mr. Chips الجميل لبيتر اوتوول.