الفيلم المغربي «جمال عفينة»: كثير من التفكير… كثير من التجريب

التفكير في الشكل أو الأسلوب في الإبداع المغربي عموما، والسينمائي خصوصا، كان تفكيراً حذراَ، قياسا إلى حرية التفكير في المضمون، وقد نتج عن هذه القاعدة، التي يمكن تعميمها على الابداع العربي أيضا، توجهات تجريبية نادرة تُنسب لأصحابها، وليس لمرجعيات وتوجهات قُطرية أو وطنية، وعلى هذا الأساس فنحن لم نغادر قط نسبة الفيلم إلى صاحبه، كما لم نلج بعد نظرية الفن للفن. ومن الأسماء التي يمكننا أن نضيفها إلى لائحة من اختاروا التفكير في الشكل في السينما المغربية، نجد المخرج المغربي ياسين مَاركو مُوركو (1979) في فيلمه «جمال عْفِينة» (2018) الذي يسمح بالكثير من الكلام عن أسلوبه أكثر مما يسمح به عن مضمونه.
في الفيلم، سيكون مبدأ بأي طريقة أحكي، متقدما على مبدأ ماذا أحكي. «جمال عفينة» إذن، فيلم يأتي وكأنه قد انشغل كثيرا، وبشكل مسبق في تكسير جمود التفكير في الشكل، لذلك سنلاحظ لعبه بأوراق كثيرة، وطَرْقه أكثر من باب، وبحثه عن أكثر من سبيل، من أجل أن يحكي قصة جمال عفينة، شخصيته الرئيسية. ولعل السؤال مثار الخلاف في فيلم ماركو، أو غيره ممن انحازوا للشكل، هو طرق المعالجة – ولا يمكن هنا أن نتجاوز سينما هشام العسري – المعالجة التي يذهب بها البعض أحيانا إلى مكان قصي يصعب معه تحديدها، فهذا المفهوم المخاتل ليس له شكل واحد ولا طريقة تضمن الوصول إليه، المعالجة تتبع بالضرورة، رؤية المخرج وتفكيره في الفيلم، لذلك فالمواقف إزاء أفلام من هذه النوعية تتلخص في ثنائية الإعجاب والنفور، لا مكان وسط بينهما، وهذا ما يبرر كثيرا اختلاف النقاد حول أفلام من هذه الشاكلة، فتصير أحيانا عناصر الإعجاب لدى البعض هي عناصر النفور لدى البعض الآخر.


لا خط سردي واضح يلوح في أفق الفيلم، ولا حتى مع نهايته، على شاكلة أفلام نهاية العالم يختار الفيلم أن يبدأ قصته، ففي منطقة معزولة، بيئة لا خضرة فيها ولا حياة، سكان جياع ومهمشون، يقدم الفيلم هنا انطباعا بأن قسوة الفضاء الحاضن للحدث، هي على شاكلة أفلام الموت المحتوم، حيث لا منطق يسود إلا منطق القوة والقسوة والنجاة بأي ثمن. في هذه الأجواء يظهر «الرئيس» في دور لافت لعزيز داداس، الذي تشبه سيطرته على المكان سيطرة «جو الخالد» في رائحة جورج ميلر mad max fury road الرئيس يقدم برنامجا مشهورا عنوانه «الصباح القاتم»، وهو منبره لممارسة سادية من نوع خاص، فبمجرد اعتلاء منصة البث تبدأ فواصل احتقار المستمعين وتذكيرهم بأن نهاية العالم قريبة، هذه الشخصية الغريبة تستمد وجودها أساسا من تعذيب الآخرين، نشاطه الصباحي يبدأ بالمشي وسط جموع الجياع والعطشى وإهانتهم. هو نموذج لسلطة الديكتاتور والجلاد، لكن مصدر هذه السلطة غامض. الاستوديو الذي يقدم منه برنامج «صباح قاتم» غريب أيضا، هو منصته لتذكير الجميع بأنهم السبب في واقعهم القاسي، لكنه لا يجد حرجا من إبداء استغرابه من قدرتهم على تحمل هذه المهانة. صدفة غريبة تقود جمال عفينة إلى هذا المكان، وبينما يطلب الرئيس أن يتقدم أحد المتحلقين حوله ممن لديه الجرأة على مشاركة قصته مع المستمعين، شرط أن تكون جديرة ببرنامج «صباح قاتم»، يبرز من بين الجمع عفينة، الذي جاب العالم وقذفت به الحياة إلى هذا المكان القصي، لكن هي فرصة على أي حال! هنا بإمكانه على الأقل أن يحكي قصته قبل أن يموت، فيبدأ بسرد قصته الغريبة، التي تشكل في النهاية قصة الفيلم.

في سرد عفينة لقصته تبرز متعة الفيلم ولعنته، فهو يمزج بين الواقعي والخيالي، بالكثير من الجرأة والشجاعة، فنشاهد أحداثا واقعية تُستل من أحداث خيالية، وتصير تكملة لها ومرآة لعكسها.

