القابلية للاستحمار!

وأنا أستقصي أزمة من أزماتنا على مستوى العقل، ورد هذا العنوان سهوا، لكن استطعمته بعد أن أمعنت فيه التفكير، ودخلت في دوامة أسئلة وتغميم (من غمامة) فكري، متسائلا عمّا يمكن أن يجمع بن نبي إلى علي شريعتي، فـ»القابلية» تعود إلى مصطلح بن نبي «القابلية للاستعمار» و»الاستحمار» مصطلح لعلي شريعتي، وكلاهما يُسقطان المفهومين على وضع الإنسان العالم ثالثي المطحون تحت الآلة الغربية بقابليته وباستحماره، لأنّ المعنى الأول وجدته عكس «الاستعداد» فلو قال مالك بن نبي «الاستعداد للاستعمار» لكان هناك خلل في بنية المفهوم، فالاستعداد زمني لحظي وابن راهنه، بينما «القابلية» زمنيا، تعبير عن تراكم تاريخي تتشكل من خلاله الذّات المستلبة القابلة لأن تكون مفعولا بها.

أعود لأتأمّل المعنى في العنوان، ثم أقول هل يمكن الجمع بين الفارسي الشّيعي والعربي السنّي في دوائر فكر تنويرية، تلك التي أدّت بمالك بن نبي إلى أن يكون مفكّرا يستهدف البناء ومشكلات الحضارة، وراح علي شريعتي في ظلالها يبعث روح النضال وترسيم حدود الثورة لمقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي، فكان المنظّر والأب الفكري للثورة الإيرانية. يبدو أنّ الجدران السّميكة للأبعاد ما زال مفعولها قائما في وعينا، لأنّ قراءاتنا لم تصل بعد إلى الجمع بين المشاريع الفكرية، التي يمكن أن يتم البناء عليها إنتاجا لشكل المدرسة والاتجاه والتيار، بحيث تتأسّس الرّؤى ويكون لها وزن النظرية والمفهوم والمعنى.

عندما أصدر الجابري مشروعه في «نقد العقل العربي» بدأ بـ»تكوين العقل العربي» (1982) ثم «بنية العقل العربي» (1986) وألحق ذلك بـ(العقل السياسي العربي) وأخيرا (العقل الأخلاقي العربي). تعرّض في كتاب البنية إلى مصطلحات البرهان والعرفان والبيان، وأكّد الجابري على عقلانية ابن رشد المغربي في مقابل عرفانية ابن سينا المشرقي، وهو ما حذا ببعض القراءات إلى الرّبط بين تاريخ إصدار بنية العقل العربي، وظروف نجاح الثورة الإيرانية ومعاداة الخليجيين لها لعلاقتهم بالشاه، بمعنى التوظيف السياسي لرؤية الجابري اليساري الفكرية والمعرفية في نقد العقل العربي، فالمعروف أنّ أوّل رئيس لإيران كان أبو الحسن بني صدر القومي الذي كان متأثرا بتجربة محمد مصدق الرئيس اليساري الديمقراطي الذي دبرت الولايات المتحدة انقلابا ضدّه، وبعض الفصائل اليسارية التي أقصيت بعد ذلك، فهل كان الجابري في حاجة إلى هذا الالتفاف حول الفكر والتأمّل النظريين، وهو يشرّح ظاهرة العقل العربي في مستويي الفعل والحقل المعرفيين، وهنا يطرح السؤال في ما إذا كان الجابري أيديولوجيا محنّطا بالفكر اليساري وهو يخوض تجربة إنجاز المشروع حول «نقد العقل العربي»؟ أم كان معرفيا يحاول أن يستفسر ويتساءل حول كل ما يحيط الظاهرة من عوامل وظروف وأسباب ظاهرة وخفية، تأخذ تأويلاتها البعدية وتؤثر في المتلقي، الذي يحاول فهم الظاهرة انطلاقا من منجز الجابري واستمرارا في رؤية خاصة، كما فعل بعد ذلك المفكر جورج طرابيشي في «نقد نقد العقل العربي». فعرفانية المشرق لا تعني البتة القطيعة في الفصل بين حدّين جغرافيين، لأنّ التكامل هو أصل الفصل في الأشياء في حالة الحضارة العربية الإسلامية، وهذا لا يعني أيضا أنّ رؤية الجابري غير قابلة للنقاش.

إنّ وعي المعرفة لم يكن في أي مرحلة من مراحل القراءة الفكرية اعتباطيا، لكنه كان مركّزا ومركزيا في دائرة الاهتمام بظاهرة ما تصب في ما هو الجامع بين جغرافيا الوعي وتاريخ الجغرافيا ذاتها، وقراءة بعض الوعي العربي لما أنتجه الجابري قد يكون حاسما في مراسيم جنازة اللقاء المنتظر للعربي المحتضر.

إنّ وعي المعرفة لم يكن في أي مرحلة من مراحل القراءة الفكرية اعتباطيا، لكنه كان مركّزا ومركزيا في دائرة الاهتمام بظاهرة ما تصب في ما هو الجامع بين جغرافيا الوعي وتاريخ الجغرافيا ذاتها، وقراءة بعض الوعي العربي لما أنتجه الجابري قد يكون حاسما في مراسيم جنازة اللقاء المنتظر للعربي المحتضر، فأن يكون ما أنتجه الجابري عين الفكر الاستشراقي الذي فتح إدوارد سعيد النّار عليه، لأنّه قسّم العالم العربي مغربا ومشرقا، والجابري بهذا لا يمكن أن ينتقد الاستشراق لأنّه ابن البنيوية والفوكوية في عملياته الحفرية، وبالتالي هو ليس رشديا. إنّ رؤية كهذه لمشروع الجابري تطفئ أي بصيص من شعاع يوجّه إلى أماكن الخلل، فالفكر الاستشراقي ينطلق من المركزية الأوروبية، والجابري يكسّر منطقها باعتبار تبيئة المصطلح والفصل في التابعية الفكرية الممنهجة للوعي التاريخي الأوروبي، وفتح جرح مكمن «القابلية للاستحمار» في الذّات العربية المستلبة، مستعينا بريجيس دوبري ومصطلح «اللاشعور السياسي» لكن بحمولة مفهومية عربية، لأنّ المجتمع العربي ما زالت العلاقات الاجتماعية فيه قائمة على العشائرية والقبلية، وهو حالة من حالات التّفكير الجابراوي، في كيفيات تشكل الأنماط السياسية من خلال «اللاشعور الجمعي» بتعبير يونغ، مخزّنا روافد التجربة الإنسانية منذ النزوع الأول، وهو ما يؤثر في «اللاوعي السياسي». إنّ الاعتماد على الرّشدية والسّيناوية في تحليل ظاهرة العقل العربي باعتباره نموذجا معرفيا يضرب فكرة الاستشراق في الصّميم، لانفصال مسارات العالم وتعدّدها عكس ما تطرحه الحداثة من أنّ العقل يتحقّق في التّاريخ بمفهوم هيغلي، وأن العالم يسير مسارات واحدة.

قطع حبل توارد أفكاري تَذَكُّر ما كنت قد قصدته من هذا العنوان ابتداء، وهو صورة شيخ الأزهر في الطائرة وهو عائد من رحلة علاج في ألمانيا، ويظهر على ما يشبه الرف الصّغير على جانبه الأيسر كتاب «أفول الغرب» للمفكر المغربي حسن أوريد. لم يصدّق التنويريون والعلمانيون خبرا، ومنهم طبعا خالد منتصر الذي تهكم في تغريدة على شيخ الأزهر متسائلا عن الكتاب الذي يقرأه وهو مستقل الطائرة الأمريكية، ولو أفل الغرب لعدمنا قرص دواء وسوف لا نجد طائرة نعود فيها!