سيذهب إلى كل الأماكن وسيقابل كل الناس، سيتذوق لحظات الفرح، وستنقلب عليه الأيام، يخدعه الناس، ويحسن إليه آخرون، سيزور كل الأماكن، بدون أن يستقر في أي منها، لا بداية لحكايته ولا نهاية لها، هي رحلة عن الحياة والموت، عن الخير والشر، عن الزمن و المكان والأرض، والنزاع والتسامح… الفيلم يقول كل هذا بسرد غرائبي لا متواليات حكاية فيه، ولا خط سردي ناظم، لكنه يبرز في النهاية حالة التشظي التي عاشها عفينة، الذي رمت به المصائر في كل الاتجاهات بدون إرادة منه. في سرد عفينة لقصته تبرز متعة الفيلم ولعنته، فهو يمزج بين الواقعي والخيالي، بالكثير من الجرأة والشجاعة، فنشاهد أحداثا واقعية تُستل من أحداث خيالية، وتصير تكملة لها ومرآة لعكسها.
يبرز المكان، وتتقدم عناصر التعبير في الفيلم، هناك تنوع كبير في الأمكنة، قد يوازي عدد المشاهد، لكنه يحضر في شكله المُعادي فقط، مع تواز تام متناغم أحيانا ومربك وغير منسجم أحيانا أخرى مع الزمان، في كل مشهد تقريبا هناك مكان تُقذف إليه الشخصية، ومع هذا التبدل المتسارع تتعدد معاناة الشخصية، التي لا يمكنك للحظة أن تجزم في يقين ما تحكيه أو تعيشه. في كل مرة كان الرئيس يستفز ذاكرة عفينة، تزيد جرعات ألمه فالجميع نبذه، في هذه الاستمرارية يعلي الفيلم من قيمة الصوت والصورة والحركة واللون. حتى نحس أحيانا أن الأمر غاية، وليس فقط وسيلة لبلوغ المرامي التي تخدم الفيلم عموما، يصير الفيلم عملا بصريا، لكن هذه الفكرة تصلك باستمرار، مُضيعة عليك فرصتك المتمهلة لاكتشافها. يقدم ماركو في عمله مسارات كثيرة لشخصيات تنتمي إلى الفضاء نفسه، لكن لا رابط بينها، وحتى عندما ينطلق حدث ما، ليس هناك ما يضمن انتهاءه أو مساهمته في صياغة حكاية الفيلم، فالقصة المعلنة هي حكاية جمال عفينة، لكن ما الجدوى من هذه الشخصيات، التي تعاني ضعف ما عانته هذه الشخصية، ما جدوى تعدد الأمكنة، إذا كانت المعاناة كلها ماثلة هنا. وكأن الفيلم يقول: إن الجميع يعاني وأن وراء كل منا حكايته، وعليه فقط أن يحكيها. ما المغزى أن تكون هذه المصائر معلقة ومسلوبة الإرادة، بدون رد فعل في مقابل صورة الديكتاتور، فرد الفعل الوحيد الذي ظهر هو الرحيل والفرار.. حتى مع فاصل المهانة المعتاد للرئيس، الذي يقول لهم مرة: «معرفتش منين جبتوا هذ قلة النفس.. الجفاف.. معندكمش قطرة ما وجالسين كتصفقوا…». لكن لا شيء تغير، هل يعني قدوم شخصية غريبة لا تملك شيئا ذا قيمة غير حكاية غريبة، تغيرا في الأفق؟ فمع رواية عفينة لأحداثه كان الرئيس يتعاطف، يتفهم ويتفاعل، الحكي كان يقوم بوظيفة العلاج لهذا الطاغية، كما حصل تماما في كتاب «الليالي».
تقنيا يصعب ـ مع العمل الكبير والمميز الذي قام به طاقم الفيلم- اعتبار أي عنصر لوحده مزية للفيلم، هو كل مركب، لكن لا يمكن أبدا، تجاوز مختلف مصادر الصوت التي راهن عليها المخرج كثيرا، كل مصدر كان بإمكانه إحداث صوت انتقل إلى الشاشة، حتى صار أحيانا زائدا عن الحد، أو فوق ما يحتمله الفيلم، لكن أيضا بدون أن يبدو ذلك غريبا عن فيلم قدم نفسه منذ البداية ثائرا في وجه التعبيرات السينمائية السائدة.
التجريب في فيلم «جمال عفينة» بلغ مرحلة قصوى، وهنا منبع الخلاف بين من اعتبره حالة غير متحكم فيها على نحو جيد، بلغت حد التكلف، ومن اعتبر المخرج قد استطاع خلق نموذج فيلمي ملائم لتفكير فني فيه الكثير من الاشتغال الواعي بأدواته. هو أحد أجمل أفلام السنة، وأكثرها عناية بالأسلوب، أكثرها بحثا في دهاليز لغة السينما، وخلخلة مفاهيمها وعدم الركون منها إلى الجاهز، هو مغامرة تستحق الإشادة، وتجعل الجميع يترقب ما سيقدمه المخرج كي يعزز الأحكام عن مُنجزه هذا، سواء في الاستمرار في لعبة التجريب أو سلك طريق آخر.

٭ ناقد سينمائي من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    سطور ادا سمحت عيون المنبر شكرا من يمشي وراء ظل السينما يرى العجب في كل لحظة فهي لاتتوقف عن العطاء الجيد جيد من مخرجيه وممثليه والناقص من مخرجيه وممثليه كدالك بين قوسين ليس خروج عن هد ا الموضوع الفني التحليلي اقترحنا على المخرجين بان يأخدوا صورهم من الشوارع فافيها صورا متنوعة ومختلفة.* فالصورة التي رسمت من اجلها هده السطور من طرف الناقد الكاتب المحترم اجتماعية ونفسية كدالك هروب من حياة الى حياة اجمل واسعد السينما المغربية لازالت تمشي ببطئ فالوصول للقمة لايكون بالسرعة لاتوقف وانما ببطئ وحدر .

  2. يقول بلي محمد من المملكة المغربية:

    عودة للمنبر منبر القدس العربي لكن هده المرة لاعن السينما المغربية أعادة الرسالة الشمسية التي رسمناها وهد ا ليس ببعيد وبلغة الفن لازلنا ننتظر من سيدنا الملك التفاتة انسانية وهي كدالك النظر لقضيتنا الشخصية فهي ليست مثل القضايا تختلف شكرا للمنبر

اشترك في قائمتنا البريدية