طبعا هذه هي «القابلية للاستحمار» التي أراد كل من بن نبي وشريعتي إنقاذ الذّات العالم ثالثية المستلبة منها، لأنّ خالد منتصر لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب، ولو اطلع عليه لعرف العمق الفكري وبعد النظر للكاتب في تحليل الأزمة التي حلت بالعالم، وسببها الرأسمالية وتبدّت مظاهرها منذ الأزمة المالية في 2008، ولانكشف له وعي فضيلة الإمام أحمد الطيب الذي تخرّج من جامعات الغرب، ويكفي أن نرى مثله قارئا وبيده كتاب، لأنّ مجرّد ذلك يمثل ملمحا حضاريا لمن له مثقال ذرة من بصيرة أو وعي. الكتاب أوّلا صدر بعنوان «مرآة الغرب المنكسرة» عام 2008، ووقع بين يدي ناشر لبناني ورغب في إعادة نشره لكن بعنوان مختلف، وهو «أفول الغرب» وصدر عام 2018. الكتاب ليس الأول ولن يكون الأخير حول أفكار أو مواقف تنتقد «الغرب الذي خان القيم التي دعا إليها» بتعبير أوريد، وهذا ما كان يقصده إذ تبيّن له بعد بحث في الأزمة المالية 2008، أن أسبابها متشعّبة وأنّ آثارها بالضرورة تنعكس علينا، فأفول الغرب ليس بالمعنى السطحي الذي تبدى للتنويري خالد منتصر، الأفول بمعنى نقد الوعي الغربي القائم على التسليع والاستهلاك وتفكيك بنيات التفكير الغربي والرأسمالية المتوحشة التي اعتمدت المادة بناء لهيكلها الوجودي، متخلية عن كل ما يمت للبنية الأخلاقية بالمفهوم السلوكي، متبنّية «أخلاق السوق» المتساوقة مع الرّبح والاستغلال، حتى بول كينيدي في كتابه «على أعتاب القرن الــ 21» يرى أن النموذج الأمريكي استهلاكي في مقابل إنتاجية النموذج الياباني، ومتفكك أخلاقيا.

«القابلية للاستحمار» هي عدم تكليف الإنسان نفسه بالاطلاع على ما كتب حول ما يريد التحدث فيه، فـ»أفول الغرب» westlessness كان من ضمن محاور مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2020، وكان حاضرا في كتاب الاقتصادي الفرنسي كلود ألبير «رأسمالية ضد رأسمالية» 1991، وكتاب ثارثولستر «رأسا لرأس» 1992، الذي «يميّز بين النموذج الأوروبي والنموذج الأمريكي الذي يراهن على المقامرة» وكتابي جوزيف ستيغليتز: «نهاية الوهم» 2002، و»حينما تفقد الرأسمالية رشدها» 2003.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د . وليد محمود خالص:

    مقال مهم ، وموضوعي للأستاذ عبد الحفيظ بن جلولي ، أثار فيه نقطة في غاية الأهمية ، وهي التي تكاد تصبح ظاهرة ، وهي التحدث عن قضية ما بلا قراءة أدبياتها ، ووثائقها . ومنذ مدة بعيدة ، قرأت تصريحا للراحل الكريم الدكتور عبد المنعم تليمة ، يؤكد فيه أن النقاد لا يقرأون ، بل يصدرون أحكامهم اعتمادا على السماع ، والأقاويل ، وها هي هذه الظاهرة تستشري لتشمل غير النقاد أيضا ،. أفول الغرب لحسن أوريد كتاب مهم يستحق القراءة ، والدرس

  2. يقول فضيل الجزائر:

    أكثر من رائع، شكرا أساتذتي!

  3. يقول الشهيبات مولاي يوسف:

    التحية والتقدير
    مقال ممتاز غني بالمعلومات مستفيض بالمراجع.
    ولهذا شأن كبير في غنى بلاد الجزائر.
    سبق لرفع هذا التحدي مالك بن نبي و اللائحة طويلة.
    لهذا فالنظرية الثقافية العربية والعقل العربي الإسلامي لا زال مندهش بالغرب وتقدمه وواقع العالم العربي المزري على كافة الصعد.
    لازلنا ندور حول نفس السؤال الذي طرحه رفاعة الطهطاوي و الأمير أرسلان. لماذا تقدم الغرب و تخلف المسلمون.
    لكن لا يكفي للجوال على ذلك السؤال بالقول ان الغرب في طريقه إلى الأفول ونصبح غذا و نجد أنفسنا بفعل عصا سحرية قد أخذنا مكانه وأصبح سادة العالم الجدد.
    الطريق للتقدم لازم يمر حتما من التعليم و الصحة و الديمقراطية و الشغل .
    والا لا فائدة من تقرير ان الغرب سيأفل قريبا.
    لأننا سنباغت من طرف النمور الاسيوية والصين سباقة للجوال عن سؤال لماذا تقدم الغرب بل الاحرى كيف تقدم الغرب.

اشترك في قائمتنا البريدية